الإقتصاد المنتج يبدأ من كنف الدولة
} د. بياريت فريفر*
يعيش لبنان أزمةً اقتصاديةً لم يسبق له أن شهد مثلها، فقد استطاعت أن تشرّح المجتمع وتظهر هشاشته في حماية أبنائه من الفقر والبطالة والهجرة. وتظهر أيضاً أقليّة من التجّار المتحكّمين في الأسواق ينظرون إلى الإنسان على أنه حفنةً من المال لينقضّوا عليه ينهشون لحمه غير مبالين بأوجاعه الجسدية والمعيشية.
أمام هذا الواقع، الذي يزداد مرارةً يوماً بعد يوم في ظلّ تراشق الاتهامات بين المسؤولين السياسيين وإفلاس حلولهم التي عادةً ما يجب أن تحظى برضىً طائفي مطلق ورضىً خارجي دوليّ، لا زال، بإمكان الدولة أن تتّخذ مجموعة إجراءاتٍ وإصلاحاتٍ تنقذها من أتون هذه الأزمة وتجلب لها الكثير من العائدات المالية.
تتمثّل أولى تلك الإجراءات وتعتبر الأهمّ على الإطلاق، التشدّد في المراقبة والمحاسبة عبر تفعيل الأجهزة الرقابية والتشدّد في تطبيق القوانين ومحاسبة الفاسدين. كما لها أن تعمل على إعادة هيكلة القطاع العام واعتماد الحوكمة، وتنظيم مهامه، إذ يعتبر القطاع العام أداتها في تنفيذ أدوارها الاقتصادية والاجتماعية والمالية… لذا، عليها إنشاء دائرة تعنى بالتدقيق الداخلي لكل إدارة عامة ومراقبة تنفيذ مختلف المهام المطلوبة بشفافيّة مطلقة.
كما لها أن تعمد إلى إلغاء الرواتب لكل النواب والوزراء والرؤساء السابقين دون استثناءات وتحويل تلك المبالغ إلى بنودٍ تنفق على تنمية البنى التحتية على كامل الأراضي اللبنانية. وهكذا، فبدل أن يكون “التزفيت” من مهام النائب “الانتخابية” يتكرّم بها على أبناء منطقته من أموال الدولة، تقوم هذه الأخيرة بأدوارها الإنمائية دون منّة من أحد، على أن يتمّ حصر مهام الرؤساء والنواب والوزراء بالعمل التشريعي والتنفيذي وتطوير سياسات الدولة.
وفي ما يختص بالقطاع الزراعي، يمكن أن تعمد الدولة إلى تقسيم الأراضي التي تملكها إلى حيازات تؤجّر لصالح من يريد من المواطنين ومن متقاعدي القوى المسلّحة في لبنان من أجل استثمارها، على أن تشتري الدولة المحاصيل وتبيعها في الأسواق المحلية والعالمية. هذا الأمر من شأنه فرض منافسة في الأسواق ومنع التجار من التحكّم في الأسعار وكسر الاحتكارات التي يفرضونها. ومن جهة أخرى، تجني الدولة أموالاً مباشرةً من ثمن الإيجارات بالإضافة إلى أنها تلعب دور التاجر من خلال بيعها للمنتجات وحصدها للأرباح لصالح الخزينة. من خلال هذه الخطوة يمكن للدولة أن تفعّل دور التعاونيات الزراعية والغذائيّة على الأراضي اللبنانية كافة لبيع المنتجات اللبنانية بأسعارٍ تنافسيّة.
كما لها أن تعمد إلى تشريع زراعة الحشيشة لأغراض طبيّة دون سواها، وتملك بمفردها حصرية التصرّف بها وبيعها وتصديرها إلى الخارج. هذا الأمر من شأنه أن يؤمّن لها سيولةً في العملات الصعبة، كما من شأنه أن يفسح المجال أمام التوسّع في صناعة الأدوية المحلية.
لا يقف الأمر عند تشريع زراعة الحشيشة لأغراض طبيّة، بل أيضاً التشجيع على الزراعات النوعية وليس الزراعات التقليدية. فبدل أن يزرع الفرد ليأكل شهراً أو شهرين من محصوله في السنة، عليه أن يخطط باستدامة الإنتاج وتخفيض دورته، وذلك عن طريق استعمال التكنولوجيا والتقنيات الحديثة، واختيار زراعات نوعيّة. فعلى سبيل المثال، يستورد لبنان كميات كبيرة وبمبالغ طائلة البذور والشتول بغية زراعتها في مواسم معيّنة تغرق السوق بمنتجاتها فلا يستفيدون منها إلا لفترةٍ وجيزة. في حين أنه ينبغي العمل على إنتاج تلك البذور بغية تلبية الطلب المحلي وتصديرها إلى الخارج.
وعلى صعيد القطاع الصناعي، وما يمثّله هذا القطاع من أهميّة بالغة في تعزيز أرقام النمو الاقتصادي، يمكن للدولة أن تسير بإجراءات عديدة لها أن تعزّز الإنتاج الصناعي اللبناني. فمثلاً يمكن أن تبادر إلى عقد اتفاقيات دولية ترمي إلى استيراد مواد أولية بكميات أكبر وبأسعار أدنى بكثير من تلك التي تستورها الشركات والمصانع لإنتاجها، وتقوم الدولة ببيعها دون أن تبغي الربح لصالح تلك الشركات لمتابعة إنتاجها. من شأن هذا الإجراء أن يخفّض من تكلفة المواد الأولية الأمر على الشركات، وبالتالي بيعها بأسعارٍ تنافسية في الأسواق المحلية والخارجية.
ولِمَ لا! أن تعمل بجدّية على تأهيل المساجين في السجون، وذلك عبر تدريبهم على صناعات يحتاجها المجتمع اللبناني ويفتقد لها. هذا الأمر من شأنه أن يؤهّل المساجين ويعدّهم كي لا يكونوا مهمّشين في مجتمعهم بل يمتلكون مهنةً تمكّنهم من الاستثمار والعمل. بالإضافة إلى ذلك، من شأن الدولة أن تبيع الإنتاج في الأسواق المحلية كما تصديرها وتحقيق أرباح، خصوصاً أن هذا الإجراء يمتاز بكلفة إنتاج متدنية نظراً لانعدام أجرة اليد العاملة.
بعيداً عن الإنتاجات الزراعية والصناعية، يمكن للدولة أن تعمد إلى تطبيق إجراءاتٍ أخرى من شأنها أن تعزّز مجتمعها وتنمّيه. فقد تبادر إلى فرض مبلغ وبالدولار الأميركي يُدفع شهرياً من قبل كلّ رب عائلة من اللاجئين وخصوصاً العاملين منهم يعود لصالح البلديات التي يقطنون في نطاقها. مع العلم أنّ هؤلاء يحصلون على مبالغ ومساعدات شهرية من جمعيات ومنظّمات محليّة ودولية بالإضافة إلى الأعمال التي يشغلونها في لبنان بحيث يشكلون ضغطاً إضافياً على اليد العاملة اللبنانية لأنها أقلّ أجراً، وهم لا يتكبّدون تلك النفقات والضرائب التي يخضع لها اللبنانيين. فبالإضافة إلى حماية العامل اللبناني، تسعى هذه الخطوة إلى تحصيل مبالغ لصالح البلديات التي يمكن أن تستخدمها في دعم العائلات الفقيرة، تحسين بناها التحتية، ودعم المستشفيات الحكومية والمدارس الرسمية الواقعة ضمن نطاقها.
ومن ناحية أخرى، عليها أن تسعى إلى إعادة تفعيل خدمة العلَم ولكن بمضامين مختلفة عمّا كانت عليه في السابق، بحيث يطلب من الإناث كما الذكور، المتعلّمين وغير المتعلّمين الالتحاق بها. تهدف هذه الخدمة إلى تعليم غير المتعلّمين على حِرف وصناعات وسبل الإنتاج والاستثمار، بينما تنحصر مهام المتعلمين في إعداد الأبحاث التي من شأنها أن تطوّرهم كأفراد وكمجتمع. تحمل هذه الخطوة فوائد عديدة على الفرد وعلى المجتمع أيضاً بحيث تعدّهم لكي يكونوا منتجين وبالتالي تخفّف الانحرافات الاجتماعية التي يولّدها الفقر والبطالة.
كما لا يمكن التغاضي عن السعي إلى تصدير النفايات إلى الخارج بدل تكديسها في الشوارع أو طمرها في مطامر أضحت جبالاً “من مناظر لبنان الخلّابة”. فكثيرة تلك الدول التي ترى في النفايات “مناجم ذهب” قادرة على أن تحوّلها إلى طاقات تستفيد منها شعوبها. في المقابل، يستفيد لبنان من ناحيتين، الأولى تتمثّل بالمحافظة على البيئة ونظافتها، والثانية بدخول مبالغ مالية لصالح الخزينة.
كثيرة هي السياسات والإجراءات التي يمكن أن تعتمدها الدولة اللبنانية للخروج من الأزمة الاقتصادية التي تمرّ بها، وهذه المجموعة من الإجراءات لها أن تساعدها على حصد الأموال والعمل على تأهيل المجتمع الذي أظهر هشاشته وضعفه في الاستثمار والإنتاج واعتماده على ريعيّة الاقتصاد المتمثّل في قطاع الخدمات وتحديداً الخدمات المصرفية والتي فقدت مصدقيتها في عيون المواطن اللبناني، ومن ثمّ السياحة التي بدورها وقعت ضحيّة وباء “كوفيد 19” من جهة، وضحيّة الاضطرابات السياسية والأمنية التي يتخبّط بها لبنان من جهة أخرى. فلِمَ لا نتوقّف عن البكاء ونحشذ هممنا إلى العمل المجدي؟
*أستاذة جامعية