ماذا تغنّي مصر اليوم؟.. هلوسات كلاميّة وموت سريريّ وفقدان للهويّة!
} جهاد أيوب
مَن يستمع إلى غناء مصر اليوم يشعر بصدمة ولعيان، صدمة لأن الموروث المهم، والتأسيس الأهم غائب كلياً عند غالبية مشاهير مَن يغنّي ويكتب ويلحّن ويسمع، ورغم أن القنوات السمعيّة والبصريّة في مصر لا تزال تحافظ على ذاك الموروث المشروع إلا أن الواقع عكس التمني!
ولعيان للمعاني الفارغة الهستيريّة في الشكل والحركات والأسماء والتصرفات، وربما الحالة الاجتماعية، والفوضى الحياتية، والوضع المعيشي، وعدم اكتراث أهل السياسة بتنظيم تطوير الحال جعل الشباب وغالبية الناس تهرول إلى الفن الهابط، والمُعيب بهلوسات كلاميّة، وثرثرات فارغة تفسد الذوق، والفاقد للهوية ولكل جهود التجارب القديمة الرائدة!
منذ أكثر من 30 سنة قال محمد عبد الوهاب حينما سألوه عن واقع الفن في مصر: «الجمهور مات»!.
اليوم نستطيع القول إن الفنّ في مصر يعيش غيبوبة والموت السريريّ، وحينما يصاب الفن المصري بمرض سرعان ما يصيب العالم العربي. فمصر ميزان النجاح الفني مهما حاول بعضهم تغيير البوصلة!
العودة إلى التأسيس
دعونا نعود إلى الذاكرة لنشير إلى عظمة تلك الجهود مهما اختلفنا ذوقياً، ولكننا نتفق إبداعياً، ونقول بأن الفضل يعود إلى المطربة الكبيرة إم كلثوم والقليل من أبناء جيلها في تهذيب الأغنية المصرية، وتدعيمها بقيمة الكلمة واللحن المخصص للكلمة ومعانيها، وليس استفزازاً للحن بكلام من هنا وهناك، بكلام شوارعي يصلح للنوادي الليلية كما هو اليوم!
في تلك الفترة وجد مَن يغنّي بكلام استهلاكي غير لائق، ويشبه بغنائه ما هو سائد اليوم بشوارعيّته مع فارق أنه يغنى في الحانات والنوادي الليلية الضيقة بمفردات ساذجة، وجاءت ظاهرة إم كلثوم التي دخلت منطقة جديدة في الغناء المصري تحديداً ومن ثم العربي، وشكلت مع القصبجي تختاً غنائياً خاصاً، إم كلثوم منذ البداية قررت التحرر من حال الغناء كما حال تجربة محمد عبد الوهاب، ومن ثم زكريا أحمد. ومن الخطأ أن نتجاهل تجربة سيد درويش، مرحلته أحدثت التحديث الأكبر والمتطوّر في الغناء المصري، ولكن الموت سرقه باكراً فكانت مرحلة إم كلثوم الأغنى، وكان محمد عبد الوهاب الامتداد الأهم في تطوير كل الغناء المصري، يُضاف رياض السنباطي الذي أخذ اللحن إلى الأصالة الشرقية، وفريد الأطرش وهذا الأخير هو الأهم في ترسيخ الأغنية الشعبية تطويراً وصعوبة الأداء واستخدام العُرَب الأصعب والصح.
إن هذا المجموعة التي ذكرناها شكلت مسؤولية عند الجيل الذي جاء بعدهم مباشرة وفي حضورهم ليكتسب التنويع المطلوب في فاكهة الفن أمثال ليلى مراد وصباح وشادية وعبد الحليم حافظ ومحمد رشدي.
قبل إم كلثوم ومحمد عبد الوهاب واسمهان وسيد درويش كان المونولوج شائعاً، وامتد لآفاق لم تكن موجودة من قبل، وأصبح لغة التعبير في الشارع المصري، ولسان الشعراء في الدور والطقطوقة، وفي هذا المجال أبدع العبقري زكريا أحمد وأعطاها أشكالاً جمالية رائعة، ومع ذلك استغلت في نقل مشاكل الشارع وهمومه مع نكتة وضحكة، وتركيب الكلام المسفّ على ألحان شاعت من قبل أصوات شعبية ضمن أحياء ضيقة، ولكنها لم تقدر على أن تشكل حالة كما واقع اليوم للأسف!
شارة
حينما غنّت السيدة صباح أغنية «عالبساطة» وانتشرت عربياً انتشاراً كاسحاً، وقفت بعض الأقلام النقدية المصرية ضد الأغنية، واعتبروها أغنية شيطانية، وكانت صباح تعيد هذه الأغنية أكثر من مرة في حفلتها الواحدة!
ولجنة مهرجانات بعلبك طلبت من صباح عدم غناء الأغنية، ولكن الجمهور طالبها بها فغنتها ثلاث مرات في الحفلة!
وحينما بدأ الأخوان رحباني تجاربهما مع الموسيقى والشعر قامت قيامة الموسيقيين في الإذاعة اللبنانية، وما أن سجلت السيدة فيروز « لا لا لا» وأذيعت اعتبرها النقاد من أعمال الشيطان، وبأنها تجربة ضد الموسيقى الشرقية فذهبوا إلى إذاعة دمشق لتتبنى العمل والتجربة الرحبانيين!
اليوم يغتالون التأسيس
لا أعرف إذا كان ما نسمعه اليوم في الغناء المصري يحق لنا أن نعتبره غناء، أو يندرج ضمن لعبة الفن، الكلام الله يرحم الشعر، والأداء ارتجال لا ميزان موسيقياً فيه، وألحان لا علاقة لها بالموسيقى لا الشرقية ولا الغربية، أما الصوت فهو خارج الحنجرة والمكان والزمان، ومن المستحيل يصلح بعضه للغناء!
وحتى لا يُقال إننا نتحدث بالمطلق ندعوكم إلى هذه الكوكبة العجيبة من أسماء تحتل الساحة الغنائية في مصر، ومنها حسن الشاكوش «اشرب حشيش»، وعصام صاصا، وسامر المدني، ومحمد رمضان «أيوة جدع، وبام بام»، ومحمد صلاح «ومولعها أكثر»، وكزبرة وحنجرة، وشواحة، وحمو بيكا، ومحمد كمال «شوفت لهلولة، تاريخي غير تاريخك»، حسن البرنس «عوزة الفاجر ايوة أنا سافل، بنت الجيران من مصر إلى لبنان»، وأوكا، وريشا كوسا وسمارو، والسادات، وأورتيجا….!
أما العجب العجاب أن هذه الأسماء لا تتنازل وتقول إنها تغني في حفلة، بل يفاخرون في إعلاناتهم بكلمة «مهرجانات»، ودعونا نقف عند عناوين تلك المهرجانات، ومنها «مهرجان ذكور، وعود البطل ملفوف وعود البنات عالي، ودنيا المرجيح، وعالم مخنوقة منكم، وأنا بأمانة، وشوكولاتة سايخة وجوى الكيك، ويهوايا إنت قاعدة معايا، والمهلبية»!.
قل لي مَن تسمع أقول لك مَن أنت، وهنا من أسماء وعناوين مهرجاناتهم تعرف من هم، هذا فقط من خلال العنوان، أما الأسماء فمنها ما هو شي تكتك وشي تيعا مع إحترامنا لكل الأسماء!
من حقنا أن نلفت إلى أن غالبية كلمات أغاني من ذكرتهم تعتبر حالة إرهابية في المعاني، وفارغة من أي مضمون معنوي وفكري وإنساني وعاطفي سوى أنها تتجمل بعض الشارع المرهق والمبتسم لسماعه للكلام السفيه، وتغازل انشغالات الناس بالبحث عن لقمة العيش والرزق والطبابة والعقم السياسي والحروب المتكالبة عليهم دون السلاح الدامي بل بالتضييق الاقتصادي، لذلك نجد الشباب متحمساً لهذه النوعية من الغناء الفارغ غير المنتمي إلى فن الغناء!
ومن حقنا أن نسأل أين أصحاب الأصوات المهمة في مصر، وأين شعراء الإبداع، والمواهب اللحنية التي كانت ترسم خط الغناء المصري والعربي، هي موجودة، ومصر خلاقة، ولكن أين هي، ولماذا غائبة، ومَن زاحها؟!
نعم السائد اليوم في مصر هذا النوع من التخدير والتحشيش الكلامي، والثرثرات اللفظية بحجة الغناء، واللعب على وتر نغم واحد لا نعرف ما معنى ترداده بحماقة الأداء، وما يسعد الفن أن غالبية الإذاعات والقنوات المصرية لا تذيع هذه النوعية من الأعمال، والوحيد الذي حقق نجومية كبيرة في مصر هو الفنان الممثل محمد رمضان ليس بفضل ما يغنيه بل بسبب طريقة ملابسه، وجنون حضوره والإشكالات التي ترافقه دائماً، والأهم المسلسلات الرمضانية التي تكتب خصيصاً له، ويجسّد من خلالها إبن الحارة المصرية المظلوم الذي قرّر الانتقام!
لكل عصر فنونه، وفنانوه، وكتابه وإعلامه، ومع ذلك لن يبقى إلا صاحب الموهبة التي ثقفها، ومن ثم حملها مسؤولية في حضورها وتطورها وتميزها، ولا عجب إن عدنا إلى فن الماضي وعبق الجمال، وبعض القريب منا لآننا اليوم نعيش فناً استهلاكياً لا جديد فيه سوى إسفاف الفن والترحم على جهود الماضي المبهر مع أن الأغنية الشهيرة والأكثر انتساراً وترداداً في الشارع المصري «سكر محلي محطوط على كريمة» صفعة لكل الماضي والحاضر !