خلفيات وأبعاد الصراع الدائر حول تركيبة المحكمة العليا
د. منذر سليمان وجعفر الجعفري
حالف الحظّ الرئيس دونالد ترامب بمنح ولايته الرئاسية فرصة ثالثة لتعيين قاضٍ لدى المحكمة العليا على قياسه وإرضاء جمهوره المحافظ، بعد أن غيّب الموت القاضية «الليبرالية» روث بادر غينسبيرغ.
وعلى الفور ثارت ثائرة الحزب الديمقراطي ومؤيديه وبعض المستقلين، لحرمان الرئيس من ممارسة صلاحياته، نظراً إلى ضيق الفسحة الزمنية بسبب موعد الانتخابات الرئاسية، وخصوصاً أنّ سلفه الرئيس الديمقراطي باراك أوباما واجه واقعاً مشابهاً، ورضخ لمطالب الحزب الجمهوري بتأجيل ترشيح القاضي الليبرالي ميريك غارلاند إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية.
حقيقة الأمر تكمن في ما يعيه الطرفان، الديمقراطي والجمهوري، بأنّ معركة النفوذ على تركيبة المحكمة العليا، السلطة الثالثة في النظام السياسي، هي معركة ممتدّة ودائمة منذ ما يزيد على 60 عاماً، لما تتمتع به من نفوذ «مستقلّ» لترسيم السياسات والتوجهات الداخلية والخارجية على السواء، وتأثير ذلك في الأوضاع الاجتماعية والسياسية بشكل مباشر.
يُشار إلى أنّ المحكمة العليا شرعنت العبودية في ذلك الزمان البعيد، بموجب تفسيرها بنود الدستور، وحرمت السكان الأصليين من ملاحقة انتهاكات الحكومة الفيدرالية لتعهّداتها لهم، وتراجعت عن مسألة العبودية بعض الشيء، لتواجه تحديات العصور التاريخية المتتالية، وتصطفّ في بعضها إلى جانب القضايا العادلة للمرأة وحقوق الأقليات، تسجل تحيّزها الفاضح إلى جانب السلطة السياسية في قضايا مصيرية قريبة زمنياً، وخصوصاً في ما يتعلق بالمهاجرين وبناء الجدار العازل على الحدود المشتركة مع المكسيك.
يعود تاريخ «التحوّل» في وجهة المحكمة العليا إلى عهد الرئيس الأسبق دوايت أيزنهاور، بتعيينه القاضي الليبرالي إيرل ووران رئيساً لها، برفقة 8 قضاة آخرين يميلون إلى التوجهات الليبرالية أيضاً، ودرجت وسائل الإعلام على وسمها بـ «محكمة ووران»، لدورها المميّز في التصدي لمسائل التفرقة العنصرية وتقييد نفوذ الحكومة الفيدرالية في الحياة اليومية للمواطنين وقضايا أخرى.
من بين أبرز القضايا التي تناولتها «محكمة ووران»، قرارها المميّز في العام 1962 باعتبار أداء الصلوات الدينية في المدارس والمعاهد العامة «غير دستوري»، لانتهاكه الحريات الفردية، تلاه قرار آخر في العام التالي يعتبر «قراءة الإنجيل أو أداء الصلوات» في تلك الأماكن منافياً للدستور.
قوى اليمين في المجتمع تلقّت جملة ضربات منذئذ، وخصوصاً مع بروز «حركة الحقوق المدنية» ونضالات السود طلباً للمساواة في المجتمع الأميركي، لكنها كانت تُعِدّ لقفزة لاحقة بتؤدّة وتأنّ، جسّدها المرشح اليميني عن الحزب الجمهوري باري غولدووتر في العام 1964، مطالباً وأقرانه اللاحقين بضرورة تعيين قضاة «محافظين» في المحكمة العليا. ونجح الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون بتعيين المحافظ ووران بيرغر رئيساً للمحكمة العليا، تلاه الرئيس ريغان بتعيين قضاة محافظين. ولاحقاً، مال ميزان القوى لصالح التيار المحافظ مع تعيين القاضي «الكاثوليكي اليميني» انتونين سكاليا.
القاضي سكاليا لعب دوراً كبيراً في رسم السياسات العليا للبلاد، وخصوصاً في علاقاته الوثيقة مع نائب الرئيس الأسبق ديك تشيني. ولعلّ الأهمّ من ذلك راهناً أنّ المرشحة من قبل الرئيس ترامب، آيمي كوني باريت، عملت كمساعدة لسكاليا، وتشاطره التديّن على المذهب الكاثوليكي، وتعتبره قدوة لها في توجّهاتها.
المثير في سجلّ المرشّحة باريت مدى قربها من مؤسّسات فكريّة يسيطر عليها اليمين المحافظ، أبرزها «فيدراليست سوسيتي Federalist Society»، برئاسة ليونارد ليو، المكلف من قبل الرئيس ترامب «مراجعة وتصفية سجلات المرشحين للمناصب القضائية»، علاوةً على ارتباط المؤسّسة ورئيسها بكبار مموّلي التيارات اليمينية، الأخوين كوك Koch Brothers. وقد نجحت المؤسسة في فرض خياراتها مرتين خلال ولاية الرئيس ترامب، بتعيين كلّ من القاضيين نيل غورسيتش Neil Gorsuch وبريت كافانو Brett Kavanaugh.
للدلالة على خطورة توجّهات تلك المؤسسات والقائمين عليها، تناولت بعض وسائل الإعلام «الدور المحوري لوكالة الاستخبارات المركزية ومركز الإعلام الكاثوليكي – اوبس دي Opus Dei» أو «عمل الله»، الذي أسّسه القس الاسباني بالإسم نفسه في العام 1928، وينتسب إليه وزير العدل الحالي ويليام بار.
من ضمن المعلومات المتوفرة عن تعاون المؤسّستين المذكورتين، بالإضافة لمصرف تشيس مانهاتن ووزير الخزانة في عهد الرئيس نيكسون – ويليام سايمون، ثبوت تمويل «سي أي آي» لمؤسسة رديفة لـ «أوبس دي» في تشيلي، إبان رئاسة ويليام كولبي للوكالة، عرفت باسم «معهد تشيلي للدراسات العامة»، والتي لعبت دوراً بارزاً في الانقلاب العسكري على الرئيس المنتخب سلفادور اليندي، «ونال عدد من أعضاء المعهد مناصب وزارية» في حكومة العسكر بزعامة اوغوستو بينوشيه (تحقيق صحافي مطول لأسبوعية «مذر جونز «Mother Jones، عدد مزدوج تموز/ آب 1983).
علاقة ما تقدّم بالمرشحة لمنصب المحكمة العليا، آيمي كوني باريت، تأتي للدلالة على أنّها لم تأتِ من فراغ سياسي أو بموجب أهليتها الأكاديمية، كمحاضرة جامعية في جامعة نوتردام الكاثوليكية، وولائها المعلن لتراث قدوتها انتونين سكاليا، أو تميّزها المهني كقاضية في محكمة الاستئناف الفيدرالية للدائرة القضائية السابعة، وهي التي عيّنها الرئيس ترامب في ذلك المنصب في العام 2017.
سجلّ باريت العملي يتميّز بالسطحيّة، إذ مارست مهنة القانون في القطاع الخاص لمدة سنتين فقط، «ولم تتقدّم بالمرافعة أو استئناف قضية ما، ولو لمرة واحدة، كما لم تجادل أمام المحكمة العليا في أيّ قضية» طيلة حياتها المهنية، بخلاف زملائها الآخرين أعضاء المحكمة العليا.
يجمع المراقبون والاختصاصيون في القوانين الدستورية على أنّ تيار اليمين المتطرف الأميركي أضحى قاب قوسين أو أدنى من تحقيق «حلمه التاريخي» في الانقلاب على قرارات المحكمة العليا السابقة: إعادة ترديد الصّلوات الدينية في المدارس العامة، إلغاء قرار حرية المرأة باختيارها وحقّها في الإجهاض، المعروف بقضيّة Roe v Wade، والتّراجع عن المكاسب التي حقّقتها الأقليات، وخصوصاً السود في أميركا.
يضيف أولئك الخبراء أنّ الولايات المتحدة تقف أمام تحدّ غير مسبوق «منذ ترشيح القاضي الليبرالي الأسود ثيرغود مارشال Thurgood Marshsall في العام 1967»، بترؤس المحكمة شخصية لم تناصر الحقوق المدنية خلال طيلة حياتها العملية، في إشارة إلى المرشحة باريت، بل تسود الخشية من قرارات المحكمة المقبلة «بشرعنة استمرار بناء الجدار العازل» مع المكسيك. الرئيس الأسبق جورج بوش الإبن استبدل بمقعد مارشال في المحكمة العليا اليميني المتطرف كلارينس توماس، الأكبر سناً بين أقرانه ويتمتع بامتياز المفاضلة.
التحدي الأكبر قضائياً في المرحلة القريبة يكمن في تراجع سيطرة الحزب الديمقراطي وتياره الليبرالي في تراتبية الولايات المتعددة، ومحاصرته من قبل القضاة المحافظين في المستويات الأولى من المحاكم، بموجب نفوذ الحزب الجمهوري ومناصريه في المراتب المتعدّدة في الولايات، وخصوصاً في السلك القضائي برمّته.
انعكس ذلك جلياً بعزوف قادة الحزب الديمقراطي في مجلسي الكونغرس عن مقارعة منافسيهم في الحزب الجمهوري، الذي يحظى بأغلبية مريحة في مجلس الشيوخ، وانعدام القدرة على تحدي القرارات المصيرية التي أعدّ لها «اليمين المتطرف وتيار الانجيليين» جيداً منذ زمن، ويتأهّب لقطف ثمار جهوده حتى بغياب الرئيس ترامب عن المشهد السياسي، كما يرغبون.
من بين المسلّمات السياسية في أروقة الكونغرس، مراهنة قادة الحزب الديمقراطي على تعديل قرار «بعض» زملائهم الجمهوريين معارضة ترشيح الرئيس ترامب لباريت، وبناء حسابات عليها، عقب إيماءات مشجّعة من عضوين في مجلس الشيوخ، سرعان ما عدَلتا عن ذلك، إضافة إلى منافس الرئيس ترامب الدائم، السيناتور ميت رومني، الّذي أكد تأييده ترشيح قاضية محافظة، على الرغم من عدائه المعلن للرئيس ترامب.
محورية الترشيح قبل الانتخابات لا تغيب عن ساسة واشنطن والعامة على السواء. التوقعات المرجّحة للانتخابات تشير إلى تشبّث الرئيس ترامب بموقفه المناهض للنتائج المخالفة لإعادة انتخابه، ما يُحيل المسألة إلى المحكمة العليا للبتّ بها، أسوة بما حصل بين المرشحيْن جورج بوش الإبن وآل غور.
حينئذ ستكون موازين القوى وقرارها في المحكمة العليا محسومة سلفا، 6 مقابل 3. أما في حال تعادل مستبعد في القرار 4 مقابل 4، قبل المصادقة على المرشحة باريت، فستزداد رقعة التعقيد في المشهد العام، وستؤدّي الولايات عبر حكامها دوراً مركزياً في إقرار الفائز.
ضمن التّوازنات الراهنة، يحظى الحزب الجمهوري بأغلبية 26 ولاية، تُضاف إليها ولايتان إضافيتان قد تؤيدان توجّهاته. فالقرار النهائي، بموجب الدستور والأعراف، هو صوت واحد لكلّ ولاية تنحاز إلى جانب الأغلبية البسيطة التي تحابي الحزب الجمهوري بجلاء.