صراع مُستعرٌ بين الفرنجة والعثمانيين على التهام العرب؟
د. وفيق إبراهيم
هذه معادلة تعيد الى المشهد السياسي للمنطقة العربية الصراع العثماني، الاوروبي الذي يعمل على السيطرة على المنطقة العربية منذ ستة قرون متواصلة وسط «غربة» كاملة من اهل المنطقة.
فما الفارق بين سليم الاول ووريثه المعاصر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على مستوى المشروع السياسي؟ وهل هناك من تغيير جذري في السياسات الاميركية – الاوروبية المعاصرة عن الاحتلال البريطاني الفرنسي منذ القرن التاسع؟ وهل هو مختلف عن حروب الفرنجة التي احتلت الشرق العربي 192 عاماً ولم تتركه إلا بعد هزيمة تلقتها من المماليك، على الرغم من أن صلاح الدين سبقهم في ضربها في معركة حطين، لكن أولاده أعادوا تسليم المنطقة الى الفرنجة.
بذلك ينتقل هذا الشرق من احتلال عسكري الى سيطرة اقتصادية ملتزماً صمت الضعفاء والمساكين في إطار معادلة قوامها تحالف الخارج الغربي او التركي مع أنظمة الداخل لقهر شعوب هذه المنطقة. والهيمنة عليها اقتصادياً فتصبح جزءاً من النفوذ الجيوبوليتيكي الخاص بأي منتصر.
التاريخ هنا مستمر بأسماء جديدة وبالمعادلات القديمة نفسها، سليم الاول يعود متسللاً من مرج دابق نموذج 1516 الى سورية عبر إرهابيي الاخوان المسلمين وسراج ليبيا واخوان العراق واليمن ومصر متسربلاً بقناع الرئيس التركي أردوغان انما مع المشروع التاريخي نفسه.
وها هو الرئيس الفرنسي ماكرون يستعمل حادثة قتل مروّعة قتل فيها اسلاموي شيشاني مدرساً فرنسياً، ليؤسس فرصة تاريخية لإعادة تنظيم الفرنجة الجدد، هؤلاء بحاجة الى ايديولوجيا تختبئ المصالح الاقتصادية في زواياها؛ الامر الذي دفع بماكرون الى توجيه اتهامات الى الاسلام باعتبار انه يجتاز ازمة تاريخية على حد قوله وكانت كافية لتحريض الشارع الفرنسي أولاً والأوروبي ثانياً والغربي عموماً في دفاع عنيف عن طروحات ماكرون بدت وكأنها مشابهة للتحريض الذي أطلقته المراكز الدينية في الغرب لاستيلاد فكرة «الفرنجة» الأوروبيين الذاهبين الى الشرق لتحرير «الصليب» كما كانوا يزعمون.
بدورهم رفع العثمانيون شعار الخلافة الإسلامية كتبرير لاحتلالهم للشرق وشمال افريقيا مهددين اوروبا بإدراكهم أسوار فيينا العاصمة النمساوية.
هذا الصراع انحسم لمصلحة الغرب في القرن التاسع عشر بعد هيمنة تركية دامت أربعة قرون ونيف.
لكنه يعود في هذه المرحلة عبر الصراع على البحر المتوسط وسواحل بلدانه المليئة بالغاز، فكان لا بد من شعارات تبريرية وجدها أردوغان التركي في الدفاع عن هجمات غربية مفترضة على الإسلام. ودخل فيها ماكرون الفرنسي فريقاً أوروبياً يرى أن الإسلام اصبح يشكل ازمة عالمية.
اما أصحاب المنطقة وهم الغرب فيلوذون في صمت المذعورين، موجهين رفضاً ضعيفاً لهجوم ماكرون على الإسلام ومنتقدين الأداء التركي لمحاولاته احتلال مناطق عربية.
على المستوى العملي، لا يساوي موقف الدول العربية شيئاً، لأن الطرفين المتقاتلين يعبثان بأمن العالم العربي لأسباب تتعلق بنهجيهما الاستعماريين، فلا ماكرون عائد لاستعادة الصليب ولا أردوغان يريد حماية ديار الاسلام.
هناك اذاً إصرار من الطرفين على التهام العرب بالتبريرات التاريخية وما يؤكد ذلك هي تلك الاندفاعة الهجومية من مستشارة المانيا ورؤساء النمسا وفنلندا ورئيس وزراء بريطانيا باتجاه تأييد موقف ماكرون وكأن المرحلة مماثلة لمراحل تشكيل الفرنجة قبل تسوية قرون تقريباً.
ان ما يشجع هذه الدول على التستر بغطاء ديني، هي تلك الدول العربية التي لا تعمل إلا لحماية عائلاتها المالكة ورؤساء جمهورياتها على حساب المصالح الفعلية للدول.
وسد النهضة مثال على الانكسار العربي الراهن، لأنه يحتجز 74 مليار متر مكعب من مياه النيل في هذا السد الاثيوبي متسبباً بقطع اكثر من ثلاثين مليار متر من حصة مصر من هذا النهر البالغة 55 مليار متر مكعب تشكل 90 في المئة من المياه في مصر، وتهددها بضرب 70 في المئة من قطاعها الزراعي.
للتوضيح فإن اثيوبيا ابتدأت ببناء السد منذ تسعة عشر عاماً وخاض معها عهد الرئيس السيسي مفاوضات عميقة، تبين فيها أن إثيوبيا كانت تستعمل لعبة تقطيع الوقت لاستكمال السد، وهذا ما حدث على حساب الأمن الوطني المصري المهدد بشكل فعلي وسط لامبالاة عهد السيسي.
هناك اذاً معوقات امام العرب، تحتل فلسطين رأس لائحتها الى جانب الصراعات الدولية والإقليمية الأميركية والاوروبية والتركية والاسرائيلية على مواردها والتخلف الاقتصادي العميق، والديكتاتوريات والخلافات الداخلية، هذه عوامل تؤسس لأكثر من عثماني جديد وآخر من الفرنجة مع استمرار التموضع الاستراتيجي الاميركي في عشرات القواعد على اراضي العرب.
لا بد أيضاً من لفت النظر الى أن التذرع الغربي بالإرهاب الإسلاموي هو ذريعة لتبرير الاستعمار الغربي لأن هذا النوع من الاسلام هو غربي التأسيس يرقى الى الدعم البريطاني للوهابية في مطلع القرن العشرين، والاستثمار الاميركي في منظمة القاعدة في سبعينيات القرن الماضي بالاشتراك مع المخابرات السعودية.
كما يعود الى الاستثمار الاميركي – الاوروبي التركي في منظمات داعش وأشباهها في افغانستان والعراق وسورية وليبيا ومصر.
فهل يمكن للعرب مجابهة هذه المشاريع؟
وحدها سورية القادرة على تشكيل جبهة قوية في وجه الإرهاب الذي هزمته في ميادينها اكثر من مرة ولم يعد موجوداً إلا في مناطق السيطرة التركية والأميركية.
هي اذاً سورية التي يستطيع العرب دعمها لتواصل حملة التصدي للإرهاب الذي يكمن خلفه الاميركيون والاتراك المسنودون حالياً من الفرنجة الجدد.
وكما رحلوا بالقوة قبل ثمانية قرون، فلا بد أنهم راحلون مع مشاريعهم بقوة التضامن السوري بين الدولة والجيش والشعب.