الرفيق الشهيد المميّز فكراً ونضالاً فؤاد أسعد الشمالي
إعداد: لبيب ناصيف
هذه النبذة ليست كلّ الرفيق الشهيد فؤاد الشمالي، إنها بعض من كثير يستحق أن يُكتب عنه. كنت وضعت هذه النبذة بتاريخ 27/05/2014، وأرسلت النبذة إلى شقيق الرفيق الشهيد، المحامي منصور الشمالي بواسطة منفذية كسروان، موضحاً أنها
ليست للتعميم، انما هي نبذة أولية تحتاج إلى إضافات، وإلى أن يغنيها عارفو الرفيق الشهيد بمعلومات وكلمات وشروحات مفيدة. بعد أن مضت سنوات طوال على وضع النبذة، ولمّا لم يصلني من أيّ من المعنيين ما يغنيها، أعممها كما هي، فأضعها بتصرّف من يرغب لاحقاً أن يكتب عن الرفيق الشهيد فؤاد من رفقاء كثر عرفوه في لبنان، في أوروبا وفي أماكن أخرى، فهو يستحق أن يصدر عنه كتاب يؤرّخ لمسيرته النضالية، شبيه بما كانت انجزَته الرفيقة الكاتبة والإعلامية زهرة حمود عن الامين الشهيد بشير عبيد.
*
النبذة كما وُضعت بشكل اولي ولم تُعمم في حينه:
« الشاب القصير القامة، العليل الجسم، كان عملاقاً. فؤاد الطيب، الرقيق القلب، ذو الابتسامة الدافئة الحبيبة، والنكتة الذكية اللاذعة، كان رهيباً.
بتلك الكلمات، نعت مجلة الحزب «البناء»، في عددها 73/1033 بتاريخ السبت 12 آب 1972 الرفيق الشهيد فؤاد الشمالي الذي هوى بعد صراع طويل مع الداء العضال .
وفي عددها هذا خصصت «البناء» صفحاتها السبعة الأولى للحديث عن أحد أبطال الحزب، والمقاومة الفلسطينية الرفيق الشهيد فؤاد الشمالي، وعن المأتم الحاشد الذي أقيم له بدءاً من استقبال الجثمان على مطار بيروت الدولي، وصولاً إلى بلدته «السهيلة» التي لم تشهد في تاريخها تدفق ألوف القوميين الاجتماعيين والمواطنين من مختلف أنحاء لبنان ليسيروا وراء نعش ابنها البطل فؤاد الشمالي .
هنا أبرز ما جاء في تلك الصفحات السبع:
« الساعة الآن السادسة مساء الثلاثاء (8 آب). وفود المستقبلين تحتشد أمام مطار بيروت الدولي: قوى المقاومة الفلسطينية بقياداتها وكوادرها، الأحزاب والقوى التقدمية على اختلاف مذاهبها وايديولوجياتها،
كأنما أراد فؤاد الشمالي أن يكمل نضال حياته بأبرز أمانيه القومية في استشهاده فتحققت بادرة الجبهة القومية العتيدة التي دعت الحركة السورية القومية الاجتماعية إلى بنائها.
لقد أعلنت حركة التحرير الوطني الفلسطيني أن البطل القومي فؤاد الشمالي هو أحد قادتها وان هذا القائد العظيم كان وراء أكبر عمليات الثورة الفلسطينية .
وكانفجار هائل سطع اسم البطل في سمائنا: الشاب الضامر الجسد، الكثير الحركة، المتوجع، الشجاع، النابه، الواضح الذي كان أمس بيننا، يحاورنا ويداعبنا ويساهرنا، ويملاْ وجداننا وقلبنا حباً وصفاء ورواء، كان قائداً، يخطط وينفذ أكبر عمليات الثورة الفلسطينية.
وبلحظات قليلة مات البطل فؤاد الشمالي، الذي عرفناه في حزبنا مثالاً للحيوية، والذكاء، والجرأة، والرفض، والثورية، والتضحية، ليولد البطل فؤاد الشمالي، فيعرفه بنو قومه كلهم، مواطناً متفانياً في خدمة القضية القومية، يخترق أسوار التكنولوجيا الإسرائيلية ببراعة نادرة، ويسدد ضربات موجعة إلى الصهيونية والاستعمار والرجعية .
الشاب القصير القامة العليل الجسم كان عملاقاً .
فؤاد الطيب، الرقيق القلب، ذو الابتسامة الدافئة الحبيبة، والنكتة الذكية اللاذعة، كان رهيباً .
هو هنا رصاصات تردي خائناً، وهناك قنبلة تبيد مجموعة من الخونة، وهنالك عبوة ناسفة تدمر منشآت للرأسمالية العالمية والصهيونية .
والدة فؤاد، ووالده وأخواته وأخوته وأصدقاؤه ورفاقه في الكفاح المسلح ورفقاؤه في الحركة السورية القومية الاجتماعية وأحباؤه في الأحزاب والقوى التقدمية والمواطنون يتجمعون أمام جمارك المطار، وينتظرون خروج جثمانه الطاهر.
المعاملات معرقلة، فاروق المقدم(1) صديق فؤاد في باريس، مع أحد مسؤولي الحزب، وأحد قادة فتح يرتابون في التأخير، ويقررون دخول الجمارك وإخراج الجثمان عنوة.
فدخلوا، وأمروا سائق سيارة الإسعاف التابعة للهلال الأحمر الفلسطيني التي كان النعش قد وضع فيها أن تقلع، وأقلعت، وخرج الجثمان إلى الجموع المحتشدة .
صفّان من الرفقاء يؤديان التحية للبطل فؤاد الشمالي، والدته، التي سمت بمشاعرها وفكرها إلى أرقى ما نتوسم في الأمومة السورية العزيزة الكريمة، تتجاوز بعينيها جثمان ابنها البطل وتتوجه إلى الرفقاء الأبطال بكلمات مؤثرة سامية مليئة بالحب والاعتزاز .
« لن أبكيك يا ابني، يا فؤاد، لكي استحق أن أكون لك أماً « .
« أنظر رفقاءك حولك، يا تلميذ الزعيم « .
« كنا نظنك، يا ابني، تستشفي في سويسرا فإذا أنت لا تبالي بصحتك، أنت تناضل « .
فرقة من الكفاح المسلح وفرقة من قوى منفذية كسروان يتوليان حراسة الشرف، والأمن، والانضباط في بيت الشهيد في سهّيلة .
الرفقاء والأصدقاء يتوافدون حتى ساعة متأخرة من ليل الثلاثاء – الأربعاء. ومع فجر الأربعاء راحت الوفود تأتي إلى سهّيلة من كل أنحاء لبنان – وفي تمام الثالثة بعد ظهر الأربعاء، وصل موكب الاكليروس الماروني الموقر.
حملوا جثمان البطل إلى السيارة، وسط جموع غفيرة من المواطنين، جاؤوا لوداع الشهيد الكبير، وسار الموكب إلى كنيسة القرية، حيث صلي عليه، وعند تمام المراسيم الدينية ألقى سيادة المطران صفير كلمة تأبينية قيّمة، ثم تلاه الرفيق جمال فاخوري قارئاً نص برقية رسالة تعزية من الأخ ياسر عرفات إلى والد الرفيق الشهيد، المحامي أسعد الشمالي .
وفي تمام الرابعة إلا عشر دقائق، تهيأت الجموع لمواكبة الشهيد إلى مركز التجمع الشعبي في شارع 23 نيسان في بيروت، وفق تنظيم كان معداً من قبل .
وسار الموكب الكبير عبر طرقات كسروان المزدانة بصور الشهيد البطل إلى أوتوستراد جونيه، بيروت، فجسر الدورة وصولاً إلى مستشفى الدكتور بربير حيث كان القوميون الاجتماعيون بقيادة عمدة الدفاع في استقبال النعش. رئيس الحزب يترجل من سيارته مع المسؤولين المركزيين ويأخذ مكانه في مقدمة المسيرة الشعبية، وراء الجثمان .
وسارت المسيرة الشعبية الكبيرة. لا هتاف ولا خطابات. الموسيقى وحدها كانت تترجم مشاعر الناس وعواطفهم. كان الموكب يسير بخطى بطيئة. بضع يافطات فقط حملتها الجموع لتعبر بها عن اعتزازها بالشهيد البطل .
وبلغ الموكب مقبرة الشهداء، وعانق جثمان فؤاد الشمالي التراب الذي عانقه رفاقه الشهداء من قبل، بضعة طلقات نارية تحية للشهيد، علامات النصر رفعت مع الهتافات، الكاهن الماروني الأب سعد يلقي كلمة يحيي فيها الشهيد ويبارك الشهداء، وينتصر للحق، ويمجد التضحية والنضال في سبيل التحرير وقد استهل كلمته بشكر الذين شاركوا في جنازة الشهيد .
وعند مدخل المدفن تقبل آل الشهيد تعازي القادة والمواطنين، وكان بينهم والدا الشهيد واخوته، وزوجته الرفيقة اليسار أنطون سعاده، ووالدتها الأمينة الأولى جولييت المير سعاده وأقرباء الشهيد .
*
نعت حركة فتح الرفيق الشهيد فؤاد الشمالي ببيان طويل نقتطف منه ما يلي :
« باعتزاز كبير، وألم عميق، تعلن حركة التحرير الوطني الفلسطيني «فتح» عن سقوط أحد قادتها المناضل البطل فؤاد أسعد الشمالي شهيداً من شهداء الثورة الفلسطينية.
لقد سقط في صميم المعترك، رافضاً، ثائراً، متمرداً.
لقد كان شهادة حية للثورة، نموذجاً للمناضل الواعي المؤمن الذي يمارس وعيه وإيمانه في مواقع النضال تخطيطاً وتنظيماً وتنفيذاً.
كان عقلاً دينامياً مولداً، ونفساً وثابة شجاعة، وأخلاقاً ثورية رائدة، وجندياً جريئاً منضبطاً.
ويتابع البيان :
« كان بيننا يعمل، ويخطط، وينفذ وفق هذا الإيمان الذي تولى اختبار صحته في تجارب حياتنا الثورية، ولقد حقق إنجازات ثورية عظيمة في هذا المجال وكان بهذا أحد قادتنا .
لقد مارس الشهيد فؤاد الشمالي البطولة المؤمنة الواعية المنظمة حتى لحظة موته .
لقد أنسته الآم أمته الآم جسده المبرحة، فتجاوز ذاته تجاوزاً كلياً، شاحناً ساعات يومه ودقائقه بالعمل الدقيق الخطر المدمر.
كان بيننا كتلة قوى ملتهبة تنفجر هنا وهناك في الوطن وفي أنحاء العالم أعمالاً ثورية جليلة ترعب العدو والقوى المظاهرة له، وتذل كبرياءه وغطرسته وتبعث في الثوار أصدقائه، والعاملين بأمرته، روحاً معنوية عالية، تفولذ إيمانهم وتنمي فضائلهم وتضاعف فعاليتهم.
ويختتم البيان :
لقد مات هو لتحيا الثورة
مات لتحيا أمته
والموت في سبيل الحياة أزكى شهادة
*
كذلك نعت منظمة «أيلول الأسود» الرفيق الشهيد فؤاد الشمالي بالبيان التالي :
« إن منظمة «أيلول الأسود» تعتبر موت البطل فؤاد الشمالي أحد قادة حركة المقاومة الفلسطينية (فتح) خسارة عظيمة للثورة الفلسطينية ولشعبنا كله .
فالشهيد البطل فؤاد الشمالي هو أحد القادة الطليعيين الثوريين الذين مارسوا العنف الثوري بأروع أشكاله، فضلاً عن كونه جندياً مناضلاً في أكبر منظمات الكفاح الفلسطيني المسلح .
إن منظمة “أيلول الأسود» تعلن أن التعويض العملي التاريخي الوحيد عن البطل فؤاد الشمالي هو ممارسة العنف الثوري بأعلى درجاته، هذه الممارسة التي كان الشهيد فؤاد الشمالي يحققها عملياً في الساحة الفلسطينية.
فإلى البطل القائد فؤاد الشمالي تحية وعهد من الايلوليين.
وردت إلى رئاسة الحزب السوري القومي الإجتماعي البرقية التالية:
حضـرة رئيـس الحـزب السـوري
الـقومـي الإجتـماعي المحـترم
الحزب الديمقراطي الكردي في لبنان يتقدم من حضرتكم بأحر التعازي لفقدان الشهيد البطل فؤاد أسعد الشمالي مناضلاً في ساحة المعركة لكم من بعده العز والخلود.
بدورها نعت الرفيق الشهيد فؤاد الشمالي كل من الأحزاب والقوى الوطنية والتقدمية، الاتحادات الشعبية الفلسطينية، حركة 24 تشرين، كما كُتب عنه الكثير في الصحف والمجلات الصادرة في لبنان والعالم العربي، منها:
جريدة «الرأي العام» الكويتية، مجلة «الراية» اللبنانية، صحيفة «فلسطين الثورة» وقد نشرت «البناء» مقتطفات من تلك الكلمات في عددها تاريخ 19 آب، بعد أن كانت نشرت في عددها تاريخ 12 آب ما نشره الصحافي فريد الخطيب في صحيفة «بيروت» .
*
الشمالي، بطل عملية النفط:
جريدة الرأي العام الكويتية في عددها 3154 الصادر في 7 آب 1972.
ذكرت مصادر فلسطينية في بيروت أن الشهيد فؤاد الشمالي كان الرأس المدبر لعمليات منظمة أيلول الاسود في أوربا، بما فيها تفجير صهاريج النفط في إيطاليا.
ويذكر ان الشمالي من الأعضاء البارزين في الحزب السوري القومي الإجتماعي وهو متزوج من السيدة اليسار كريمة أنطون سعادة، مؤسس هذا الحزب كما أنه تقلد فيه مسؤوليات عليا عدة، وحكم عليه بالإعدام في محاولة الإنقلاب الفاشلة التي قام بها الحزب القومي في لبنان أول عام 1962، إلا أنه تمكن من الفرار إلى اوربا حيث تولى الإشراف على فروع الحزب في القارة. وبعد حرب حزيران 1967 جاء إلى الأردن وانخرط في العمل الفدائي من منظمة فتح. وما لبث أن عاد إلى أوربا حيث تولى مسؤولية الدعاية والإعلام من أجل القضية الفلسطينية، إلى جانب عمله في الحزب القومي. وخلال ذلك كان يتابع دراساته فحصل على شهادة الدكتوراه في الحقوق.
وكان قد أصيب في السرطان منذ عام 1963. وفي البداية كتم الاطباء سر المرض عنه. فقد كان شاباً بأكثر من ان يطاق له الموت. إلا انه شعر بذلك فقال لطبيبه: أرجوك أن تصارحني بوضعي الصحي. واستجاب له الطبيب وأبلغه أن السرطان سري في جسده وأنه، بالكاد، يعيش ستة أشهر. غير أنه قرر ألا يموت. وفي الحال ألقى جانباً كل وصفات وتوصيات الأطباء وطلب إلى أصدقائه وأهله ألا يشعروه لحظة أنه يستحق العطف بسبب مرضه.
وامتدت الستة أشهر إلى حوالي عشر سنوات، انتهت به شهيداً كما أراد هو لا كما أراد السرطان. كان إيمانه أقوى ولذلك بقي السرطان عبئاً منسياً طول هذه السنين وبغير سلطان والذين عرفوه يعرفون كم كان رحباً وجسوراً، وكم كان عشقه للمغامرة أكثر بكثير من جسده الصغير، لكن المتوثب والغامر.
وكان من يراه يسقط في حبه. جذاباً وعجيباً، ويملك طاقة هائلة في أن يكون صديقاً.
وفي أقل من سنتين، حيث عمل محامياً في بيروت، وكان أصغر زملائه سناً، بدأ يسطع كنجم فجائي. قبل ذلك كان قائداً طلابياً في الثانوية والجامعة إذ باكراً أصبح موبوءاً بحب الوطن، فغناه شعراً، ثم غناه في الدم.
وإذ استشهد، الآن، من أجل فلسطين، وهو اللبناني المسيحي الماروني من بلدة سهيلة في كسروان، فقد حقق واحداً من أطماحه الكبار، التي كانت تلوح في عينيه الكبيرتين، مرئية بغير زوغان، واضحة بغير ظلال.
عدوّي الحميم فؤاد الشمالي
ابراهيم يزبك، جريدة «اليوم».
لم تجمعني به أي رابطة. بل هناك أشياء كثيرة أبعدتنا وفي مقدمتها: «قوميته» السورية.
ولم نلتق في أي ميل أو هوى: كان يقول بالعنف ويطبقه، وانا أقول بالصبر وأعانيه.
فلم يكن إذن لطريقنا لقاء.
ولكنهما التقيا. وكان لإصطدامهما دوي شديد، يوازي ثقل ما يحمله كلانا من حماسة لقضيته. القومية اللبنانية والقومية السورية، متجابهتان في لبنانيين.
*
قضت الصدف أن ينشب بين «عدوين» الفة فمحبة فإخاء. عن طريق الإحترام أولاً، فلم يتراجع أحدنا ولم يتسامح ولم يتخاذل، بل ظل كلانا صلباً في عقيدته ومؤمناً بما رسخ فيه منذ نعومة الأظفار. غير أن نوعاً من «مهادنة» نشأ بين الإثنين. فلم يعد أحدنا يأتي على ذكر موضوع سياسي.
وأضحت علاقتنا علاقة طالبين لبنانيين في باريس وحسب.
*
ولكن طريقينا ما لبثا أن افترقا يوماً.
فالعفو العام الذي أصدر ونعم به القوميون السوريون حرر فؤاد الشمالي من إقامته «الجبرية» في باريس فصار يتنقل ويعود من وقت إلى آخر إلى لبنان. أكثر من مرة في السنة. وعاد يلتقي أصدقاءه القدامى و «الرفاق» الذين لم يكن يرتاح إليهم قلبي أنا. فأيقنت ساعتئذٍ بأن صديقي «خسارة» نهائية. وكنا، ما إذا إلتقينا، نتحدث عن الادب والشعر والسياحة والأسفار حارصين على عدم الفوه بأي كلمة تتعلق بالسياسة، بل إذا كان معنا شخص ثالث وبدأ حديثاً في السياسة، بادر كلانا إلى اسكاته. وكان كلامنا يخشى ان يفتح الحديث الخطر «فيقدح» الشرارة التي ستشعل كل شيء.
ولكن هذا الإنتباه الدائم كان يتعبني ويتعبه. فصرنا نبحث عن الراحة إذن نسعى إلى فراق، وبعاد.
وفي بعادنا كنا قريبين إذ كان يجمعنا إيمان قوي في قضيتنا – كل قضيته –، حتى إذا تباينت العقيدتان وكانت خصومة في الصراط.
كنا قريبين قربى الجنديين الذين تجمعهما صلة القتال قبل كل شيء آخر.
ولم تكن عن عبث تسمية واحدنا الآخر عدوه «الحميم».
*
مجلة «الراية» اللبنانية في عددها 410- 82 الصادر بتاريخ 14 آب 1972
فؤاد الشمالي شهيد جديد على دروب القضية
شيعت الجماهير العربية في لبنان شهيد الثورة الفلسطينية المناضل فؤاد أسعد الشمالي.
ان الشهيد الذي وهب حياته للنضال كان بين المنتمين للثورة الفلسطينية، مختاراً الكفاح المسلح، رافضاً نضال الصالونات والتوجه إلى الجماهير عبر الوعظ والإرشاد مظهراً بالممارسة وفي كل المهمات التي تسلمها جدارية ثورية.
والدلالة البعيدة، التي كشف عنها موته، هي أن المكافحين الفلسطينيين ليسوا وحدهم في المعركة…. وان مئات «فؤاد الشمالي» من جميع الأقطار العربية يعملون بصمت في سبيل قضية فلسطين، التي هي قضيتهم.
وحسب هذا الماروني من كسروان أن يكون قد قال للعدو الغازي: «إننا هنا … على الخط الاول…. جنباً إلى جنب مع جميع القوى الحرة الشريفة لتحرير الأرض».
*
نقطة دم:
صحيفة “فلسطين الثورة” في عددها الصادر يوم الأربعاء 17 آب.
ها هو يعود في تابوت … انتهت حياة جسده. وعلم فلسطين، الاخضر والاسود والأحمريلف التابوت الذي يضمه نزل المسافرون من الطائرة، ثم راحو إلى بيوتهم ومعهم ذكريات من المدن الغربية التي غرقوا في أضوائها وجنونها.
وسكت فؤاد الشمالي.. كان يعمل طيلة حياته في الثورة بصمت، لم يبحث عن الإثارة والمجد… ولكنه بحث عن الوطن.. لقد احب فلسطين لأنه كان يشعر أن لبنان لا يمكن ان يكون حراً وسيداً إلا إذا طرد الغزاة بعيداً من حيث جاءوا.
كان يتحرك مع رفاقه في كل مكان ولم يستطع الوش الصهيوني الاخطبوطي أن يعرفهم، أو يتصل إلى كنههم. كان إيمان فؤاد ورفاقه البواسل، أكبر من قدرة المخابرات الصهيونية.
كانو يسيرون وسط حقول من الالغام والموت. ويعملون في كل لحظة كي لا يصبح العدو الصهيوني أسطورة، وحين يلتحم الثائر بالموت فإنه لا يكون قد تخلى عن الحياة… انه يفعل ذلك من أجل الحياة، ان موت الثائر يعني التقدم خطوة باتجاه الوطن، يعني أن الوطن الذي احتل لا يمكن ان يضيع. وأن العدو لا بد ان يلاقي نهايته. حين يواجه شعباً يصرخ بقوة من أجل وطنه: يحيا الموت.
لقد بلغ الشعب الفيتنامي مرحلة هائلة من الغلتحام بالثورة والإصرار على ذبح الإمبريالية الاميركية وتفوقها العسكري.
لان الشعب هناك لا يقضي وقته في التسكع والحوارات الفارغة، وسماع اخبار الثورة من الراديو. أو البحث عن النجاة الفردية… الكبرياء الوطنية والوعي الثوري والقيادة الحازمة جعلا من الشعب الفيتنامي قلعة فولاذية لا تقهر، لأنه ثمة فرق كبير بين الغزاة والمرتزقة وبين شعب يريد وحدة ارضه وحرية بلاده.
ان الشعب هناك لا يفكر بغير (الإستشهاد). ولهذا فإن الامبرياليين والرجعيين الخونة يتقهقرون…
لقد قاتل الشعب الجزائري بضراوة من اجل الحياة، والتحم بالموت… والتشعب الفلسطيني الباسل يقاتل منذ نصف قرن ويلتحم بالموت من اجل الحياة.
رجال جاؤوا من سورية والعراق والاردن ومصر وليبيا… والتحموا بالثورة وعانقوا الموت… كي لا يتحول الوطن إلى العربي إلى سوق استهلاكي… إلى دويلات تطبق كالكماشة على عنق الامة العربية..!!
إن الحياة الحقيرة والذليلة لا تستحق ان تعاش… وان الرد على الذين يريدون أن يجعلوا من حياة امتنا مهزلة… الرد هو ان ننتظم جميعاً في طوابير محاربة… تحب الموت من اجل الحياة… الحياة الرائعة النبيلة العزيزة…
ان صور فؤاد الشمالي تملأ الآن قلوب كل الثوار الفلسطينيين والعرب، وانها ترفرف في سماء لبنان… لبنان الذي لن يكون جسراً للأطماع الإسرائيلية…
طوبى للذين عشقوا الموت من اجل الحياة… المجد للذين هتفوا من اجل فلسطين.. يحيا الموت.
*
إلى الشهيد فؤاد الشمالي
نشرت «البناء» في عددها 76 تاريخ 02/09/1972 الكلمة التالية في «باب القراء» للرفيق علي زكي حمية – طاريا.
لم نكن نعلم عنك شيئاً، ولا سمعنا لك صوتاً، سوى صدى انفجارات وغناء رشاشات في جنوبنا المحتل.
سمعنا القنابل تدوي، والعبوات تدمر والرصاص يحصد الاعداء ولم نعرف ان فؤاد الشمالي هو وراء اكبر عمليات الثورة الفلسطينية.
آمنت بالعمل الصامت وبالكفاح المسلح طريقاً للتحرير، فصدق فيك القول: «تحت طبقة الصياح والثرثرة في هذه الامة، يقوم السوريون القوميون الاجتماعيون بعملهم بصمت..»
امس كانوا يسألوننا: ماذا فعلتم من اجل القضية؟؟ فجئت الجواب الصارخ في حينه، بل صفعة قوية للسائلين معبراً عن حقيقة ما نعمل. لم نعلم يا فؤاد الثورة، ان ذلك الدوي ان هو الا صوتك مجسداً بقنبلة او فوهة رشاش. صارعة المرض وأبيت ان يبعدك عن الحياة، الحياة وقفة عز فقط، ولكنه كان خبيثاً فسقطت وصوتك الداوي يقول: «اننا نعمل للحياة ولن نتخلى عنها».
خسرتك فلسطين، خسرتك سوريا، خسرك العالم العربي أجمع، وفقد شعبنا سيفاً مشهوراً في وجه الغاصبين. فقدناك وعزائنا فيك هو اننا سائرون على خطاك وعلى مبادىء العقيدة حيث امنت بالعنف الثوري وممارسته بأروع صورة فكراً ونضجاً، قولاً وعملاً.
ان امتك حصلت على وديعة الدم فيك، كما حصلت عليها من زعيمنا قبلك ونحن مستعدون للبذل والعطاء من بعدك، وسوف نكون عند حسن ظنك، فارقد مطمئناً وان كنت قد قضيت ولم تر أمتك حرّة، لا ان رفاقاً لك سيحققون أمنيتك مغيرين وجه التاريخ ومعيدين مجد أمة، ظن الاعداء انها قضت الى الابد.
لن نفقد إرادة التحدي، ولن نسلم بالامور المفعولة بل اننا قوة رافضة ترحب بالموت اذا كان الموت طريقاً للحياة، اننا قوة مؤمنة بالبطولة المؤيدة بصحة العقيدة، نمارسها ولا نخاف الحرب بل نخاف الفشل.
*
غلاف ديوان “بحر الموت”
كان الرفيق الشهيد فؤاد الشمالي كاتباً وشاعراً. إنتاجه القليل الذي تركه يؤكد على موهبته وأصالته. بعض شعره نشر في كتابه “بحر الموت» الذي صدر في طبعته الأولى عام 1973 ثم أعيد طبعه عام 1981 وقد أشير في الصفحة الثانية منه إلى أن الأمين الشهيد كمال خير بك اختار هذه المجموعة من قصائد فؤاد الشمالي، وأن معظم قصائد المجموعة، كتبت قبل عام 1962، وقد نشر بعضها في الصحف والمجلات أو قدمت في قراءات شعرية .
هنا بعض من قصائده :
عامهلك
يا موت عامهلك ع أيامي
عندي قصايد بعد ما قلتا
عندي خبار مخبيا لبعدين
ع بيادري نملّة سنين مكدسة
خايف تمر الريح بكرا وتاخذا
خلي ولنّو الطير يدرّي مواسما
اتركني بعد يومين .
هدية
لإمي… بعيد الأمهات
محتار.. شو بجبلك تأهديكي
ع العيد..
يا غِنيتي وعيدي
إن جيت جبلك قد ما بدي
الدني ما بتكفي
ون جيت جبلك قد ما عندي
يا خجلتي منك
يا ميمتي..
يا ضيعتي اللي عاشقا البلبل
وللريح مهجورة
عاتمِّها زهر الربيع كوام
بتضحّك.. وبالقلب مقهوره
يا ميمتي..
يا نبع ما بيشح
يا بيادري المكدسة
يا غلتي.. يا مواسمي
يا كرمة الجنة
يا مَيِّة عيوني..
لو كان فييّ
لملم نجوم السما كلن وما خلي..
ولا نجم لاطي بعب شي غيمة
وصغلك ياهن سواره لدَياتك
لو كان فييّ
جمع خيوط القمر كلن
وإجدلك ياهن
شريطة لشيباتك
لو كان فييّ
حوش من الصبح بسماتو
وطرز لك ياهن
شي شال لكتافك..
لو كان فييّ جيب من دم الشفق
شي لون لشفافك..
لكن يا إمي..
أفقر من الليل إبنك
وأغنى من نجومو
عندو قصيدة حب.. شو حلوي
كبرت على همومو
ربيت على جوعو
رح يهدم ضلوعو
ويفرفطا بدربك
ولو خيروني.. بين أموال الدني كلا
وشي غفوي
وإبكي على صدرك
بعيف الدني..
ما ببدلا بتكّه
ما ببدلا بنسرة ضفر إجرك .
خربة (*)
قلبي أنا خربة ومهجوره
ساكنا وطواط شيخ وعنكبوت
عاحيط تاكي معلقا صوره
وحسون بالقرنة مدمّا عم بيموت
(*): نشرت في عدد «البناء» تاريخ 17/07/1960.
بطاقة هوية :
ولد الرفيق الشهيد فؤاد الشمالي في السهيلة (كسروان) عام 1936 .
والده المحامي أسعد الشمالي، الذي كان تولى الدفاع عن عدد كبير من القوميين الاجتماعيين المشاركين في الثورة الانقلابية .
والدته السيدة سمية سليم مسلّم شقيقة الأمين السابق الرفيق فيليب مسلم(1) (الأديب، والقصاص، وتولى في الحزب مسؤوليات قيادية) والرفيق فؤاد مسلم .
أتم دروسه الثانوية في “الجامعة الوطنية” في عالية، ودرس الحقوق في الجامعة اليسوعية في بيروت وتخرج منها محامياً .
انتمى إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي عام 1951 وتولى فيه مسؤوليات محلية ومركزية .
شارك في الثورة الانقلابية 1961-1962، وإثر فشلها اضطر للمغادرة إلى الأردن .
عند انطلاقة الثورة الفلسطينية عام 1965 انضم إلى حركة فتح، وبدا يناضل في صفوفها .
كان الرفيق الشهيد من أبرز القادة الذين ساهموا في تعريف الرأي العام العالمي على الثورة الفلسطينية، فأنشأ عدة مراكز إعلامية لحركة فتح في العديد من العواصم الأوروبية وأقام علاقات واسعة وحميمة مع القوى التقدمية في أوروبا .
كان في طليعة الذين ساهموا في العديد من العمليات العسكرية تخطيطاً وإعداداً وتنفيذاً مما دفع العديد من دول أوروبا الغربية إلى إدراج اسمه على القائمة السوداء .
كان الرفيق الشهيد مصاباً بالسرطان، وكان مهدداً بالموت في كل لحظة، إلا أن إرادته الحديدية مكنته من قهر المرض، والاستمرار في النضال حتى غلبه الداء الخبيث في الثالث من شهر آب سنة 1972 وأطفأ شعلة العطاء والإبداع في قلبه الكبير.
هوامش:
فيليب مسلم: مراجعة النبذة المعممة عنه على موقع شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية wwww.ssnp.info