بين 17 تشرين الأوّل 2019 و 17 تشرين الأوّل 2020
} تيسير عبّاس حميّة
عام مضى على انتفاضة الشارع اللبنانيّ رفضاً لزيادة 6 دولارات على خدمة واتس آب التي اقترحها آنذاك الوزير محمد شقير ورفضاً للأوضاع الاقتصادية المزرية والسيئة التي أطاحت بكلّ مقومات العيش الرغيد لمعظم فئات الشعب اللبنانيّ من كافة مذاهبه ومشاربه ومناطقه.
منذ اليوم الأول لهذه الانتفاضة شارك الكثير من مؤيّدي حزب الله وحركة أمل والتيار الوطني والكثير من جمهور المقاومة في هذه الانتفاضة طلباً للإصلاح الاقتصاديّ والاجتماعيّ والسياسيّ والقضائيّ. وقد برّر هذه الانتفاضة في بدايتها بعض الذين كانوا ينادون بمحاربة الفساد والذين كانوا سلّموا القضاء منذ أكثر من عامين ملفات تدين بعض السياسيين المتورّطين في الفساد وهدر المال العام والذين منع القضاء من محاسبتهم خطوط حمراء وضعها في وجهه بعض رجال الدين النبلاء.
إلا أنّ الانتفاضة المباركة التي انطلقت من أجل مطالب اجتماعية واقتصادية محقّة ما لبثت أن انحرفت عن مسارها الأساسيّ واستغلها بعض السياسيين اللبنانيين المتورّطين في الفساد المالي وفي ذبح وقتل آلاف إنْ لم نقل عشرات الآلاف من اللبنانيين وتهجيرهم من بيوتهم وهم يحملون مشروعهم الذي يتماهى بشكل أو بآخر مع المشروع الصهيو أميركي الذي عمل وما زال يعمل على ضرب كلّ مقومات بلداننا وثرواتها من النّفط والغاز والمعادن.
وهذا ما استدعى معظم جمهور المقاومة للانسحاب من ساحات الحراك الشعبي خصوصاً بعدما تحوّلت معظم شعارات هذا الحراك إلى شعارات طائفية ومذهبية مقيتة، وإلى المطالبة بنزع سلاح المقاومة التي أحرزت منذ ثلاث سنوات مع الجيش اللبناني انتصاراً تاريخياً على إرهابيّي الدواعش ومشروعهم الصهيو سعودي أميركي الذي موّلهم خلال السنوات العشر الأخيرة.
انسحب جمهور المقاومة من الساحات لا لأنّه لا يريد إصلاحاً أو عدالة إجتماعية ولكن لا يريد أن يصطدم اللبنانيون بعضهم ببعض وكي لا تحصل فتنة طائفية ومذهبية يعمل العدو الصهيونيّ ليلاً نهاراً منذ نشأته على تغذيتها ودفع مجتمعنا إليها خاصة بعد سلسلة الهزائم المتتالية التي مُني بها على أيدي المقاومين الشرفاء منذ 1982 حتى اليوم.
انسحب جمهور المقاومة من الساحات رأفة بلبنان وباللبنانيين الذين عانوا وما زالوا يعانون الأمرّين من حصار الأميركان على لبنان منذ أكثر من عشرين عاماً إذ أنّهم لا يريدون وجود جيش لبنانيّ قويّ ويمنعون تسليحه ويمنعون كلّ عناصر القوّة في الدولة اللبنانية:
ألقاه في اليمّ مكتوفاً ثمّ قال له
إياك إياك أن تبتلّ بالماء
والحقّ يُقال هم يعتبرون (الأميركان) من صنّاع وحماة الفساد في لبنان منذ أكثر من خمسين عاماً. ولما فشلت كلّ مشاريعهم في لبنان والمنطقة عمدوا بشكل مباشر إلى سياسة التجويع المباشرة والقرارات البلهاء التي تصنّف النّاس إرهابيين وغير إرهابيين وإلى حصار المصارف اللبنانية ومصرف لبنان ومنع كلّ أنواع التحويلات بالعملة الأجنبية من وإلى لبنان، ضاربين بذلك عرض الحائط كلّ المواثيق الدولية ومعلنين بكلّ وقاحة وصلافة وصراحة أنّهم يريدون غاز ونفط الشرق الأوسط. منعوا عنّا الكهرباء المجانية من الشرق ومنعوا عنّا النفط المجانيّ كذلك ومنعوا عن جيشنا السلاح من الشرق ومن الغرب، ثم قالوا لا تقاوموا «إسرائيل» وطبّعوا مع الكيان الصهيونيّ حتى نعطيكم ما تريدون…!
وتماشى مع هؤلاء المغتصبين المستعمرين جعجعة من السياسيين المعروفين بتاريخهم المشؤوم والأسود والذي برز عبر تأييدهم للاحتلال الإسرائيلي لأرضنا… والأنكى من كلّ ذلك اعتراف الأميركيين مؤخّرا ومن أعلى الهرم عندهم بأنّهم أنفقوا عشرة مليارات دولار أميركي على اللبنانيين من أجل محاربة حزب الله والتخلص منه وكلّ من يؤيد المقاومة.
انسحب جمهور المقاومة من الساحات لأنّ المؤامرة انكشفت ولم تعد خافية على أيّ عاقل منذ اليوم العاشر لهذا الحراك المسكين الذين دفن في مهده وهو حديث الولادة ولم ينفع عويل وصراخ الفضائيات اللبنانية الثلاث التي اشتراها عربان الخليج والصهيو أميركي من بابها إلى محرابها والتي كانت وما زالت من الصباح للمساء تعلن تأييدها للحراك وتتلفظ بكلّ الشتائم والكلمات السوقية بحق جمهور المقاومة وبحق فخامة رئيس الجمهورية، وكانت في الوقت نفسه تلفظ أنفاسها الأخيرة عندما تحوّلت إلى بوق إعلاميّ للفتنة الطائفية والتحريض المذهبيّ وتشجع على قطع الطرقات على أبناء الشعب اللبنانيّ في الليل والنهار، ولم يعد خافياً على كلّ ذي عقل كلّ أولئك الذين يقفون وراء هذه الحملات الإعلامية المحرّضة على المقاومة وعلى ما تبقى من الكيان اللبنانيّ الذي أصبح في عين العاصفة والذي لم تعد أميركا تريد له البقاء على خارطة الشرق الأوسط ضمن خارطة شرق أوسطها الجديد.
لكنّ الشرفاء من اللبنانيين ومعهم جمهور المقاومة وعلى رأسهم رئيس الجمهورية اللبنانية العماد ميشال عون لم يقعوا في الكمائن التي نصبت لهم في الآونة الأخيرة من قطع طرقات وشتائم وتعديات، وتجنّبوا ولا يزالون الوقوع في أتون الحرب الأهلية المدمّرة، وعضّوا على الجراح كرمى للبنان وحفاظاً على ما تبقى من كرامة وعزّة لبنان.
ولمّا فشلت كلّ مشاريعهم ومخططاتهم فجّروا مرفأ بيروت الذي يُعتبر إحدى رئتي الاقتصاد اللبنانيّ ظناً منهم أنّهم سيركّعون لبنان ومقاومته ويجعلونه ألعوبة بأيدي الطامعين من الأعراب والصهاينة ولكنّهم فشلوا وللمرة الألف.
ولن تجدي نفعا كلّ الضغوط والتهويلات ولا الحروب الاقتصادية ولا تجويع شعبنا لأّننا شعب نحبّ العيش بكرامة ولا نموت إلا ونحن واقفون.
لم ينسحب الشرفاء من الساحات خوفاً وهرباً من الإصلاح ولكن حباً وطمعاً في بقاء لبنان سيّداً حرّاً مستقلاً، وقد أثبت إتفاق الإطار الأخير الذي يتمّ برعاية الأمم المتّحدة من أجل ترسيم الحدود البحرية للحفاظ على ثروتنا من النفط والغاز أنّ لبنان ما زال قادراً من الوقوف على رجليه سداً منيعاً في وجه كلّ الطغاة والبغاة، وذلك بفضل مقاومته القويّة وجيشه البطل وشعبه المقاوم الشريف والأبيّ وأنّنا نحن أصحاب القرار وأسياد على أرضنا… وإنّ غداً لناظره قريب.