حكومة التحاصص «معلقة» حتى إشعار آخر…
علي بدر الدين
يعتقد اللبنانيون، أو عن قناعة ترسّخت في «ثقافتهم الوطنية» بمرور الزمن، أنه لا يمكن تأليف أية حكومة في لبنان، من دون تقاطع المصالح الدولية والإقليمية، والتسويات والتدخلات والمبادرات الخارجية، أو الحاجة إلى ضوء أخضر من هذه الدولة او تلك. وقد ثبت بالأدلة والبراهين وطريقة تأليف الحكومات في لبنان، انّ هناك من يسوّق لهذه «الثقافة» من القوى السياسية، وتحويلها إلى «عرف» وأمر واقع، وخيار لا بدّ منه، لتبرير فشلها وعجزها وقلة حيلتها، ولتغطية تبعيتها وإارتهانها، وبيع قرارها «الوطني المستقلّ» بأبخس الأثمان، لمن يشتري سيادة الدول الضعيفة والفقيرة واستقلالها وحرية شعوبها من حكامها القاصرين، والضعفاء، الذين تخلوا عن واجباتهم ومسؤولياتهم وشعوبهم، مقابل ثمن زهيد سياسياً واقتصادياً ومادياً وسلطوياً، لاعتقادهم أنّ الشاري بقوة سلطته وماله ونفوذه، يوفر لهم الحماية ويصون مواقعهم السلطوية ومصالحهم.
لم يدرك الذين باعوا أوطانهم وشعوبهم في أسواق النخاسة الإقليمية والدولية، أنهم باعوا قبل كلّ شيء ضمائرهم وكراماتهم وثقة الشعب بهم، واحترامه لهم، كما المجتمع الدولي.
التاريخ البعيد والقريب، مليء بالأمثلة التي لا حصر لها عن مصير الذين خانوا أوطانهم، وقد خسروا الدنيا والآخرة، ولم يربحوا سوى السمعة السيئة، والأفول والتحوّل إلى مثال لا يذكر إلا للدلالة على الخيانة.
ما يحصل حول تأليف الحكومة، وتعليق شماعة تعثرها على انتظار توافق وتسويات إقليمية ودولية، وماذا سيفعل الرئيس الأميركي الخاسر، الهائج في مدة ولايته المتبقية وتأثيره على لبنان، ثم انتظار تسلم الرئيس الأميركي الفائز، وإعادة ترتيب هيكلية إدارته الجديدة، ومعرفة إتجاه رياح سياستها الخارجية و«حصة» لبنان فيها.
هذا يعني، انّ على اللبنانيين أن ينتظروا أشهراً، وربما أكثر، حتى تتوضح صورة المشهد الدولي والإقليمي، ومراجعة الاتفاقات والمعاهدات المعقودة، ومكامن الربح والخسارة، وحماية المصالح والنفوذ وتحقيق المكاسب.
كلّ هذا لأنّ الطبقة السياسية الحاكمة، منذ إتفاق الطائف لم تستطع تأليف أية حكومة إلا تحت الضغط الخارجي وبمساعدة «الأصدقاء» والأشقاء، ويبدو أنها مع تأليف الحكومة الموعودة، ليست في عجلة من أمرها، ولا همّ عندها، إنْ انهار اقتصاد البلد، وأفلس مالياً، وتراكمت ديونه الداخلية والخارجية، وتعطلت مؤسساته، ونهبت أموال دولته، وإنْ مات شعبه جوعاً او مرضاً.
المهمّ أن تبقى هي وعوائلها وأزلامها والمقرّبين إليها، بألف صحة وسلامة، وأموالها المكدّسة في مصارف الداخل والخارج بمأمن ومنأى عن أيّ خطر واستهداف.
هذه الطبقة بمعظم مكوناتها، هي من تعرقل تأليفها وإفشال كلّ المساعي، الدولية لتجاوز قطوعها، ما يؤكد بطلان التأثير الخارجي، وانتفاء دوره وانكفائه، وهذا واضح من خلال عدم التجاوب مع المبادرة الفرنسية، التي حظيت بموافقة معظم القوى السياسية والحزبية التي التقاها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في قصر الصنوبر، ونالت رضى وقبول أميركي مع أنه مشروط وكذلك دول إقليمية.
المشكلة الأساس ليست في المبادرة شكلاً وليست أيضاً في فرنسا ولا في رئيسها، بل بما تضمّنته من بنود إصلاحية حقيقية وإنقاذية، رأت فيها بعض القوى المنغمسة بالفساد والنهب والمحاصصة والصفقات، استهدافاً غير مباشر لها، وقد تكشف عنها المستور المخبأ منذ ثلاثة عقود، الذي قد يشكل لها فضيحة بجلاجل، ومقتلاً، ونهاية غير متوقعة وغير سعيدة، وهي ليست في وارد ان «تجلب الدب إلى كرمها»، او تفتح لنفسها أبواب جهنم الموعود.
إنّ الطبقة السياسية، التي تعرف تماماً من أين تؤكل الكتف، وقد تمرّست بفعل الأكل «بالطالع والنازل»، عندما كانت تستجيب للقرار الخارجي لتأليف حكومة، ليس خوفاً أو خضوعاً، بل لأنه كان يحقق لها مصالحها، ويؤمّن استمرارها في السلطة، ويحمي امتيازاتها ومكتسباتها، ويقوّي نفوذها في بيئاتها الحاضنة وخارجها، وداخل طوائفها ومذاهبها.
ولا هدف من تقلب مواقفها تجاه المبادرة الفرنسية، سوى شراء الوقت، وضمان مصالحها و«مستقبلها» السياسي والسلطوي وإبعاد كأس الإصلاحات الحقيقية المرة عنها، ومن أجل تيئيس فرنسا ورئيسها وفريق عمله وإحباطهم، برسائل منمّقة منهم لكنها مغلفة بالنفاق والألاعيب السياسية المعهودة، وبأنها مع المبادرة وضدّها في آن، لأن شروط التأليف لا تخدم مصالحها، ولا قدرة لها على تحمّل تداعياتها، والرضوخ لها، وهذا يعني بالنسبة لها سقوط الهيكل على رؤوسها، وخراب قصورها العامرة، بتعب الناس وعرقهم وحقوقهم التي تمّت مصادرتها وسلبها.
وتوّج فشل المبادرة أو تراجعها وربما تعليقها، بالخاتمة الضبابية، لزيارة الموفد الفرنسي باتريك دوريل، الذي أعلن أنّ زيارته استطلاعية ولإعداد تقرير عنها للرئيس ماكرون، تحضيراً لزيارة مقرّرة ومرتقبة إلى لبنان الشهر المقبل.
موقف دوريل يؤشر بوضوح إلى أنّ التوقيع على المبادرة الفرنسية مؤجّل، وأن لا حكومة بانتظار زيارة ماكرون إذا ما ظلت واردة، وغيرها، كما أسلفنا من تطورات الأوضاع في الإقليم وأميركا، وعلى خارطة العالم.
في المحصلة النهائية، أنّ الطبقة السياسية، لو أرادت تأليف الحكومة، على طريقتها التقليدية التي تحقق مصالحها وتؤمّن لها «تحاصصاً عادلاً» لفعلتها منذ زمن، أما أن تؤلف حكومة تحرمها بعضاً من هذه المصالح، فهذا غير مرغوب فيه حتى لو تدخل العالم، وليس فرنسا فقط.
وهي بعد كلّ عقود الفساد والنهب والتحاصص لن تقبل ان تسلم رقابها، بإرادتها لحكومة إنقاذية، عنوانها الإصلاح والتغيير والمحاسبة، قد تؤسّس لقيامة الدولة العادلة والمؤسساتية، وإسقاطها ومحاسبتها، وهي من أسقط الجميع، ومنهم الدولة، وهي من حاكم، وحاسب، وأمر ونهى.
لهذا كله، وأكثر منه، لن تقبل القوى السياسية الحاكمة، بأية حكومة لا تكون من تفصيلها وعلى قياس مصالحها التي لا تعدّ ولا تحصى، إلا على «جثثها».
بكلّ بساطة وصراحة، فإنّ توقيت تأليف الحكومة وحجمها وتوزيع حقائبها وشكلها وعنوانها، تحدّده فقط الطبقة السياسية والمالية وهي صاحبة القرار ومفتاح باب التأليف في جيبها، وعندما تتوفر لها، عناصر الشراكة الفعلية بين منظومتها السياسية، وتوزع الحصص بالتساوي، وتحظى برضى الجميع، فإنّ الحكومة تؤلف «برمشة عين» بدعم أو قرار خارجي أو بدونه، لأنها مطمئنة على وضعها وقدرتها على العرقلة، ولأن «العجلة من الشيطان»، كما انّ المماطلة في التأليف هي من شياطين السياسة، الذين يشهدون على سقوط وطن وموت شعب، وهم من أشعل النار في البلاد والعباد، ويتفرّجون عليها وهي تحرق ما تبقى من أخضر ويابس. المهمّ أنهم لم يتشظوا منها، ولم يحرقهم لهيبها، وهم حتماً سيكونون وقودها، وإن طال الزمن…