انتصر الدم بالضربة القاضية سقط جعجع بالعلامة اللاغية
كتب المحرر السياسي
قبل السؤال عن الذي سيحدث غداً، كان ما حدث أمس كافياً ليشغل اهتمام المتابعين في لبنان والخارج، وفهم معانيه واستخلاص دروسه وعبره، والعبرة الرئيسية كانت السقوط المدوّي لقانون العفو الذي أعطى جعجع فرصة المصالحة مع الحياة السياسية، بترجمة خروجه من السجن بتوبة نصوحة واعتذار صادق من الذين حوكم بجرائم قتلهم وأدين، فيجعل قضيته الحصول على تسامحهم وفقاً لنظرية أنّ «من كان منكم بلا خطيئة فليرجمني بحجر»، في دعوته للتساوي بمن يسميهم «الآخرون الذين لم يحاكَموا»، باعتراف ضمني بارتكاب الجرائم، أو أن يضع كلّ ثقله لتعديل قانون العفو بالإصرار على الحصول على إعادة محاكمة لإثبات براءة يواصل ادّعاءها.
التصويت الذي مُنح لجعجع بتدخلات خارجية وضغوط داخلية وتململ وسط الكثير من المصوّتين، بقيَ دون نصف عدد النواب الذين منحوه العفو أو الفرصة، بل دون العدد اللازم لنيله العفو لو كان هو الموضوع المطروح للتصويت في جلسة الأمس، التي كانت أقرب إلى جلسة محلفين في محكمة رأي عام لشخصية تتصدّى للشأن العام بتاريخها المليء بأحكام الإعدام بجرائم موصوفة.
هيئة المحلفين أو فحص البراءة التي تشكلت من النواب، الذين تحمّلوا مسؤولية العفو قبل عشر سنوات تقريباً أصدرت حكمها النهائي على جعجع السياسي بعد العفو، كما على جعجع المحكوم، وجعجع المتقدّم بتكريس طلب العفو.
ثلاثة قضايا حضرت دفعة واحدة في ملف جعجع أمام هيئة «المحلفين – النواب»، في قضية تجديد طلب العفو خسر جعجع وانتصرت دماء الشهداء والضحايا بالضربة القاضية، فنالت حضوراً سعى جعجع بكلّ قدراته وعلاقاته ليحجب عنها الضوء ويرميها في ظلام النسيان، فحضرت أيما حضور، ما كان ليتسنى لها ولذويها المقهورين، لولا حماقة الترشيح ليسقط المرشح بالعلامة اللاغية التي تمثلها أسماء الشهداء والضحايا الحاضرين الغائبين.
في ملف جعجع المحكوم كرّست عملية التصويت الأحكام الصادرة عن المجلس العدلي بحق جعجع، عندما حصل على قرابة ثلث المصوّتين فقط، أما في ملف محاكمة جعجع السياسي المستفيد من العفو لعشر سنوات، فقد نال جعجع بشقّ الأنفس أصوات بعض من كانوا بحماسة يصوتون للعفو قبل عشر سنوات، وخسر كلياً الذين صوتوا مع العفو من قبل وندموا على تصويتهم، مقابل حماسة في التصويت لتكريس الذين كان تصويتهم معارضاً للعفو يوم كان معروضاً من قبل.
على المستوى الرئاسي جلسة فجلسة بالتتالي، إلى أن تتجمّع أصوات ستة وثمانين نائباً على اسم مرشح واحد فتحقق النصاب وتنتخب، لأنّ وهم الفوز بالنصف زائداً واحداً هو مجرّد لعبة بصرية وهمية، طالما النصاب يبقى الثلثين، وطالما أنّ أحداً لن يشارك بتأمين نصاب جلسة انتخاب ليس شريكاً في إنتاج الرئيس الذي سيخرج بنتيجتها.
خريطة تشكل النواب الستة والثمانين الصانعة للرئيس بات واضحاً أنها تحتاج نواب المستقبل مع تجمّع نواب الثامن من آذار، ويصبح حضور جنبلاط ومسيحيّي الرابع عشر من آذار أو بعضهم تفاوضياً مريحاً، وهذا الخيار مفتوح على حظوظ التوافق على العماد ميشال عون، وهو خيار ينتظر من جهة تمكن المستقبل من التحرّر من عبئه الجعجعي، وتلقي المستقبل من جهة أخرى الإشارات الأميركية السعودية التي ينتظرها حول احتساب المترتب الناتج من رئاسة العماد عون على توازنات الحرب على سورية وسلاح حزب الله.
الفرضية الثانية لخريطة الستة وثمانين هي تجمّع المستقبل وكتلة جنبلاط وأغلب الثامن من آذار، ويصبح ممكناً التطلع نحو شراكة وحضور حزب الله والتيار الوطني الحر حول مرشح توافقي غير العماد عون، بعد منح فرص كافية للتوافق على عون رئاسياً داخلياً وخارجياً كصاحب حظوظ معقولة بالموافقة.
هذا يعني بحسب المراقبين أنّ المرحلة الأولى تقتضي تنحّي سمير جعجع عن صهوة الترشح للعماد ميشال عون، لنيل فرصه التوافقية، وفي حال مرور الفرص الكافية تنحّي العماد عون عن صهوة الترشيح لمرشح توافقي ثالث.
الأرجح أنّ تنحّي جعجع سيستهلك الوقت المتبقي من ولاية الرئيس ميشال سليمان، وأنّ الفراغ المقبل رئاسياً سيقيم أشهراً بسبب عجز دولي إقليمي عن التوافق، والذريعة تكون منح فرص التوافق على العماد عون وقتاً كافياً، لتنفتح مع مطلع الخريف فرصة الرئيس العتيد بكلمة سرّ مغفلة.
وحده العاشر من أيار يقطع هذه المسارات الصعبة من الفراغ، إذا حملت الأنباء السارة من جنيف تفاهمات نهائية حاسمة بين واشنطن وطهران، ترتسم خلالها شروط صدور أمر عمليات لجعجع بالانسحاب من الماراتون الرئاسي وتتوّج ميشال عون رئيساً.
بداية سقوط ورقة جعجع
في هذا الوقت، فعلى رغم محاولة رئيس «القوات اللبنانية» سمير جعجع «تبييض صفحته» من خلال إصراره على الترشح لرئاسة الجمهورية، فقد أفضت نتائج جلسة مجلس النواب الأولى لانتخاب رئيس للجمهورية إلى أن أكثرية اللبنانيين بدءاً من نوابهم يرفضون أن يتربّع على عرش الرئاسة شخص معروف بتاريخه الأسود، حتى لو اضطر حلفاؤه من «14 آذار» لتفادي انهيار التحالف عبر تصويت 48 نائباً له، لكن ذلك لن يغيّر في حقائق الأمور ويمسح تاريخ جعجع، ولذلك كانت أصوات ستة نواب لضحايا جعجع وقواته.
وبعيداً عن كل ذلك، فإن الاستنتاج البديهي والمنطقي من جلسة الأمس يؤكد بما لا يقبل التأويل أن هناك استحالة لوصول رئيس «القوات»، لا بل أن نتائج الجلسة أنهت «المسرحية» التي لجـأ إليها جعجع من خلال الترشح لرئاسة الجمهورية، وإن كان عاود الإصرار بعد انتهاء الجلسة على أنه مستمر في الترشح ولن يتراجع عنه، وأن فريق «14 آذار» سيجتمع خلال الأيام المقبلة لتقرير الموقف.
وفي خلاصة الاستنتاج ـ كما تقول مصادر سياسية عليمة ـ أن قوى «14 آذار» أمام أحد خيارين:
ـ الأول، أن تنتهي من «مسرحية» ترشح جعجع حتى ولو عاودت في جلسة الأربعاء المقبل تكرار سيناريو تبني هذا الترشيح ما سيؤدي إلى تطيير نصاب الجلسة، وتقول المصادر إن انتهاء «14 آذار» وبخاصة تيار «المستقبل» من التركة الثقيلة التي حملها بسبب تبنّي ترشيح رئيس «القوات» سيفتح الباب تلقائياً أمام فتح باب الاتصالات الجدية للوصول إلى رئيس توافقي، بحيث يبقى العماد ميشال عون الاسم الأكثر ترجيحاً في حال صارت الأمور في هذا الاتجاه.
«14 آذار» أمام امتحان صعب
ـ الثاني، إن أصر فريق «14 آذار» على الاستمرار في تبنّي ترشيح جعجع، فذلك يعني حكماً أن لا رئيس للجمهورية قبل 25 أيار المقبل، تالياً فالفراغ هو الذي سيتحكّم بمسار اللعبة الرئاسية، ما سيقود حكماً في هذه الحال إلى أن تتولى حكومة تمام سلام زمام السلطة الإجرائية لتحل مكان رئيس الجمهورية.
نتائج جلسة الانتخاب هزيمة لرئيس «القوات»
في كل الأحوال، فقد سقطت ورقة ترشّح جعجع في الجلسة أمس بعد أقل من نصف ساعة مُلحِقة به هزيمة سياسية من العيار الثقيل أعادته إلى حجمه الحافل بالجرائم وقطعت الطريق أمام محاولاته لتنظيف سجله وتاريخه الأسود.
وقد مُني جعجع بهزيمتين، الأولى تمثّلت بإحجام عدد من نواب «14 آذار» عن التصويت له على رغم الأوامر العليا التي عمّمت على هذا الفريق، والثانية بالإدانة السياسية التي تمثّلت بالتصويت لعدد من ضحاياه.
وكما كان متوقعاً، لم يتمكن مجلس النواب في جلسته الأولى أمس من انتخاب رئيس للجمهورية، فأعلن رئيس مجلس النواب نبيه بري بعد انفراط النصاب قبل الدورة الثانية عن رفع الجلسة وعقد جلسة أخرى يوم الأربعاء المقبل، ويبقى نصابها دائماً الثلثين، لكن جواز المرور إلى قصر بعبدا ينخفض من هذا الرقم إلى النصف زائداً واحداً.
وبرهنت الجلسة عن تنظيم دقيق ومحسوم لقوى 8 آذار التي استطاعت أن تتغلّب بالورقة البيضاء وبسبع أوراق إضافية ذات مغزى سياسي على مرشح «14 آذار» بالأرقام والعِبر، فبينما نال جعجع 48 صوتاً، بلغ عدد الأوراق البيضاء 52 ورقة هي لأصوات نواب 8 آذار، بالإضافة إلى خمس أوراق من الأوراق الملغاة يرجح أن يكون معظمها لنواب تكتل التغيير والإصلاح. وأفيد أن من بينها النائب زياد أسود الذي وضع ورقة باسم جيهان طوني فرنجية. وتحدثت مصادر أيضاً أن النائبين عباس هاشم ونبيل نقولا وضعا ورقتين باسم طارق داني شمعون، علماً أن النائب نقولا نفى ذلك، كما تحدثت المصادر أن النائب فادي الأعور هو الذي وضع ورقة باسم الرئيس الشهيد رشيد كرامي بينما لم يعرف اسم النائب الذي وضع ورقة باسم رئيس أركان القوات السابق الياس الزايك والمتهم بقتله سمير جعجع.
خروقات داخل «14 آذار»
أما على صعيد تصويت نواب «14 آذار» فقد صوّت 48 نائباً منهم لصالح جعجع، بينما تحدثت مصادر عن أن عضو كتلة «المستقبل» محمد كبارة وضع غلافاً فارغاً في حين لم يتضح مسار تصويت رئيس الحكومة تمام سلام، بينما صوّت أحد نواب كتلة الكتائب لمصلحة رئيس الحزب أمين الجميل في حين تشير المعطيات إلى أن نائب الجماعة الإسلامية عماد الحوت صوّت لمصلحة جعجع.
وإذا كان فريق «14 آذار» قد خرج متصدعاً من الجلسة على رغم محاولات الجمع ولو عن طريق الأوامر العليا والتي أعطت جعجع 48 صوتاً، فإن النتيجة الأساسية لجلسة الأمس هي أن جعجع خرج بصدمة كبيرة على رغم محاولته تجاوزها بمؤتمر صحافي شكلي «لا يغني ولا يسمن» وعلى رغم محاولاته الظهور بمظهر المرتاح لإعلان اسمه لـ48 مرة في خلال عملية فرز الأصوات، مع العلم أن بلبلة حصلت حول ما وصفته أوساط جعجع بهروب بضعة أصوات من «14 آذار» إلى الجانب الآخر، وزاد هذا الأمر من إرباكات هذا الفريق الذي خرج متصدعاً من ساحة النجمة وفي وضع لا يُحسد عليه، خصوصاً أن كثيراً من علامات الاستفهام ستوضع أمام هذا الفريق، إذا لم يكن للجلسة المقبلة، فإلى الجلسات اللاحقة مع إصرار جعجع على الاستمرار في ترشحّه. في حين تشير المعلومات إلى أن حزب الكتائب أعطى أصواته إلى رئيس «القوات» في جلسته الأولى وربما في الجلسة المقبلة ـ إذا اكتمل النصاب ـ على أمل انسحاب جعجع لاحقاً لمصلحة رئيس الحزب أمين الجميل.
أسئلة حول خيارات المستقبل؟
لكن المشكلة الأكبر هي تلك التي يواجهها تيار «المستقبل» أمام إصرار جعجع على الاستمرار في الترشّح، خصوصاً أن الأخير مستمر في إحراج حلفائه، بينما الخيار الوحيد أمام «المستقبل» في الجلسات اللاحقة هو في السير بالمشاورات والاتصالات مع باقي الكتل النيابية للتوافق على رئيس تجمع عليه أكثرية الكتل.
لكن مصادر مواكبة تؤكد أن «المستقبل» سيتجاوز جعجع وإحراجه عندما تأتي كلمة «السر الإقليمية»، وتحديداً عندما يحصل توافق إقليمي ـ دولي حيال شخصية معينة وإن كانت المصادر لا ترى حتى الآن ما يؤشّر إلى وجود هذه المعطيات.
كرامي يرد على ترشّح جعجع
وعلّق الرئيس عمر كرامي على ما حصل في مجلس النواب، فقال: «إن ما حصل له دلالات أبلغ وأهم من مسألة انتخاب رئيس الجمهورية، فالبرلمان أعاد النظر بالعفو المشؤوم عن جعجع، وهو المجرم المدان والمحكوم من أعلى هيئة قضائية في لبنان». أضاف: «لعل الصوت الأقوى أتى من طرابلس التي رفضت الإملاءات لتتصالح مع وجدانها، حين رفض نوابها وما يمثلون عاراً ما بعده عار في التصويت لصالح قاتل رئيس الحكومة الراحل رشيد كرامي». وأكد أن الورقة التي حملت إسم رشيد كرامي انتصار على 48 ورقة حملت اسم قاتله.
ترشيح عون مصان للوقت المناسب
في المقابل، بقيت ورقة ترشح العماد ميشال عون جاهزة ومصانة كأحد أبرز المرشحين التوافقيين في الوقت المناسب، خصوصاً بعد أن أثبتت قوى 8 آذار أن موقفها موحّد ولا يتأثر بأي مغريات أو معطيات تتناقض مع رؤيتها وتوجهاتها. أما النائب وليد جنبلاط فحاول في ترشيح عضو اللقاء الديمقراطي هنري حلو تكريس موقعه الوسطي، بل تكريس الأصوات التي نالها حلو لتكريس هذا الموقع. وفي الوقت نفسه استخدامها كذخيرة في المفاوضات المقبلة.
بري يتحرك للجلسة المقبلة
أما على صعيد الجلسة المقبلة، فقد علمت «البناء» أن الرئيس بري شرع في اتصالات وجهود جديدة، بدأها بخلوة مع العماد عون قبل جلسة الأمس، ولقاء قصير مع النائب جنبلاط بعد الجلسة، إضافة إلى اجتماعه مع عدد من النواب، ومن المنتظر أن يستأنف اعتباراً من صباح اليوم هذه الجهود في اتصالات ولقاءات ستشهدها عين التينة على مدى الأيام المقبلة.