«طاحونة الذئاب» لعبد المجيد زراقط ثغاء الخراف لا يقلع أنياب الذئاب
} فاطمة شحادي
تكشف رواية «طاحونة الذّئاب» لعبد المجيد زراقط، الصادرة مؤخراً عن مركز ليفانت، في الاسكندرية، الواقع المجتمعي اللبناني،… فتضيء بذلك مسارات صراعاته المتشظيّة، وواقعه وتحوّلاته…
العنوان دالًّ زاخر بالمعاني، ينبض الرّمز فيه موحيًا بمعادلة الواقعيّ…
«الطّاحونة»، مكان جغرافي محدّد، يتم فيه طحن الحبوب، ويدل، اذ اتُّخذ رمزاً على الصّراع القاسي بين قوى طاغية وقوى تسعى الى تحقيق ذاتها، وهو صراع قائم منذ الأزل. بالتّأكيد، لن تستطيع أن تحكم جازمًا على المعنى التّضميني لهذه العبارة حتّى تنتهي من قراءتك للرّواية بأكملها.
… الطاحونة، هنا، ليست إلّا ذلك الوطن، الذي يطحن أحلام أبنائه فيذريها في الهواء… إنّها مرآة صادقة للأحلام المحبطة… «الذّئاب»، رمز في الميثولوجيا الاجتماعيّة والتّاريخيّة، للخطر الدّاهم، التّوحش، القنص، الغدر…
تتكشّف العلاقة بين كلمتي العنوان «الطّاحونة» و»الذّئاب» لتضع القارئ أمام أسئلة منها: من هم الذئاب؟ من يحيا في طاحونتهم؟ كيف يجري الصراع؟ وكيف ينتهي؟
هنا يتراءى لنا، البعد الدّلالي الحسّي: المكان… الصّوت…
الطّاحونة تدور… والذّئاب تعوي…، والمقاوم يسعى الى تحقيق ذاته الفردية والوطنية والقومية. إذاً القوى التي تبقى دائماً جائعة تفتح أشداقها، وتريد أن تستحوذ على الأرزاق والأملاك والأحلام.
يخفي العنوان المسكوت عنه… إنّه لغة الصّمت، عبّر عن نفسه بصدى «الهدير» و»العواء»…
الأحلام كبرى، ولكي تتحقق لا بد من امتلاك الفاعلية وممارستها وهذا ما تقوله أمينة: «الحناجر لا تصنع الانتصارات، والدّموع لا تطفئ الحرائق»، «ثغاء الخراف لا يقلع أنياب الذّئاب، أشداق الذّئاب لا تستطيع بلع قرون الخراف».
يأتي الإهداء، ومفاده «إلى الّذين يقوون على الذئاب»،
ليخلق واقعًا جديدًا.. فأي واقع ينشده زراقط؟
انطلاقّا من صيغة الجمع «إلى الذين» (طرف الصّراع الأوّل/ صيغة مجهول) إلى ذكر «الذّئاب/ صيغة الجمع المجهول» (طرف الصّراع الثاني). قابل زراقط بينهما، ليكشف آليّات الصّراع بين مكوّنين أساسيّين من مكوّنات المجتمع اللّبناني:
المواطن المسلوبة حقوقه من قبل القوى الظّالمة المتمثّلة بالبيك والنظام الجائر والمخابرات والطائفية والتخلف والكيان المحتل الغاصب… وأولئك المتربّعين على عروش تتحكّم بمصائر الآخرين.. فضلًا عن كلّ قناص أخمد خنجره في الحلم المنتظر… وهو القائل بحرقة ملموسة: «من لا واسطة له في هذا البلد تأكله «طاحونة الذّئاب».
يتضّح لنا أنّ المجتمع اللبناني بكلّيته لن ينجح إلّا إذا غدا فاعلًا جماعيًّا، يسعى إلى الخروج من منطق الخوف والخذلان، إلى منطق المواجهة واسترداد الحقوق المسلوبة عنوة. وهو بذلك، يتحدّث عن مواجهة مرتقبة، لتكون بديلًا من الخوف والهروب…. ليجعل بذلك عنوانه مفتوحًا على مواجهة لا بد آتية لكن متى؟
إنّ هذا التّقارب بين جنس الحيوان وجنس البشر، ما هو إلّا محاولة لدمج ثنائية التّعارض بين الإنسانيّة المفقودة، ولغة ثقافة الغاب المسيطرة…
«وما الطّاحونة سوى الوطن لبنان…!
إنّها ببساطة الحلم المقتول في هذا الجسد الجغرافي الصّغير».
ما يعني أنّ زراقط أراد قول الكثير بلغة تضمينيّة ترسم الأمل بالخلاص… ليجسّد بذلك بنية الفقد.. رافضًا الخضوع للذّئاب… كاشفا الخلل في الوضع السّياسي اللّبناني المهترئ… هكذا، يتبين لدينا، كم هي فظيعة متاهة اللّبنانيين… ولذلك أوشك الواقع اللبناني بكلّيته أن يضيع ويفقد…
بين المشتهى والمنتهى
تجسّد الرّواية المشاعر الإنسانيّة المحبطة، أطلّ فيها الرّاوي من حاضره، حاملًا ذاكرة الماضي، ووعي المستقبل… وعي قائم على ما يراه في وطنه من ذئاب تنهش لحم الأبرياء، ليضيء بذلك على مواطن الخلل، ويضع أصبعه على الجراح…
تأخذ الرّواية، مادتها الحكائية من الواقع الاجتماعي اللبناني، لتعيد بذلك إنتاج الواقع المأمول… وطن حقيقي مزدهر، ينعم بالأمان على مختلف المستويات، نافضاً عنه بؤسه ورداءته. يصعب تقديم قراءة مختصرة لهذه الرّواية، ذلك لأنها مكثّفة ومتشظيّة، وقائمة على قصص داخليّة كثيرة ومتشعّبة… فهي أشبه بشبكة/ جديلة خيوط متوالدة متداخلة يجمعها همّ مشترك… وحلم واحد.
بطل الرّواية، شاب قروي طموح وذكيّ، أقام في مدينة صيدا بغية استكمال تعليمه في دار المعلّمين، راغبًا في التخرج سريعًا ليلتحق بالتعليم في قريته ويقبض راتبًا في آخر الشّهر يعين به أهله في القرية…
كان شابًا فاعلًا مهتماً بقضايا وطنه، يناقش في الحلقات السّياسية ويكتب المقالات، كما يحلم بتحقيق التّحرير وإقامة مشروع وطني بهمة الشّباب اللبناني الواعد.
أثناء تحصيله العلمي، هام قلبه بفتاة تدعى نهى، لتغدو محالًا بالنسبة إليه… إذ إنّ أحلامه تسير في اتجاه، بينما هي تعيش أحلامًا ورديًة، وتشغلها حياة مرفّهة ترفض التّخلي عنها… في المقابل، أهدته الحياة فتاة تحبّه وترغب في الارتباط به… وهي أمينة، الفتاة البريئة، المثقفة والذكية…
الشّاب الطموح العاشق والحالم بالتّغيير، يغدو بين عالمين: عالم العشق المأمول المشتهى والمستحيل، وعالم الإعجاب والانسجام الفكري والعقلي…
فأيّهما يختار؟
هكذا تتأرجح الرّواية بين الواقعية والرومنسية، بين المأمول وتصفيات القدر الصّعبة… تتوالى الخيبات عليه، إلى أن يُطعن بالخنجر في الظّهر، فتوأد الأحلام في مهدها…
الخاتمة تشكل للقارئ صدمة غير منتظرة، لكنّها تقدّم له بذلك إجابة مختصرة ليكوّن درسًا من دروس الحياة، هي: وإن لم تكن لصًّا، فان الكلاب لم تتركك، كما جاء في إهداء نهى له في نهاية الرواية التي تبقى مفتوحة!
التقنيات السردية
يملك الكاتب نفسًا طويلًا، كأنّه يحمل سراجًا ينير من خلاله عوالم متداخلة: الحياة الرّيفية، واقع أهل القرية، قصصهم عاداتهم… همومهم اليوميّة، معاناتهم مع رجال الإقطاع، وممثلي السّلطة، والعدّو الاسرائيلي في حقبة السّتينيّات… أحلام الشّباب وطموحاتهم المستقبليّة، سهراتهم، لقاءاتهم، وقصصهم الغرامية…
تنقّل زراقط بين حياة الرّيف والمدينة، وعي الشّباب النابض بالحياة، وحِكم العجائز في القرية، مع ما يتناقلونه من موروثات شعبيّة تغنّي الماضي الجميل، وتحمل القارئ على بساط الذّاكرة الجماعيّة نحو ماضٍ يفتخر به ويحنّ إليه.
تتداخل في الرّواية قصص جانبيّة: من حب، وسعي إلى تحقيق حلم، سير ذاتيّة، مقتطفات حياتيّة واقعيّة… يؤديها الراوي مستخدما تقنيات سردية متنوّعة: سرد نامٍ، سرد وصفي، وصف سردي، استرجاع، تضمين، توالد قصص، ويستخدم الكثير من الموروث الشّعبي ليحكي صورة القرية اللّبنانية بطيب أهلها، ونبل أخلاقهم… مع ما رافق هذه الحقبة من تبلور لدور الجمعيّات والحركات الطّالبية والنقابية، فضلًا عن الواقع السّياسي المتمثل بالانفلات الأمني وظهور العمل المقاوم بعد السبْعينيات… والمدّ القومي وانقسام الشّعب اللبناني بين مؤيّد ومعارض، في لحظة تاريخية حرجة.
يطرح الرّاوي من خلال السّرد الحكائي، انطلاقاً من قصة البطل، الواقع اللّبناني السّياسي والثقافي والاجتماعي… مستعرضًا صراع المواطن اللبناني الوجودي ومحاولاته لبلورة مشروع قيام وطن يرتكز على المواطنة الحقّة.
الزّمن الرّوائيّ
الشّاب الطموح يستحضره الراوي عبر تسلسل زمني خاضع للظّروف النّفسيّة الصّعبة التي مرّ بها، والوعي الآنيّ الذي كوّنه بدءًا من حياته في القرية، مرورًا بقصة حبّه وعلاقته المتأرجحة مع كلّ من نهى وأمينة، وصولاً إلى اهتماماته السّياسية والثّقافية والمهنيّة…
وفي الوقت الذي بدأ الوعي يتشكّل لديه ولدى المواطنين، ويغدو قوة ماديّة تسعى إلى التغيير الوطني، والتحرير القومي – الفلسطيني، من خلال الحركات الطالبية، والعمل الفدائي، والانتساب الحزبي… قامت الحرب، وكان من مسوّغاتها إنجاز هذا المشروع الوطني – القومي، لكن هذه الحرب غدت اقتتالاً، وتحكم أمراء الحرب والميليشيات برقاب الناس وأرزاقهم، وتضاعف العناء أضعافاً مضاعفة.
البطل شاب لبناني، حلم بزمن النصر، وحصول تحوّلات إيجابية في وطنه، حاملاً سلاح الوعي والعلم معاً… لكن عوامل كثيرة حصلت منها الحرب والعدو الاسرائيلي، والميليشيات، وأدّت الأمل بالتغيير، إذ حلّت محل السلطة القديمة سلطة أشد بطشاً و قسوة في آن، كرست الانتماء لـ»الزعيم»، وجعلته مفتاح الدخول إلى الوطن، وغدا الأمل بحصول التغيير مفقوداً.
اللّغة الحكائية
سلّط زراقط الضّوء على الزّوايا المظلمة في وطنه، بدءًا من الوضع السياسي مرورًا بانعدام الرّخاء الاجتماعي انتهاء بالهم الاقتصادي… مستخدمًا لغة روائيّة هي لغة الحياة اليومية… تتداخل فيها جزالة الفصحى مع ليونة العامية المحكيّة…
لغة الرّاوي عذبة سهلة، تتمتع برقتها وعذوبتها، وهي طيّعة بين يديه، يستخدمها بما يخدم المعنى المقصود… إنّها لغة الحياة العفويّة، ولغة النّاس البسطاء…
مصير الوطن
السّؤال الذي تطرحه هذه الرواية هو: ما العمل؟ ولبنان طاحونة تحكمها قوى تدير طاحونةً تعمل على سحق من يناوئها، وعلى التمتع بما تجود به هذه الطاحونة من «طحين».
سؤال يخاطب الضّمير الإنساني، يهديه زراقط إلى «الذين يقوون على الذئاب»… ليبيّن حجم المأساة التي يعيشها اللبنانيّ… بعد أن تحوّل هذا الوطن الصغير إلى فضاء يدل عليه العنوان الذي تبينا دلالته.
سؤال يجسّد المصير غير المتكافئ لوطن قائم على الكرب والأسى، حوّل إنسانه إلى منفيّ يبحث عن ذاته…
رواية مهداة إلى كلّ الساعين الى مقاومة الذئاب، في هذا العالم، ويقوون على ذلك. يخاطبهم زراقط بقوله: «ما هي حال من يعيش في طاحونة الاستبدادات، وهو لا يستبدّ؟. هو العاجز من لا يستبدّ… ما أفظع العجز، يا ناس…! لمَ نبقى عاجزين؟ وإلى متى؟».