السفارة «الإسرائيلية» في القاهرة
} الأمين سمير رفعت
شكراً للأمين الصديق سمير رفعت الذي يتابع إغناء تاريخ حزبنا بالمرويات والمعلومات المفيدة التي تسرد الكثير من المراحل المجهولة.
ل. ن.
توقفت طويلاً أتأمّل شبان مصر، مصر عبد الناصر لا مصر السادات أو مبارك، رافضي التطبيع مع العدو اليهودي من خلال مظاهرات شهدتها القاهرة، وهم يزيلون العلم «الإسرائيلي» من على ما سُمّي بالسفارة «الإسرائيلية» في القاهرة… أكبر عاصمة عربية… وعادت بي الذاكرة إلى تسعينيات القرن الماضي حين كنت في عداد وفد مجلس الشعب الشامي، الذي كان له «شرف» زيارة القاهرة كأوّل وفد سوري يذهب إلى هناك بعد القطيعة التي دامت منذ وقّع السادات صكّ خيانة الشعوب العربية قاطبة في معسكر داوود، وبعض الأعراب الأشدّ كفراً ونفاقاً كما نعتهم القرآن الكريم يهرولون اليوم لحجز أماكنهم في حذاء – أيّ بجانب – نتنياهو وترامب، وقد حق فيهم قول الشاعر السوري نزار قباني:
لولا العباءات التي التفّوا بها
ما كنت أحسب أنهم أعراب
وصلنا القاهرة، وكنت أزورها للمرة الأولى في حياتي، نمنا ليلتها في الفندق على أن نستقبل في صبيحة اليوم التالي وفي الساعة الحادية عشرة رفعت المحجوب، رئيس مجلس الأمة المصري، الذي لم يكن في القاهرة ساعة وصولنا، لذلك لم يكن في استقبالنا في المطار…
في التاسعة والنصف صباحاً التقينا في جناح الأستاذ عبد القادر قدورة، رئيس مجلس الشعب، فاقترح أن نقوم بجولة بالسيارات ريثما يحين الموعد في الحادية عشرة… وبالفعل امتطى كلّ عضو في الوفد سيارة حملت لافتة بيضاء تقول «وفد مجلس الشعب السوري». قمنا بجولتنا، وخلالها حاولت سيارة مازدا مصرية قطع رتل سياراتنا، الصدفة أنّ المحاولة كانت من أمام السيارة التي أستقلها، ثاني سيارة في الرتل، أما السائق فلم يسمح لسيارة المازدا بذلك…
انتهت الجولة وعدنا إلى الفندق قبل الموعد المحدّد بعشر دقائق.. ذهبت إلى غرفتي أستريح قليلاً وكان المذياع يُسمِعني صوت إذاعة «مونتي كارلو». دقائق حتى سمعتُ طلقاتٍ نارية قريبة نوعاً ما… دقائق أخرى أعلنت إذاعة مونتي كارلو نبأ مقتل رفعت المحجوب، رئيس مجلس الأمة المصري وهو في طريقه لملاقاة وفد مجلس الشعب السوري.
توجهتُ فوراً لجناح الأستاذ قدورة.. قلت له: الذي ننتظره قد قُتل… استغرب إذ إنه لم يسمع الخبر.. نادينا ضابط الأمن الذي كان مولجاً حمايتنا.. سألناه: هل الموعد ما زال قائماً؟ قال: لم نُبَلَّغ أيّ شيء آخر ولكن قد يؤجّل قليلاً.. أجبته: ولكني سمعت أنّ الأستاذ محجوب قد اغتيل، ولا بدّ أنك سمعت الطلقات النارية القريبة… أجاب بالإيجاب، ولكنه لم يبلّغ بعد إلغاء الموعد.
مرّت نصف ساعة أو أكثر ونحن نتحاور في جناح الأستاذ قدورة، إلى أن جاء ضابط الأمن ليبلغنا النبأ: بالفعل قام بعض المسلحين باغتيال رئيس مجلس الأمة المصري وهو في طريقه إليكم، وكان ذلك قبل وصوله إلى الفندق بدقائق.. لذلك أبلغتني قيادتي أنّ تحركاتكم يجب أن تكون مدروسة ومبرمجة سلفاً.. وآمل أن أسجل رغباتكم، أخرج ورقة وقلماً ووقف ينتظر…
الأستاذ عبد القادر قدورة رئيس مجلس الشعب السوري رئيس الوفد طلب أن يزور خان الخليلي: لي ذكريات قديمة به.. الأستاذ شاكر أسعيد رئيس لجنة الشؤون العربية والخارجية في المجلس سجل الأهرامات وأبو الهول وما شابه… آخرون كانت لهم طلباتهم… تطلّع ضابط الأمن إليّ منتظراً أن أعلن رغبتي.. لم أجعله ينتظر طويلاً، قلت له فوراً: أريد أن أَمُرّ من أمام السفارة «الإسرائيلية». سألني ضابط الأمن: ليه يا فندم؟ قلت له: أريد أنّ أرى العلم «الإسرائيلي» مرفوعاً في أكبر عاصمة عربية، وأن أرى رجل الأمن المصري يقوم بحراسته.. لقد رأيت هذا المنظر في أصغر عاصمة عربية هي بيروت أثناء الاجتياح الإسرائيلي في العام 1982، فقد حاول اليهود إظهار علم من الكرتون صغير الحجم من شباك حمّام في مبنى جامعة «الإيكول دي ليتر» Ecole des lettres في بيروت الشرقية.. العلم الكرتوني استفزّ شبان المقاومة فقاموا بالتعامل معه بما يلزم.. هؤلاء الشبان كانوا من الحزب السوري القومي الاجتماعي، وكان قائدهم الشهيد خالد علوان واسمه الحركي ميشال، والذي أعلنه محرّر بيروت بعد عملية «الويمبي»، فقد قمت وزوجتي الرفيقة هدى بزيارة جميع مواقع الحزب إبان الحصار، ومنها الموقع الذي كان بإمرة الرفيق خالد علوان – ميشال – وقد أراني العلم اليهودي القزم الذي يحاول اليهود إظهاره من خلال شباك الحمام، قال لي الرفيق خالد: لا نستطيع أن نتحمّل رؤية هذا العلم، وهناك قرار بوقف القتال على خط التماس الذي رُسم بين ما كان يُسمّى الشرقية والغربية. قلت له: سآتي غداً، وأريد أن لا أرى هذا العلم في مكانه.
في الليل، قام الرفقاء بإزالة هذا العلم القزم من خلال عملية بطولية، وقام الرفيق خالد علوان بوضع علم الزوبعة على المبنى الذي كان بإمرتهم. وفي طريقنا إلى الموقع كانت تتراءى لي الزوبعة من بعيد، ظننت لوهلة أني أتخيّل، سألت زوجتي فأجابتني بنفس التساؤل.. حتى وصلنا المبنى ورأينا علم الزوبعة على سارية في أعلى المبنى، وبعد لحظات وصل الرفيق خالد علوان ملفوفاً بكميات من الشاش الطبي وجسمه مغطى بالأدوية الحمراء المطهّرة، استغربت وسألته كيف أصيب، قال لي: بعد أن قمنا بعملية إزالة العلم «الإسرائيلي» القزم أردت أن أضع علم الزوبعة الكبير فوق المبنى، وما هي إلا لحظات حتى أصابتني طلقة قناص في كتفي، قلت له وكيف لم تهوِ من الأعلى، قال لي بكلّ ثقة القومي الاجتماعي: لقد تمسكت بعلم الزوبعة.. ألا يستحق هذا البطل أن يكون أميناً على الحزب وبه، وألا يستحق صفة محرّر بيروت من اليهود؟
أعود إلى الأستاذ قدورة الذي استغرب طلبي، سألني: ماذا يفيدك مرورك من أمام السفارة «الإسرائيلية»؟ حينها ذكّرته أننا أول وفد سوري رسمي يزور مصر بعد توقيعها اتفاق معسكر داوود والمقاطعة العربية التي استمرت سنوات…
قام الوفد بجولته محققاً رغبة كلّ عضو منه.. خان الخليلي، مقهى نجيب محفوظ… الأهرامات… أبو الهول… أما رغبتي فقد تحققت فور انطلاقنا من الفندق… ومرّت السيارات التي تُقلّنا من أمام المبنى الذي تحتلّ السفارة «الإسرائيلية» طوابق فيه.. أما العلم الإسرائيلي فقد رأيته مرفوعاً عليها.. إلى أن قام شبان مصر، مصر عبد الناصر لا مصر السادات أو مبارك، بإنزال العلم الذي يمثّل عار مصر.. حتى ولو إلى حين…
وفي اليوم الثاني من وجودنا في القاهرة، أُبلغنا أنّ السيارة المازدا التي حاولت قطع رتل سياراتنا هي التي اغتالت رفعت المحجوب بمساعدة راكبيّ دراجة… السيارة قطعت الطريق أمامه، وراكبا الدراجة أطلقا النار وفرّا… والأغلب أنهم ظنوا وجوده معنا في ذاك الصباح القاهري.. أو أنهم خلطوا بين رفعت المحجوب وسمير رفعت…!