الأمين موسى مطلق إبراهيم يكتب عن الأمين عبدالله قبرصي
الأمين موسى مطلق إبراهيم
كانت علاقتي بالأمين موسى مطلق إبراهيم (الشاعر، الباحث، الطافح بمناقب الحزب)، شديدة واستمرت حتى آخر لحظات حياته.
كنتُ أتابع مواقفه الصلبة في الأسر، وخاصة عندما أُصيب بداء السرطان فواجهه بجرأة نادرة تحدث عنها الأمين د. عبدالله سعاده في مذكراته «أوراق قومية»، ثم ترافقنا في الكثير من المسؤوليات، كانت أولها عندما كنتُ رئيساً لمكتب عبر الحدود، أتواجد باستمرار في أول مركز للحزب تم استئجاره بعد العام 1969 في منطقة الزلقا – كنا، رئيس مجلس العمد – عميد الداخلية الأمين كامل حسان، عميد الدفاع الأمين خليل دياب، ناموسه الرفيق نبيل رياشي(1)، المسؤول عن الطباعة المركزية الأمين موسى مطلق إبراهيم ومدبرة مركز الحزب، والدة الرفيق صلاح قهوجي(2). منذ ذلك التاريخ لم أنقطع عن الأمين موسى مطلق، ولم ينقطع. لذا، فإني كثيراً ما أتذكره، وأستعيد تلك المسيرة الطويلة في مركز الحزب، وأسجل، وفاءً، أنه كان مميزاً بالمناقب القومية الاجتماعية.
مؤخراً اطّلعت على ما كان نشره في «البناء» بتاريخ 17/4/1982 حول كتاب الأمين عبدالله قبرصي «عبدالله قبرصي يتذكر».
في المناسبة، نسجّل تقديرنا لجميع الأمناء والرفقاء الذين تركوا للحزب مذكراتهم أو سيرهم ومرويّاتهم ومعلوماتهم المفيدة لتاريخ الحزب، فهذه تبقى لتاريخ الحزب ولأجياله، داعين أمناء ورفقاء تولّوا مسؤوليات حزبية مركزية و/أو محلية، وكانت لهم مسؤولياتهم، وحضورهم في مسيرة النضال القومي الاجتماعي، إلى أن يتركوا للأجيال مذكرات ومرويات ومعلومات تفيد تاريخ الحزب.
ل. ن.
* * *
حول كتاب «عبدالله قبرصي يتذكر»
في كتاب الأمين عبدالله قبرصي «عبدالله قبرصي يتذكر» استوقفتني محطات عدة للتأمل والاعتبار، فبالإضافة إلى أنه رافد هام لنهر تاريخنا الحزبي، هذا التاريخ الذي سيكون في يوم آت، تاريخ الأمة الجديد، فإنّ معايشة صاحبه لهذه المسيرة الممتدة على مدى خمسين عاماً، وهو ما يزال عاملاً في صفوف الحزب الأولى، تعطي ذكرياته عن مسيرة الحزب قيمتها التاريخية، كما تعطي شخصه المتذكر قيمة نضالية مناقبية أخلاقية ترفعه قدوة مضيئة لجميع المؤمنين العاملين.
لقد اختاره الزعيم المؤسس منذ أيام التأسيس السريّة الأولى عميداً للإذاعة، فكان بذلك واحداً من هيئة القيادة، وهو حتى هذا اليوم، بعد مرور نصف قرن، ما يزال، كما كان منذ التأسيس، واحداً من هيئة القيادة، وهذا الثبات والحضور الدائم له في موقعه من الصفوف الحزبية، هذه الصفوف التي ما كانت يوماً، ولن تكون، قوالب جامدة، فما أكثر ما تحقق فيها القول المأثور: الأولون يصبحون آخرين، والآخرون يصبحون أولين، هما شهادة له أبلغ من كلام. نعم، فهو كان، منذ كانت النهضة، في طليعتها الأولى وما زال، وهذا شرف تشرئبّ إليه النفوس كما تشرئب إلى المثل العليا.
أولى هذه المحطات التي تدعو للتأمل وأخذ العبرة، هي كثرة هذه الأسماء التي سرعان ما انطفأت في أفق النهضة، والنهضة لمّا تزل فجراً في مخاض البزوغ. فالعبرة في هؤلاء أنهم أقبلوا عليها وساروا على دربها ولم يتخففوا من أثقالهم، التي ما كانت النهضة إلا لتحررهم منها، فما ساروا فرسخاً أو فرسخين، حتى ناؤوا تحت وطأة هذه الأثقال، فانتحوا جانب الدرب وقعدوا. تلك الدرب التي رفعت على مدخلها لافتة عظيمة، مكتوب عليها بأحرف قانية، أنها: «لا يثبت عليها إلا الأحياء وطالبو الحياة». وختمت هذه الأثقال على قلوبهم وعلى سمعهم وأبصارهم، فما عاد يبلغها نداء النهضة: «كلّ من تقاعس عن الجهاد فقد أخّر في سير الجهاد».
وثاني هذه المحطات، هي أخذ العبرة من هذا التدرّج في النضال، يقول الأمين عبدالله قبرصي بكل صراحة المؤمن وتواضع القائد: «لنقل الحقيقة كان الخوف قد استولى علينا، كنا من حملة الشهادة الابتدائية في النضال». ويقول أيضاً: «ونمنا على الأحلام السود، كانت الليلة الأولى من ليالي الجلجلة من المشوار الطويل، مشوار النضال والألم والتضحيات».
ويقول أيضاً: «في الخطوة الأولى، تعثّرنا، تعلّمنا، تذمرنا، ضعفت نفوسنا، كدنا أن ننهار». فهو في هذه الصراحة المتواضعة يعلّمنا بالقدوة أنّ الشجاعة والثبات والصبر، هي أمور نتعلّمها بالممارسة. فلا يمكن لمن لم يتعرّض للخوف أن يدّعي الشجاعة، ولا يمكن لمن لم يتعرّض للقلق والألم أن يدّعي الثبات والصبر.
إنّه يقول لنا، لقد تعرّضت لهذا كله، خفت، وتعثّرت، وتذمرت، وضعفت نفسي، ولكنني في الممارسة المستمرة للشجاعة والثبات والصبر، انتصرت على التعيّر والضعف والخوف. وها أنذا، بعد خمسين سنة، ما أزال مكاني في طليعة الصفوف، عاملاً بقول المعلم: «مارسوا البطولة ولا تخافوا الحرب بل خافوا الفشل».
وثالث هذه المحطات، محطة التدرّج في المسؤولية، فهو يقول لنا: «فأصبحت في تشرين الأول سنة 1936 رئيساً لمجلس العمُد، ثم أُقلت بسبب خطأ إداري ارتكبته». ويقول كذلك: «أما مجلس وكلاء العمد، فلم يفلح برئاستي كثيراً، لم أكن طوال حياتي الحزبية قد مارست العمل الإداري. كانت خبرتي ناقصة، لذلك لم تنجح التجربة».
إنّه يقول لنا من خلال ذلك، إني لم أولد في الحزب مسؤولاً ناجحاً، كما ترونني الآن، لقد حبوت كالأطفال، وتعثّرت في خطواتي الأولى، ولكنني في الأخير، بعد طول تمرّس ومراس، انتصبت على قدمَين راسختَين، مسؤولاً بحجم المسؤولية، أحمل المسؤولية ولا تحملني.
تعلموا من أخطائكم مثلي، فالعصمة عن الخطأ ليست شرطاً على العاملين. ورابع هذه المحطات، هي محطة التدرج في المعرفة. فهو يقول: «لا عتب عليّ إذا لم أفهم فكر سعاده الفلسفي، ولا آراءه في علم الاجتماع، ولا نظريّاته العلمية حول نشوء الأمم والاقتصاد القومي. كنت أجهل كل ذلك جهلاً مطبقاً».
ويقول أيضاً: «ليس عاراً أن أقول الحقيقة، إنه شرف لي أن الحزب كان الجامعة التي تخرّجت منها في العلوم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية».
في هذه المحطة، يعطينا الأمين عبدالله قبرصي أمثولة في فضيلة التواضع، تواضع المعرفة الناضجة التي لا تدّعي أنها، منذ وُلدت، ولدت كاملة مكتملة، بل نمت نموّاً حياً ككلّ شيء حيّ، حتى اشتدّ عودها، فاستقامت به واستقام بها، نضالاً وقواعد سلوك وأخلاق. كل معرفة لا يجسدها العارفون بها، هي معرفة ميتة، العلم بها وجهلها سواء. المعرفة الحية هي روح جديدة، وقوة مريدة، في العارفين.
إنّ الأمين عبدالله قبرصي يقول لنا من غير أن يقول: انظروا إليّ كيف أحيا معرفتي. لقد توحّدت بها حتى تجسدت بي، فلم أعد أنا أنا، بل صرت هذه المعرفة التي تمشي إلى تحقيق ذاتها بقوة ويقين، وأما ما تحسبونه أنا فما هو إلا أداتها في التحقيق.
هذا هو الكتاب، وهذا هو الكاتب، كلاهما واحد، هما: عبدالله قبرصي يتذكر. الكتاب للندوة، والكاتب للقدوة.
هوامش:
صلاح قهوجي: شارك في الثورة الانقلابية. بعد خروجه من الأسر غادر إلى مدينة ديربورن (مشيغان)، حيث عمل في مصانع السيارات، والدته «أم صلاح» كانت مدبرة مركز الحزب.
نبيل رياشي: عرفته طالباً، ومسؤولاً في الجامعة اليسوعية. كان لافتاً بجرأته، قوته البدنية والتزامه الحزبي في تلك المرحلة إلى أن توقف وابتعد حزبياً. قضى باكراً، شقيقه الأمين الراحل شوقي رياشي.