عار الدولة الكافرة
} نضال القادري
قبل انكسار الروح، كنت صبياً يحترف الأمل. كانت حذاقتي فنّ التعلق بمستقبل جميل. وفي كلّ مرة أنفي أن أكون كافراً بالفطرة، أيقنت أنّ ضلالي كبير، وأنّ هذه الدولة مثلي كافرة، وأنّ تناسلها من خرز المحاور الفاجرة إلى أرحام مذهبية ليس مآلها الأخير. ولن يكون. وأنّ سقوط الفكرة اللبنانية على طفولتنا كانت مراهقة أولى لطبيب خطاء! من أولئك الذين يزيدون على تعاستهم حظاً بائساً خلال عملية تشريح جثة ما في العناية الفائقة. هي حقاً عناية فاقعة بتلاشيها وهشاشة عظامها وقلة حيائها ودمها. مات «كيان الإيمان» بالضربات المكررة القاضية. بات من أضاحي أعياد الجلادين المتعالية وأفراحهم المتكابرة.
كيف يموت كيان أخضر بالكامل في عقر داره، ولا تقوى رعيانه الخائبة حتى على نفخ أمصال الحياة في الوريد، ونموت كلنا ممدّدين على «مرقد العنزة» الخالدة؟! نعم يموت الكيان عندما نسمّم مضجعه بقواميس الجهالة الدستورية ومصطلحاتها الفارغة، ونولي أدران القوم على رقابنا أمراضاً تسرطن ولا تشفي، والأرخون من بني الجهالة يسوق رعايا المثقفين إلى المعالف الفارهة! هذه البلاد مقبرتنا الكبيرة. هذه البلاد مقبرتنا الأخيرة. هذه البلاد تقتلنا بجوعها الشهي كوجبة موت فاخرة. هذه البلاد مرذولة. ولحسبي لن نترقّى في حجرها المكنون لنصير مواطنين من الدرجة العاشرة.
لا تحدّث صديقاً عاقلاً فيها عن نظام العشائر الفدرالية، أو لوياجيرغا الوحل المذهبي التي تساق في أسواقها عبيد الذاكرة. لا تحدّث عدوك فيها عن حياد، وحياد الإيجابي، وتحييد، وحياد ناشط. لعمري، كلها من أولها لآخرها وصفات موت رخيص مؤجّلة. الموت أن تترك قلبك مخلعاً مفتوحاً على كلّ دنس، وألا يدخل في رئتك إلا استفراغ المذاهب القاتلة. الاحترابات المذهبية ساحات يعلوها غبار الأنبياء والرسل، وأديان غبّ الطلب جائرة. كلّ طرقات البلاد وعرة. نمشي في جنازاتنا المؤجّلة أرقاماً تلمع على جداريات الموت. الموت رخيص في كبد البلاد، ويُقال إنّ بيت الشعب يطلّ على محيط جهنّم. جهنّم ليست بيتاً واحداً! شعوب بأوطان كثيرة. يا لعارنا، وبئس المصير… بئسنا!
إنّ سقوط الفكرة اللبنانية يأتي بالتقادم. وجمهورية لبنان الكبير دفنت من أوّلها لآخرها في جورة عميقة من مفاسد الولاة، ومباضع الطباخين والقادة لم تعد تطال قلبها، وبات خيار القوم من طالبي «الدبس» من على مؤخرة الأعداء. الأعداء عائدون إلينا من حظائر الطاعة بعد ممارسة مراسم الحجّ إلى «التطبيع» من منازلنا الكثيرة، ولا حياء لمن تنادوا للصلاة على قبورنا وأرقامنا، وعظامنا الهشة.
في ذكرى وفاة فقيدنا الغالي لبنان الكبير، حبّذا لو ترك الرعاة الصالحين على أديم البلاد وقفة عز واحدة تبقي «مرقد العنزة» صرحاً للفكر الحرّ، ولا تقيّد فينا ثورة أو نهضة. الحياد الأكبر جهاد روحي أكبر، وثقافي يعي الهوية الوطنية ويقدّر مصالحها العليا، ولا يختلط فيه التديّن بسياسات البلاد وإدارتها العامة، ولا يتدخلن فيه أيّ مدبّر للشؤون الروحية في شؤون الإدارة والقضاء. في بلادي، قدر الطوائف أن تتقاسم الغبن. أما الشغف إلى التفوّق فنوستالجيا تتوّج فيه الشطارة الفئوية إلى تقيّئها في كلّ مناسبة. فئة شغوفة إمارة تريد «المثالثة»، وأخرى ضالة تريد «المداورة»، وبيك يستجدي اختراع مجلس الشيوخ، وشيخ مخلوع عن ظهر الحكومة يتجرّع «السمّ» ليفتدي به انتداباً فرنسياً، وكما زعموا «مبادرة».
في عام 1973 خاطب الإمام المغيّب موسى الصدر صاحب الغبطة البطريرك الماروني بطرس خريش قائلاً: «إنّ قلب المسيح يفرض عليك الخروج إلى الساحة وإطفاء النيران وإنقاذ الوطن». في زمن «الحياد الناشط»، سياسياً قام البطريرك «الراعي» بما عليه القيام به وقدّم فكرة ميتة على صحن المبادرة. هي محاولة لردم كومة من الأفكار «الأجنبية»، ووجبة كيدية وقعت منه في جورة من فشل يتنامى ويكثر بين جنباته خزّ الأجندات السياسية ومحاورها المتقافزة. أستدرك القول إنّ الأهلية «المسيحية» لحمل المبادرة التي يمكن أن تتحوّل إلى «نداء تاريخي» غير صالحة زمانياً. التاريخ هنا لا يخدم الجغرافيا. في عجقة الشلل أراد «الراعي» وحيداً أن يثبت أنه «صاحب القرار المسيحي» وأن يركب موجة «الثورة»! جيوبولتيك فكرته لا تخدمها محاولة استنساخ الدور التاريخي للبطاركة الحويك وعريضة وخريش وصفير! هو عبثاً يحاول. عبثاً يزيد على خرابنا حريقاً إضافياً لن يوصل إلى درب الجلجلة. لا أدري إنْ كان بوسع «الحياد الناشط» أن يهبط وحياً. رباه! ماذا لو التبس علينا نزوله من على متن «طائرة مسيّرة» تشهق وتزعق وتشهد على عدوانيات «إسرائيل» السافرة. في حمى «الحياد الناشط»، ونحن نقدّم بحرنا الإقليمي قداس فداء على نية السفن العائمة، تعوم جثث أطفالنا الآيلة من مراكب الهجرة غير الشرعية. ونحن الشرعيون لون الأرجوان حدودنا على البر بدماء الشهداء، ألا ليتنا لا نئن موتاً على أرخبيل هذه البلاد الكافرة. نحن شهود جمهورية جهنّم الكبيرة، وكما يقول الشاعر: «حمر الدلائل مهما أهلها كتموا».
إنّ الاشتباك المذهبي الذي يبثه «الباعة المياومون» بات الكلّ مدركاً أنه يستهدف مؤسسة «المقاومة» بجناحها التنويري القومي. والدعوة إلى الحياد أو التحييد أو الحياد الناشط، وما تيسّر من الألفاظ المبللة بترفنا الناشط، هي تحرير القرار اللبناني وركله إلى حظيرة التطبيع مع «الإسرائيليات» العربية، وإيداعه غرفة العناية للانخراط بورشة تكسير المقاومة. إنّ قرار اللعب على حافة الهاوية السياسية في ظلّ صراع الإرادات لا يخدم الإسلام المشرقي برسالتيه المسيحية والمحمدية. وإنّ محاولات «فكّ الشرعية من أسرها»، يتقصّد فيها تحرير رئاسة الجمهورية من «تفاهم مار مخايل» بضربة مباغتة، ووضع ألغام مذهبية على طريق «مار مخايل» المتعثرة التي أشبع طرفاها مولودهم إفراغاً من روحه بفعل ضربات الجزاء على رأسه حتى صارت الندوب فيه نافرة.
في البلاد التي أنعم الله علينا فيها بالعسل واللبن والبخور والأرز والتبولة، أتخمتنا قوى الجاهليات المعاصرة فيها بمعاجم الدبلوماسية لرجال احتموا في سراديب التديّن وقاولوا في مسارب السياسة. حبّذا لو فصلت الديانات عن السياسات فصلاً روحياً وإنسانياً. ليس في الفصل تنابذ أو محاباة أو مكارهة. الله فكرة شاملة. ليست النظرة إليه ومعرفته شأناً قومياً. ولا حدود محبته ومعرفته والتضرّع إليه تتداخل أو تشتبك لتكون كرة نار تلهب الجيوبوليتيك المشرقي. شأن العلاقة في محبة الله شخصية، أما إدارات الدولة فليس من شأنها أن توالي مشروعاً رعوياً لاهوتياً، ولا يفترض أن تكون الإدارة فيها مؤمنة أو كافرة. ولا تقاس الكفاءة بالتديّن، ولا الفساد بعدم العرفان أو بالعدمية.
أختم رسالتي؛ أقرّ وأعترف بكليتي أنّ تقوقع الأفكار لا يجدي. والقفز بالمعتقدات في البرك الضحلة يلوّن الجهالة ولا يجليها. العقل نور السماوات، وقد اختبرت على الأرض أنّ كلّ حياد يجلب فتنة. لا حياد بين الحق والباطل في صراع الأمم. وأنّ الأمم التي تتقلص على نفسها حتى الانقباض لا تقول رأياً صائباً يغني، وفي حالات الإفلاس القصوى لا تدّخر لعزّ البلاد فلس الأرملة.
*مركز الدراسات المشرقية