مرويات قومية

الرفيق نديم جواد عدرة الحضور الحزبي اللافت في الشمال اللبناني

إعداد: لبيب ناصيف

 

بعد أن تولّى الأمين عبدالله محسن رئاسة الحزب، أقام حفل استقبال رسميسياسي في فندق الكارلتون، نشرت عنه جريدة «البناء» في حينه، موردةً أسماء وصور عدد كبير من رسميّين ونوّاب وشخصيات سياسية واجتماعية(1).

سوف آتي على ذكر ذلك في مناسبة لاحقة.

ما زلت أذكر من تلك الصور، الحضور اللافت للرفيق نديم جواد عدرة. منذ ذلك الحين وصورة الرفيق جواد مطبوعة في ذاكرتي، إنما مع الأسف لم ألتقِ به، ولم أتمكّن من زيارته لتدوين الكثير ممّا يملك عن تاريخ الحزب(2) الى أن صدر كتابه الغني بالمعلومات، فتصفحته، ثمّ قرأته، ثمّ أعدت قراءته مرة جديدة، ومنه اخترت المقاطع التالية:

ل. ن

*

النشأة والعائلة

شاء القدر أن أُبصر النور في قرية كفرياالكورة في لبنان، وذلك في العام 1921. وُلدت في هذه المنطقة، وكنت مشاركاً وشاهداً وربما صانعاً لأحداث كثيرة. تعلّمت في مدرسة المقاصد في القرية مبادئ القراءة والكتابة، وحفظت القرآن على يد الشيخ أحمد ملحم من قرية أجد عبرين.

كان رحمه الله ورعاً تقياً، همّه أن يحفظ التلاميذ القرآن والأحاديث الشريفة قبل أي شيء آخر، ومن ثم كان يركّز على الصرف والنحو وحفظ أدوات الجرّ والنصب. نادراً ما ينام في قريتنا بل كان يأتي يومياً من أجد عبرين إلى كفريا مروراً بـبتعبورة ثمّ كفرحاتا وبدنايل، قاطعاً أكثر من 5 كلم وراكباً دابّته التي كان علينا إطعامها ورعيها.

تخرّج أخي محمود عام 1932 من كلية الحقوق في دمشق. كان من أوائل المحامين في الكورة، ولعلّه الأول في منطقة القويطع. تدرّج محمود في مكتب إميل بيبان في البترون، ولكنه لم يمارس المحاماة، لأنه عُيّن قاضياً في البترون. مرض قبل أن يتسلّم وظيفته ورحل سريعاً، فتأثر أبي كثيراً ولم يلبث أن رحل بدوره.

أما أخي شاكر فقد درس في مدرسة الفرير في البترون، ثم في مدرسة التجهيز في دمشق التي صارت تُعرف بمدرسة ابن خلدون. وعندما توفي الوالد، اضطرّ شاكر إلى العودة ليعمل مدرّساً في مدرسة المقاصد في عفصديق. ولعلّ شاكر هو أول عضو من القوميين في الحزب السوري القومي في المنطقة (القويطع: تسمية لجزء من قضاء الكورة متاخماً لقضاء البترون يضمّ القرى والبلدات التالية: كفريا، بدنايل، كفرحاتا، كلباتا، بتعبورة، أجد عبرين، كفر …. والمجدل).

وقد انتمى إلى الحزب يوم كان في الكلية الإسلامية في طرابلس سنة 1934، وكان معه كل من رفيق الأيوبي من «عفصديق»، ومصطفى الحكم من «القلمون»، وعلي شلق من «كفريا» الذي انسحب من الحزب فيما بعد إبان الثورة التي أعلنها أنطون سعاده عام 1949، والتعقّبات التي قامت بها الدولة آنذاك.

أما أخي بشير فقد أصبح شيخاً معمماً، وأخي أحمد مزارعاً يهتم بالأرض وبتعليم أولاده. وسافر أخي عبد القادر إلى السنغال ولم نعد نسمع أخباره حتى اليوم، أما أخواتي مريم وبشيرة ونعيمة فقد تزوّجن من أقرباء لنا في القرية، ولم يبق على قيد الحياة إلا مريم وأنا.

عندما كان أخي شاكر يدرّس في عفصديق عام 1936، كنت أحمل له الزوادة سيراً على الأقدام من كفريا عبر الوديان وعين نقاش في كفرحزير وصولاً إلى عفصديق، كانت الرحلة تستغرق حوالى ست ساعات وكنت أحياناً أنام هناك.

وخلال زياراتي القصيرة تلك، كنت أسمع منه ومن رفقائه كلمات على غرار «أنطون سعادة»، «الحزب»، «سورية»، «وقفة العز»، «فصل الدين عن الدولة»، فحفرت هذه الكلمات الرنانة في وجداني، وخاصة حينما علمت بأنّ الحزب كان يقف ضدّ الاستعمار الفرنسي.

ثمّ حلّت النكبة العائلية الثالثة. فقد رحل أخي شاكر فجأة عام 1937، وأخذت أنوء بحمل المنزل على كتفيّ، وكان «المنزل» يعني أشياء عديدة: أرض، وماعز، وبقر، وزيت وغيره، يعني أن تصحو عند الفجر وتنام باكراً لتعمل في اليوم التالي.

في تلك الفترة وفي أوائل الأربعينات مرّت المنطقة بضائقة معيشية، فقدمت بعثة من جمعية المقاصد الإسلامية في بيروت، برئاسة عمر الداعوق، بهدف استقطاب أبناء العائلات الإسلامية في الكورة، أسوة بسائر المؤسسات الطائفية، وتولّت نقلي إلى دمشق كي أدرس العلوم الإسلامية. وكان معي في المعهد الإسلامي في دمشق فوزي مرعي(3) من كفريا ومحمد حجازي من رأس نحاش وآخرون. وربما لأن والدي، رحمه الله، كان قد تبرّع بالأرض التي اُقيم عليها الجامع والمدرسة في كفريا، فقد رشّحني عمر الداعوق لأصبح شيخاً وهكذا حصل.

الانتماء

انتميت إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي عام 1937، وكان عمري آنذاك 16 سنة وبضعة أشهر متأثراً ليس فقط بمبادئه، بل بوفاة أخي شاكر أيضاً. كانت لعائلتنا علاقة حميمة بالمرحوم الخوري جرجس من كفرحاتا، وكان للخوري قطعة أرض، وهي الأغلى في كفريا، اسمها «الرامود». وكان ابنه ميشال مسؤولاً حزبياً أوما يُسمّى منفّذاً عاماً في الكورة، فبادرني يوماً بالقول: «ولِمَ هذا التأخير؟ هيا انتسب». وهكذا أقسمت اليمين في «مراح الرامود». ولعلّ أطرف ما في عملية القسم تلك، أنه بينما كانت يدي ترتفع زاوية قائمة ولساني يردّد نصّ القسم، كانت البراغيث تمعن في لدغي، وتسلّمت على الفور مسؤولية إدارة فرع الأشبال في القويطع.

وفي العام ذاته، قام أنطون سعاده بزيارة الكورة فكنت في عداد مرافقيه. واستمرت مرافقتي له خلال زيارته لطرابلس وجولته في الشام. ما زلت أذكر خطابه في القلمون حيث قال: «إنّ هذه البلاد شهدت فتوحات كثيرة، أما نحن فقد جئنا لنضع حداً للفتوحات». وقد ازداد إعجابي به وتقديري له بعد الخطاب الذي ألقاه في أميون، والخطب التي ألقاها في القويطع وطرابلس واللاذقية والجمهورية الشامية عموماً. ليت أبناء الجيل الجديد، من القوميين والمسؤولين على حدّ سواء، يتذكرون تلك الخطب.

القويطع

كنا لا نزال في القويطع في النصف الثاني من الثلاثينات، وقد أصبحت في سن الثامنة عشر، فعيُّنت مديراً لمديرية «كفريا» حيث بلغ عدد القوميين في القرية حدود الأربعين. ولما علمنا أن عددهم في «كفرحاتا» قد بلغ الثمانين، وفي «بتعبورة» الستين، وفي «كفتون» الثلاثين، تأكد لنا أن منطقة القويطع كانت معقلاً للحزب في تلك الفترة.

في أواخر الثلاثينات انتقل مركز الحزب من بيروت إلى بتعبورة(4) في منطقة القويطع، وكان عمي الشيخ محمد، رحمه الله، يهتم بالقوميين ويساعدهم ويفتح لهم بيته. وكثيراً ما حمى وخبّأ عبدالله قبرصي وجورج عبد المسيح، وكانت شلة الرفقاء تشمل إبراهيم بشارة سليمان ويعقوب جبور وجورج خوري وميشال خوري من كفرحاتا، وجرجي إلياس صعب وإلياس نصر وأسد نصار وحسيب بربر وأديب بربر من بتعبورة، وحليم عكر من كفرحزير، وشفيق غنطوس وعبدالله سعاده من أميون، ووهيب عودة(5) وعزيز جبور من أنفة، ثم وجيه الأيوبي(6) من النخلة، وجورج شاهين وجميل سركيس وجورج سركيس من كفتون، ومحمد حسين الخطيب واسكندر شلق من راس نحاش، وجورج حكيم(7) من البترون، ومحمود الصديق وحامد شلق وعلي شلق(8) من كفريا(9).

في تلك الفترة بالذات حلّت كارثة جديدة عليّ. فقد مرضت أمي حفيظة شلق، وقد عادها معظم الرفقاء، لكن المرض لم يمهلها كثيراً وتوفاها الله وأمسيت وحيداً.

لقد كانت، وهي المحجبة والمحافظة جداً، تستقبل الشباب وتخبّئهم، وتتحمّل عاداتنا بالتدخين والشراب متذمّرة ورافضة حتى أن تلفظ كلمة خمرة «الله يهديهم بيشربوا منّو» أين هذا من صراخ الويل والثبور الذي تسمعه اليوم إذا ضاقت صدور الذين يحملون لواء الدين وهم عنه بعيدون. كان والدي وأعمامي مشايخ صلح (شيوخ زمنيون) وأخي وأقرباء آخرون شيوخاً معمّمين. ومن مشيخة الزمن ومشيخة الدين إلى عالم الانتماء الحزبي، بدأت مسيرتي الطويلة.

لعدل الحياة قد خفّفت من وحدتي وألمي، خصوصاً وأنّ رفقائي، ممّن ذكرت وممّن فاتني أن أذكر، أصبحوا بمثابة أهلي.

*

عبدالله قبرصي يعلن الحرب على فرنسا!

في أوائل الأربعينات في القويطع، كان المحامي عبدالله قبرصي رئيساً للحزب ولكن تحت اسم مستعار ومعروف في آن وهو «معروف حمدان». كنا نعقد معه الاجتماعات دورياً ونوزّع المناشير بناءً لأوامره. وكنا نمضي معه وقتاً طويلاً، وفي أواخر شباط من العام 1941 عقدنا لقاءً عاماً في عين نقاش، في منطقة كفرحزير، أصبح فيما بعد علامة فارقة في حياتي الحزبية. وألقى «معروف حمدان» وسط الحشود خطاباً نارياً قال فيه: « أيها السوريون القوميون، إنّي أعلن النفير العام «. وأضاف: « إن الفرنسيين جاؤوا أوصياء على شعب يصلح أن يكون وصياً عليهم «. وكان يقف بجانبي رفيق خفيف الظل، شجاع وكريم يُدعى جرجس الزامر من عفصديق، فسألني بصوت منخفض: «شو يعني النفير العام؟»، فأجبته موشوشاً: «الحرب». قال: «الحرب ضدّ من؟». قلت: «ضدّ فرنسا». وفي الحال وضع يده على مسدس «الأكرة» الذي لم تكن فيه أكثر من ثلاث رصاصات وتساءل: «أبهذه الرصاصات الثلاث وهذا المسدس، نحارب فرنسا؟».

انتهى الخطاب وهربنا. توجّه عبد الله قبرصي إلى كلباتا حيث كان لنا رفيق كريم الأخلاق، شجاع ومضياف يُدعى سركيس حرب. وكان يتولّى بين الحين والآخر إقامة حفلات تعارف بين قادة الحزب وزعماء آل حرب أمثال أنطوان الخوري حرب وجان حرب النائب السابق وعمّ الوزير السابق والنائب الحالي بطرس حرب، والشيخان أنطوان وجان، شقيقا القاضي شارل حرب الذي كانت تربطه بسعاده صداقة متينة. أحببت سركيس، هذا الرجل النزيه، حباً جمّاً وتعلّقت به. وحين أصابه المرض بقيت أكثر الوقت إلى جانبه. وقد نصحني مراراً أن أصادق الحزب دون أن أنتمي إليه، لأنّ أفكاره جاءت قبل أوانها. وأكّد لي أنه أدّى لإخوته النصيحة ذاتها.

أما لماذا انتقل قبرصي إلى كلباتا وليس إلى أية قرية أو بلدة كورانية أخرى، فلأنّ سكانها موارنة، والحزب «أرثوذكسي» بنظر موزّعي الاتهامات، وإن كانت الأيام الآتية ستعطي بعض المصداقية لهذه الانطباعات. ومع ذلك، فإنّ ملاحقة السنغاليين سرعان ما شملت كلباتا. ويعود سرّ ذلك إلى أنّ السلطة المنتدبة التي أطلقت الإشاعات والاتهامات كانت أذكى من أن تصدّقها. وكان يوجد «مراح» لجماعة من تنورين يقع بين كلباتا وأجد عبرين، فارتأى الشيخ أنطوان حرب تهريب الأمين قبرصي إلى ذلك المكان الذي ظنّ أنه بعيد عن الشبهات. ولكن الجيش الفرنسي كان هناك بالمرصاد، ولولا مخاض زوجة صاحب المراح لكان أُلقي القبض عليه. فقد جرى توليدها فوق لوحين خشبيين كان عبد الله قبرصي مختفياً تحتهما. وعندما دخل الجنود إلى «غرفة» الولادة وسمعوا صراخ المرأة وصراخ وليدها، اندفعوا خارجاً معتذرين.

تفجير نفق الهري

ذات يوم في العام 1942 قال لي عبد المسيح: «أنت بطل». وقبل أن أشكره على هذا اللقب الذي لا أستحقه، طلب مني تفجير نفق شكا. استدعيت بعض البحارة من أبناء قريتي وأقربائي وجيراني وسألتهم إذا كان بإمكانهم القيام بالمهمة وأتحمل أنا كلفتها. فأبدوا استعدادهم على اعتبار أنهم معتادون تفجير الديناميت (أو التروبيل بلغة البحارة) في البحر. وقدّروا أنّ الكلفة لن تتعدى 15 ليرة. أعطيتهم الضوء الأخضر والليرات القليلة، وعندما استفقنا صباح اليوم التالي كان النفق مفجّراً. فما كان من عبد المسيح إلا أن طلب مني زرع الطريق المؤدية إلى القويطع بالمسامير للحيلولة دون وصول دورية السنغاليين بسهولة. قمنا بالمهمة خير قيام. وقد ساعدني بمراقبة الطرق الرفقاء يوسف نصر، إلياس نصر، ومحمود سلمان الصدّيق، وعبدالله سلمان الصديق وفوزي مرعي وغيرهم، وجميعهم أصدقاء وأقرباء من كفريا.

*

الأمين سليم سعادة عن الرفيق نديم جواد عدرةصرخة وداع

قلب حاضن حاضر حالم، وعقل باهر ثائر ساخر وأمير وشيخ وكاهن في وجدان واحد.

جليس ساحر ونديم آسر. واكبني كما والدي من قبلي في ترحالي السياسي الحزبي، قائداً محارباً وشريكاً معانداً وحليفاً مساعداً مسانداً. لم يطلب شيئاً إلا المزيد من المحبة والألفة والصدق والجرأة والأصالة، بعيداً عن رياء السياسة والساسة.

أحَبّ الحياة بشغف وحماس وحماوة وحفاوة، ولمّا حجب العمر نورها عنه اعتكف في ثناياها واستراح استراحة المحارب دون تذمّر أو تأفف أو تعفّف.

أعطى لمن حوله كل ما عنده، وقال كلمته ومشى رافعاً رأسه فوق سحب الصغائر.

 

هوامش:

(1) فوزي مرعي: الأمين والمناضل الفذّ. للإطلاع على النبذة المعمّمة عنه الدخول إلى موقع شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية www.ssnp.info.

(2) تحدّثت عن انتقال كلّ من جبران جريج ومأمون إياس في المرحلة الأولى، ثم عبدالله قبرصي وجورج عبد المسيح إلى بتعبورة واتخاذها مركزاً للعمل الحزبي مع بدايات الحرب العالمية الثانية، وذلك في النبذة بعنوان «مرحلة من العمل الحزبي في بداية الحرب العالمية الثانية». للإطلاع عليها مراجعة الموقع المذكور آنفاً.

(3) وهيب عودة: من بلدة أنفة. كان شاعراً معروفاً في المهجر البرازيلي. للإطلاع على النبذة المعمّمة عنه مراجعة الموقع المذكور آنفاً.

(4) وجيه الأيوبي: مراجعة الموقع المذكور آنفاً.

(5) جورج حكيّم: كما آنفاً.

(6) علي شلق: كان شاعراً معروفاً. والد الوزير السابق الفضل شلق.

(7) لديّ معلومات أولية عن الحضور الحزبي في منطقة القويطع، وعلى الأخص في بلدة بتعبورة. وقد عرفت فيها كلاً من الرفيق المدرّس إلياس نصر وأولاده الرفقاء نبيل، نبوغ ونجاح عقيلة الرفيق جمال الأخرس، الرفيق الدكتور حسيب بربر وعرفت ابنه الرفيق يوسف، شقيقته الرفيقة ماري عقيلة الأمين جبران جريج، وعرفت عن الرفيق أديب بربر من الرفيقة الراحلة نازك (عقيلة الأمين الراحل شوقي صوايا) وأيضاً الرفيق جرجي إلياس صعب وأولاده، وبالأخص الرفيقة محاسن عقيلة الرفيق الصديق نبوغ إلياس نصر.

(8) آمل أن أتمكّن من إعداد النبذة المفيدة عن انتقال العمل الحزبي في أوائل الحرب العالمية الثانية إلى القويطع، وعن الحضور الحزبي فيها بما هو متوفر لديّ.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى