لا حكومة إلا بقرار داخلي… ولا أمل في الرهان على لملمة أوراق المبادرة الفرنسية المبعثرة
} علي بدر الدين
ليس في الأفق، ما يؤشر الى أنّ الأوضاع في لبنان تسير باتجاه الانفراج السياسي والاقتصادي والمالي والمعيشي والاجتماعي والحكومي، لأنّ التعقيدات تزداد، والأزمات تتراكم، والصراع على التحاصص يتفاقم، والكباش الإقليمي والدولي على أشدّه على مستوى المنطقة ولبنان. على المصالح والنفوذ وتحقيق المكاسب ومواطئ القدم، وكلّ دولة أو محور وفق أولوياته وأجنداته وما هو مخطط له.
على مستوى الداخل اللبناني يبدو المشهد العام، أكثر ضبابية وغموضاً وجهلاً لما يمكن توقعه حاضراً ومستقبلاً، إنْ على صعيد تأليف الحكومة المجمّد حالياً في ثلاجة قوى المصالح والتحاصص والمحاور شرقاً وغرباً، أو لجهة انغماس معظم قواه السياسية في الارتهان والتبعية أو التحالف مع هذه المحاور، وبات من الثابت والمؤكد أنّ الخروج منها، أو تجاوزها والانقلاب عليها، أمر مشكوك فيه وبعيد عن التوقع والتحقق، كأنه تحوّل إلى رباط مقدس أو إلى «زواج ماروني»، وقد أصبحت أثمان وكلفة أيّ خروج أو تمرّد باهظة جداً. هذا يعني أنّ لبنان من خلال طبقته السياسية وحكوماتها المتعاقبة أصبح رهينة ومخطوفاً، أو في الإقامة الجبرية، لمزيد من الضغوط والأزمات الاقتصادية والمالية والاجتماعية، حتى يتوافق اللاعبون الكبار وتتقاطع مصالحهم وينظرون إليه بعين «الشفقة والعطف» ويفتحون له نافذة ضوء لبصيص أمل أو جرعة «أوكسجين» إضافية تنعشه ليبقى أقله على قيد الحياة.
لبنان اليوم وغداً سيبقى محاصَراً في غرفة انتظار صعبة ومهلكة، رغم تعرّضه لحروب وفتن وصراعات وانقسامات وتدخلات خارجية واحتلالات وانتدابات، لوقوعه على فيلق أطماع إقليمية ودولية، ولتضارب المصالح والمخططات والأجندات، والضغط عليه بإملاءات وصفقات وقوانين أميركية جائرة لاستضعافه وجرّه إلى التطبيع مع الكيان الصهيوني، ونهب نفطه وغازه، وإجباره تحت سيف الإغراءات والتهديدات، للقبول بتوطين اللاجئين الفلسطينيين والنازحين السوريين.
الأكثر خطراً وتهديداً لهذا البلد المنكوب هو طبقته السياسية التي رهنت قراره للخارج، وتنازلت عن حقه في السيادة والاستقلال، لتستقوي به على بعضها وشعبها وتسليمه إلى «أيد أمينة» دولية، ما دخلت بلداً، إلا وأنهكته، ونهبت خيراته وفرّقت شعبه، وأفقدته مقومات ومناعة بناء وطن ودولة ومؤسسات.
الأسوأ رغم كلّ هذا السواد الذي يخيّم في لبنان، أنّ هذه الطبقة، لا تزال تنتظر القرار والدعم الخارجيّين، وتراهن عليهما، سياسياً ومادياً واقتصادياً، تارة عبر وعود بعقد مؤتمرات حول لبنان، وتارة أخرى بتقديم قروض ومساعدات، وكأنّ من واجب الداعمين ومسؤولياتهم، ردّ الدين للبنان، ولحكامه الذين اعتادوا على مدّ أياديهم، والشحادة من هؤلاء الذين لم يعلنوا يوماً، أنهم جمعيات خيرية، بل لهم أثمان على لبنان دفعها، ولكنها لم تدفع، وأدّت إلى إغراق البلد في الديون، والى الانهيار الاقتصادي، والإفلاس المالي، وتعميم الفساد وإفقار الشعب وتجويعه.
انتظرت الطبقة السياسية، الانتخابات الأميركية ونتائجها التي لا تزال «معلقة» على جنون دونالد ترامب وأوهامه وتعجرفه، وما يضمره ويخطط له «لقلب الطاولة» على الرئيس المنتخب وعلى أميركا وربما العالم، قبل الوصول إلى خط نهاية وجوده في البيت الأبيض وعملية التسليم والتسلّم، منتصف كانون الثاني المقبل.
العالم يترقب، ماذا سيفعل ترامب، رداً على هزيمته، ولبنان ينتظر، من دون أن يعرف مدى سيكون مصيره، في خلال الشهرين المقبلين من عمر ترامب في موقعه الرئاسي، أو بعد انتخاب بايدن.
سئل أحدهم عن الفرق بين الرؤساء الأميركيين، قال كالفرق بين الشياطين والأبالسة.
المثير والمستغرب أنّ الطبقة السياسية لا تزال، تعوّل على المبادرة الفرنسية أو ما تبقى منها، والرهان عليها لفكفكة عقد تأليف الحكومة. لعلّ الموفد الفرنسي باتريك دوريل ينجح حيث فشل الآخرون. إنه وغيره عبثاً يحاولون، لأنّ هذه الطبقة، لن تغيّر من نهجها وسلوكها وتحاصصها، ولن تتخلى عن أيّ مكسب حققته من مصالح، وراكمته من ثروات، ولن تتنازل عن إمساكها في السلطة، رغم ما اقترفته بحق الوطن والشعب والدولة ومؤسّساتها واقتصادها وأموالها، وما أنتجته من فشل ذريع وآخره في تأليف الحكومة، التي هي في هذه المرحلة الصعبة، ضرورة ملحة مهما كان شكلها وعنوانها، مع أنها لن تخرج عن التحاصص الذي شهدته كلّ الحكومات السابقة ولتعلن الطبقة الحاكمة والرئيس المكلف عن عجزهما أو عدم قدرتهما على التأليف، والتوجه لتعويم حكومة تصريف الأعمال مع إدخال تعديلات في بعض الأسماء والحقائب.
إنّ الرهان على التأليف المحاصَر بالشروط والمصالح، وارتباطه بالصراع الإقليمي والدولي، ساقط وفي غير محله، ولا يمكن التعويل عليه، ولأنّ التأليف مرتبط أساسا وقبل أيّ شيء، بإصلاحات حقيقية، وهذا ما لم تلتزم به الطبقة السياسية حتى لو «تصومل» لبنان أو انهار كلياً، ولم تعد تنفعه كلّ التدخلات والمبادرات الخارجية التي من أولوياتها مصالحها فقط.
ما يطلبه اللبنانيون الغارقون في الضياع والفقر والمرض وانسداد سبل العمل والإنتاج، حكومة «وحدة وطنية» بعيداً عن مصطلحات لا تعني له شيئاً، ولا تهمّه. ما يحتاجه حكومة تعيد الانتظام العام لكلّ مقومات الدولة ومؤسّساتها، كخطوة أولى لا بدّ منها.
إنّ الاعتماد على الخارج لم يعد ممكناً ومفيداً، وأصبح مكلفاً كثيراً، وليس هناك ما يوحي او يثبت، أنه قادر أو يرغب بتطويع هذه الطبقة، التي هو من صنع بعضها، واستقوى البعض به، وتربّى في كنفه، وتدرّب على أيديه.
الحكومة لن تؤلف، إلا بقرار داخلي «ما حكّ جلدك مثل ظفرك» و»مكة أدرى بشعابها» مع «أنّ دود الخلّ منه وفيه»، بعد أن سقطت أوراق المبادرة الفرنسية، رغم زيارة الموفد الفرنسي الذي يحاول لملمة أوراقه المبعثرة «علّ وعسى» يعثر على كلمة السرّ المعرقلة للتأليف ويفكّ شيفرتها ويحلّ ألغازها.
وهناك جنوح الإدارة الأميركية في ظلّ تعنّت رئيسها الخاسر في الانتخابات وجنونه وعقوباته المسيلة، وتراجع الموقف العربي عن دعم لبنان أو الوقوف معه في هذه المرحلة.
على الطبقة الحاكمة، اتخاذ القرار الذي تأخر كثيراً، والمبادرة بإصلاح ما أفسدته وإعادة بناء القليل مما هدمته، وإرجاع المال العام والخاص الذي نهبته، أو جزء منه، إلى خزينة الدولة، أو إنشاء صندوق وطني يخصص لدعم مؤسسات الدولة والشعب، على أن لا يكون على شاكلة صناديق النهب الموزعة حصصاً سياسية وطائفية ومذهبية. ربما وهذا أكيد أننا ننفخ في «جربندة مفخوتة»، لأنّ الحاكم أياً كان في لبنان لا يرى ولا يسمع ولا يعتبر، ولا يأخذ الكلام على محمل الجدّ، ولا يملك الجرأة والشجاعة ولو لمرة واحدة، ويؤمن بأنّ للكلمة مفعول السحر. ويقال «إنّ الرصاصة قد تقتل شخصاً، أما الكلمة فقد تقتل أو تحيي وطناً وشعباً».
فهل تستمع الطبقة الحاكمة إلى كلام الحق والصدق الذي ينقذ لبنان قبل السقوط في الهاوية؟ أم أنها استبدلت الكلمة التي كانت في البدء، بفعل استمرارها في سلوكها وأدائها السلطوي الذي لا يبشر بالخير، ولا التفاؤل بالإصلاح والتغيير والمحاسبة ولا بتأليف الحكومة؟
هذا لا يعني أنّ الشعب الصامت، العاجز عن مواجهة جلاديه، لا يتحمّل المسؤولية، عما آلت إليه الأوضاع المأساوية في لبنان، وهو أولى وأكبر ضحاياها ويحضرني قول حكيم: «لا تصمت عن قول كلمة الحق، مهما كان مراً، فعندما تضع لجاماً في فمك سيضعون سرجاً على ظهرك».
وصدق من قال، «بلغ السيل الزبى».