اتفاقيات الخليج لن تنجح… ستفشل كما سابقاتها… ستنهي خلط الأوراق وتضيّق الخيارات وتعمّق الفرز وتسرّع الحسم
محمد شريف جيوسي
سأخالف قناعتي ربما لأول مرة، وأتعامل مع اتفاقيتيْ الإمارات والبحرين على أنهما مجرد اتفاقيتي تطبيع مع المستعمرة الإسرائيلية وليس اتفاقيتي خيانة… وأناقشهما من زاوية احتمال وجود حسنات حقيقية لهما، وليس كما وصفهما الرئيس التونسي سعيّد اتفاقيتين خيانيتين، فالتطبيع بحسبه إعادة الأمور إلى طبيعتها، فيما الإتفاقيتان ذهاب بالأمور إلى غير طبيعتها مع عدو هجّر نحو نصف الشعب الفلسطيني بالقوة والإرهاب، واحتلّ أراضي عربية وارتكب المذابح والمجازر باعتراف مؤرّخيه. واغتصب وهدم القرى والمعالم والبيوت والأضرحة وسرق الآثار وجرف الأراضي الزراعية وحرق المزروعات ودنّس المقدسات وحوّل ملكية بعضها له بطرق ملتوية، وأفقر المواطنين الفلسطينيين الذين بقوا على أرضهم، ومارس التمييز العنصري ضدهم، وأسر عشرات الآلاف من الفلسطينيين والسوريين واللبنانيين والأردنيين والمصريين وتركهم فريسة الأمراض، بل وأمرض أيضاً زراعات من ائتمنهم على زراعته كموريتانيا.
سأتعامل مع الاتفاقيتين على أنهما اتفاقيتا تطبيع للعلاقات مع «إسرائيل» بمعنى المفردة الإيجابي: إعادة الأمور إإلى طبيعتها، وبالتالي فإنّ إتفاقيات كامب ديفيد مع مصر ووادي عربة مع الأردن وأوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية كانت جميعها (إعادة للأمور إلى طبيعتها).
ولكن ما مدى صحة أو اقتراب المفردة من حقيقتها؟ نستذكر الترويجات التي رافقت توقيع هذه الاتفاقيات وما سيترتب عليها من الازدهار والمساعدات والتقدم التكنولوجي والتقنية والاستثمارات وما كان يطلق عليه «حسنات السلام»، إلى حدّ أنّ منظّرين وكتاّباً تخصّصوا في ذلك، وخال بعض العامة لكثرة ما ضُخ من إعلام ترويجي، أنّ حسابات مصرفية ستفتح لهم في المصارف، وقد ضُمنت أرصدة لحياة رغدة مستدامة!؟
لكن ماذا كانت النتائج في مصر والأردن وفلسطين.. على كلّ الأصعدة، لقد أصبحت المديونية والفقر والبطالة أكبر والحريات أضيق… وفلسطين أصبحت أسوأ بمرات عن السابق ما لا يجهله أحد.. حتى أصبح حال ما قبل أوسلو؛ أمنية فلسطينية تُرتجى.
هذا في بلدان مجاورة لفلسطين المحتلة (إسرائيل) يُفترض أن يكون تحقيق حسنات السلام معها أيسر حالاً.. فما عقدته مصر والأردن والمنظمة مع «إسرائيل» كان معاهدات سلام، وليس مجرد تطبيع واتفاقيات مع المستعمرة الإسرائيلية، التي على مبعدة آلاف الكيلومترات.. ما يستدعي الكثير من الجهد لحصاد حسنات الاتفاقيات إنْ وجدت بالنسبة للإمارات والبحرين، حيث انّ هاتين الدولتين لا حاجة لهما بالمستعمرة.
فيما لـ تل ابيب حاجات فيهما وفي مجمل الخليج.. ليس أقلها البترول… فالسوق الاستهلاكية.. والاستثمار فيهما. فضلاً عن كون إيران على مرمى حجر من الخليج، إيران التي تعزز من قوة الدولة الوطنية السورية ومن المقاومات الفلسطينية واللبنانية والعراقية، وهي أعمال في مجملها تشكل خطراً وجودياً على المستعمرة، فيما ستصبح هذه الكيانات بنتيجة الاتفاقيات في عين العاصفة، ذلك أنها جعلت من المستعمرة محادة لها مباشرة.
لا تشكل إيران الشيعية الفارسية خطراً على الخليج ولا على سواه (على الأقلّ قبل توقيع الاتفاقيات) صحيح أنّ لها طموحات مشروعة كأيّ دولة في التقدّم وفي فتح أسواق جديدة وعلاقات استثمارية وفي نشر اللغة الفارسية بأبجديتها العربية كما فرنسا وبريطانيا وإسبانيا والبرتغال والصين وروسيا وألمانيا وغيرها، وكلها تعمل على نشر لغاتها وثقافاتها…
أكرّر ما أقوله دائماً إنّ الوجود الإيراني في العراق هو نتاج التخلي العربي عن العراق بعد احتلاله سنة 2003 واعتراف الجامعة بسلطة المندوب السامي الأميركي بريمر عليه، والشرخ الذي حدث بين إيران والعراق هو نتاج التحريض الغربي الأميركي والرجعي العربي للدولتين العراق وإيران، للاقتتال على مدى 6 شهور، وهما يرفضان ذلك، إلى أن تورّطا ووقعت الحرب.
كان الغرب يأمل ان لا تنتهي الحرب.. حتى تأتي على كليهما أو انْ لا تنتهي بتفوّق أحدهما.. كان الإعلام الغربي قبل انتهاء الحرب يقف الى جانب العراق، فلما انتهت لصالحه تحوّل ضدّه دون أن يقف الى جانب إيران، فكان استدراج العراق بدخول الكويت، كمقدمة لاحتلاله سنة 2003 من قبل أميركا وبريطانيا بدعم من عشرات الدول التابعة، وبتسهيلات مطارات وأجواءٍ كان يُفترض أنها (صديقة)، وحيث كان واضحاً أنّ الحرب وشيكة ضدّ العراق، خاطب الرئيس د. بشار الأسد (القادة العرب) قائلاً: إن كنتم لن تقفوا الى جانب العراق فعلى الأقلّ لا تقفوا ضدّه.
لقد خاطب الرئيس الأميركي الأسبق أوباما؛ المسؤولين السعوديين وهو خطاب يصحّ على جميع المسؤولين الخلايجة، بأنّ إيران لا تشكل خطراً عليكم.. ولكن ابحثوا عن الخطر في أنظمتكم.. وبالتاكيد فإنّ أوباما ليس شيعياً ولا فارسياً ولا عميلاً لإيران ولا متشبّعا بالحضارة الفارسية ولا الثقافة الإيرانية وليست له مصالح استثمارية يريد تنميتها هناك، لكنه كان أقرب إلى الخليج ومصالحه الحقيقية، هي في حلّ مشكلات أميركا الاقتصادية بتريلونات المال الخلايجي.
إيران ليست معنية بالتشيّع، قولاً واحداً، وما يُقال عن ذلك هو نوع من التهجيس والهروب الى الأمام، وتنفيذاً لأجندات معادية علم أو لم يعلم، ولتخويف المتعصّبين المذهبيّين من البسطاء وأتباع ابن تيمية والوهابية والاخونيين والقاعدة والنصرة وداعش وبوكو حرام وشباب الصومال الخ… وأضرابهم من التفريخات، ولو أنّ إيران معنية بالتشيّع، لشيّعت 20 مليون إيراني سني لديها.. ذلك أوْلى بها وأيسر حالاً.
إيران دولة براغماتية تبحث عن مصالحها أولاً ومنها تحرير فلسطين، ذلك أنّ تحريرها يفتح لها الأبواب المغلقة في الدول الإسلامية كافة ويعظّم مكانتها دولياً… لذلك هي تدعم الفصائل التي تقاتل المستعمرة الإسرائيلية بغضّ النظر عن مكوناتها المذهبية وعما إذا كانت لها صفة عقدية أو عربية وقومية أو يسارية،
ثمة مؤشر رابع؛ علاقتها سيئة مع أذربيجان الشيعية التي تقع على جزء من الهضبة الفارسية، فيما هي علاقات جيدة مع أرمينيا المسيحية قوية.
ثمة مؤشر خامس، علاقاتها مع تركيا السنية جيدة على كل الصعد، وتنسق معها ومع روسيا المسيحية الأرثوذكسية في الملف السوري.
بهذه المعاني وهذه الأدلة فالمسألة ليست حرب مذاهب وقوميات.. الفرس جيران للعرب منذ ظهور الحضارات والتاريخ وكانت العلاقات معهم بين مدّ وجزر.. والخلافات والتناقضات معهم يمكن حلها بالحوار، هي ليست خلافات وجودية كما المستعمرة الإسرائيلية الطارئة على المنطقة، التي زرعها الغرب وفق مخطط مدروس لإشغال المنطقة واستنزافها بالصراعات والحروب والاحتلالات للخلاص من اليهود في أوروبا من جهة، ولسرقة ثروات المنطقة والإستيلاء على أسواقها واستخدام ممراتها البرية والجوية والمائية وتزييف حضارتها وتشويهها، ولتحقيق أحلام كهنوتية تلمودية وإنجليكانية أميركية لاحقة.
والمنطق أنّ من يريد منافسة إيران وأخذ مكانتها، عليه استلهام تجربتها، وتعزيز قراره المستقلّ وتنظيف نظامه من التبعية، واستمداد دعم نظامه من شعبه، وإعادة النظر بمجمل نهجه السياسي والاقتصادي والاجتماعي، فما زال هناك بقية من وقت، والعمل على تحرير فلسطين ودعم المقاومات وليس محاربتها وليس مصالحة المستعمرة المسماة «إسرائيل».
أقول إنّ تجارب العالم مع اليهود غالباً لا تؤشر إلى حفظهم العقود والعهود، كما أنهم خرقوا اتفاقيات الهدنة الأممية مراراً، وخرقوا القرارات الدولية، ومنها تلك التي قام كيانهم بموجبها، ومارسوا التجسّس على الدول التي عقدوا معها الاتفاقيات منذ توقيع معاهدة كامب ديفيد، كلّ ذلك يؤكد أن نتائج اتفاقيتي الإمارات والبحرين وما قد يستجدّ بعد، لن تكون أحسن حالاً مما سبقها، بل أشدّ سوءاً، ذلك أنّ تل ابيب بما هي عليه من صلف وعنجهية وتحدٍ للشرعية الدولية وللعرب، ستستمرئ المزيد من التحدي والخروقات والتآمر.
إنّ هذا كله، سيضيّق الخيارات أمام الشعب الفلسطيني وأمام محور المقاومة ومسانديه عربياً ودولياً، ما سيشدّ من أزر المقاومة، بأشكالها كافة، كخيار وحيد لا بديل عنه. وسينهي الخلط الحاصل في الأوراق جراء الأزمات الاقتصادية والسياسية المتفاقمة إقليمياً وعالمياً، وجراء وباء كورونا، سيعمّق الفرز الأقليمي، ويسرّع الحسم…