بلفور فعل متجدّد… الجزائر ثورة لا تشيب
} معن بشور*
1- وعد بلفور… فعل متجدد
كم كان العرب مخطئين حين تعاملوا مع «وعد بلفور» كإعلان صدر عن «من لا يملك لمن لا يستحق» فقط، وتناسوا أنّ هذا الوعد هو فعل متجدّد على مدى 103 سنوات أخذ أشكالاً متعددة، وأوجد وقائع متنوّعة..
وعد بلفور ارتبط مع سايكس – بيكو بزواج «كاثوليكي» – كما يقولون – هو وعد الصهاينة بكيان في فلسطين يفصل مشرق الوطن الكبير عن مغربه، وسايكس – بيكو رسمت لهذا الفصل الجغرافي حدوداً وحواجز سياسية واقتصادية واجتماعية وطائفية وعرقية من أجل أن تتحوّل التجزئة من مشروع استعماري إلى «حقيقة وحقا»..
ولكن هل نكتفي بهذا الربط بين «الوعد» و «المعاهدة»، أم نقرأ في تاريخنا المعاصر سلسلة أحداث ونكبات ونكسات كانت تجسيداً لذلك «الوعد» المشؤوم وتحويله إلى فعل دائم في حياتنا..
ألم يكن الاستعمار البريطاني والإسباني والإيطالي، ومؤخراً الاحتلال الأميركي في وطننا العريي، أهمّ تجسيد لوعد بلفور…؟
ألم تكن نكبة فلسطين عام 1948، وما سبقها وتلاها من مجازر ونكسات وحروب وفتن هي الترجمة الحرفية للوعد المشؤوم…؟
ألم يكن العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، هو ترجمة أخرى لذلك الوعد اشترك فيه مصدر الإعلان ومنشئ الكيان في وقت واحد؟
ألم تكن هزيمة العرب في حزيران/ يونيو 1967، بكلّ المشاركين في التخطيط لها والتنفيذ لها، من إسرائيليين وأميركيين وحكام عرب، هي أحدى مخرجات وعد بلفور.
ألم يكن الانفصال المشؤوم للوحدة المصرية – السورية عام 1961، وهي الوحدة التي طوّق بها العرب عدوّهم، تفعيلاً لذلك الوعد الخطير الذي حمل معه بذور كلّ انفصال وتقسيم وتجزئة…
ألم تكن معاهدات كمب دايفيد وأوسلو ووادي عربة توقيع عربي على وعد بلفور..؟
ألم تكن الفتن والحروب الداخلية التي اشتعلت في العديد من أقطارنا العربية، لا سيما المركزية منها، هي خطوات لتحويل الوعد المشؤوم إلى حقيقة راسخة في أمتنا..
الم يكن احتلال العراق، وتدمير سورية، وتقسيم السودان، وغزو ليبيا والعدوان على اليمن أحداثاً خطيرة تؤكد انّ نطاق الوعد المشؤوم لا ينحصر بفلسطين وحدها، بل يشمل الأمة كلها..
ألم تكن الصراعات التي شهدتها الأمة بين أقطارها وداخل كلّ قطر، وبين تياراتها الرئيسية وداخل كلّ تيار، بل بين أحزابها وداخل كلّ حزب، هي التنفيذ الحقيقي لذلك الوعد المشؤوم…
أليس كلّ خطاب يغذي الانقسامات ويؤجّج الصراعات، وعد بلفور آخر نقدّمه بأنفسنا لعدونا، فيما نعتقد أننا نحارب هذا العدو من خلال خطاب الانقسام ـ الفتنة.
واليوم أليس ما نشهده من «اتفاقات» تطبيع، واختلاق أعداء غير العدو الحقيقي، وإثارة كلّ أنواع الفتنة الطائفية والمذهبية والعرقية هو انضمام لصانعي وعد بلفور ولمهندسي اتفاقية سايكس – بيكو…
لذلك فالردّ على وعد بلفور، كما على حاضنته سايكس – بيكو، ألا يكون بمجرد الاستنكار والتنديد، بل بإغلاق كلّ ثغرة دخل منها العدو إلى بلادنا ليجعل من وعد بلفور وعداً «أهلياً ومحلياً» ننفذ بأيدينا ما حاول أعداؤنا تنفيذه بوعودهم ومخططاتهم ومشاريعهم…
وعلى الرغم مما حققه «الوعد» وصانعوه من إنجازات على أرض الواقع، فعلينا أن نعترف أنّ أمتنا قد شهدت أيضاً، وعلى مدى قرن من الزمن، مقاومات امتدّت من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق، بعضها دون شكّ أخفق في تحقيق أهدافه، لكن بعضها نجح في تحقيق ما يطمح إليه، والأمثلة على الإخفاقات كما الانتصارات عديدة، خصوصاً أننا ندخل عصر الانتصارات إذا حرصنا على أمرين هما تحقيق الوحدة في صفوفنا، واحتضان المقاومة في وجه أعدائنا.
2- في الأول من نوفمبر
ثورة لا تشيخ
حين وصلت الى مطار الجزائر قبل عامين للمشاركة في مؤتمر الشيخين الراحل محفوظ نحناح والشهيد محمد بو سليماني الذي تنظمه كلّ عام حركة البناء الوطني في ذكرى انطلاقة ثورة الأول من نوفمبر التحريرية عام 1954، قلت في حديث إعلامي: ثورة الجزائر ثورة لا تشيخ… وقلت أيضاً إنّ للشعب الجزائري ثوابت لا يحيد عنها مهما تقلبت عليه الظروف والأوضاع… أولها تمسكه بهويته العربية الإسلامية، وثانيها فلسطين التي قال عنها قادة الثورة بعد الاستقلال عام 1962 وعلى رأسهم الرئيس الراحل احمد بن بلة: «لا يكتمل استقلال الجزائر إلا باستقلال فلسطين».
ورغم كلّ ما شهده العرب من متغيّرات وانقلابات، إلا أنّ الثورة التي لا تشيخ كانت تتخد كلّ حين موقفاً يؤكد أصالتها وعمق انتمائها لأمتها..
فمنذ احتضانها لأول مكتب لحركة فتح قبيل الرصاصة الأولى في منتصف الستينيات من القرن الماضي، إلى موقف رئيسها الراحل هواري بو مدين بعد هزيمة حزيران 1967 الذي لا تنساه الأمة، إلى دور الجزائر في حرب تشرين1973، إلى الدفاع عن الثورة الفلسطينية ولبنان في وجه كلّ ما تعرّضا له من حروب، إلى رفضها القوي لتحويل القمة العربية في الجزائر 2005 الى قمة للتطبيع العربي الجماعى بعد احتلال العراق الذي لم يقصّر الجزائريون بكلّ مكوّناتهم بالانتصار لشعب الرافدين، إلى رفضها مجاراة الموقف الرسمي العربي بعزل سورية بعد الحرب الكونية عليها وفيها عام 2011، إلى رفع شعبها أعلام فلسطين جنباً إلى جنب مع رفع الأعلام الجزائرية في انتفاضة شباط/ فبراير 2019… وصولاً إلى موقف رئيسها عبد المجيد تبون (شفاه الله) الأخير الرافض للتطبيع مع العدو والمتمسك بالحق الفلسطيني.
ولا ننسى دعم الجزائر للعديد من حركات التحرر العالمي لا سيما في أفريقيا، واحتضانها للعديد من الندوات والمجالس والمنتديات الفلسطينية والعربية والإسلامية والدولية بينها المؤتمر القومي العربي وعلى رأسه الرمز الوطني الجزائري الراحل عبد الحميد مهري عام 2005 ثم عام 2010 والملتقى العربي الدولي لنصرة الأسرى والمعتقلين في سجون الاحتلال الصهيوني والأميركي في أواخر عام 2010 ومؤتمر مؤسسة القدس الدولية، وقد أكد هذا الاحتضان مكانة القدس والأسرى وفلسطين في قلوب الجزائريين وعقولهم…
واليوم، ووسط هذا التردّي الرسمي العربي الذي تعيشه الأمة عبر حكام أذلاء تتطلع القوي الحية إلى الجزائر، في عيد ثورتها السادس والستين، من أجل أن تشكل مع ما تبقى من قوى الصمود والمقاومة في الأمة رافعة من أجل استراتيجية نهوض عربي شامل… تخرج الأمة من حال التردّي الذي تعيشه سواء من خلال المهرولين نحو التطبيع مع العدو أو من خلال الإمعان في الإساءة إلى عقيدتها ونبيّها ورموزها.
وكلّ عام والجزائر والأمة بألف خير وتقدّم…
_ المنسّق العام لتجمّع اللجان والروابط الشعبية