«رباعيّة بيروت: أناشيد»… صلة حبّ وإخلاص
} زياد كاج
احتفاليّة الشاعر المهجري فارس الحرموني الصادرة عن «دار نلسن»(طبعة أولى 2020) بعنوان «رُباعية بيروت: أناشيد»، هي صلاة حب وإخلاص بلغة شعرية أنيقة لمدينة بيروت التي أدمنها الشاعر منذ الصغر الى حافة العمر حتى الثمالة وسمو المعنى. فالمجموعة الشعرية المكوّنة من أربعة أناشيد يصلح بعضها لأن يتحول الى أغانٍ وتراتيل، مهداة الى شقيقة الشاعر المرهف والى الأجيال الآتية لخلاص بيروت ولبنان. ويعود ريع الكتاب لمساعدة المتضررين من تفجير مرفأ بيروت في 4 آب.
بشفافية نادرة ولغة متمكنة، يتمنى الحرموني لو يكون «غارسيا ماركيز»الشرق كي يكتب عن مدينته الحبيبة أبلغ مما كتب.. لكن الغربة والسفر كانا أقوى. فبيروت بالنسبة له هي امرأة كاملة يطلب منها أن تتقبل منه كتابه الشعري العابق بمشاعر الحب والإخلاص للحبيبة الأولى — «فاتنة التاريخ»التي انطلقت من شواطئها «الأشرعة والحروف ونبيذ الكرمة والزيتون… عشتار وأدونيس.. وخشب الأرز والسنديان». بيروت التي صمدت أمام الغزو والزلازل وكانت كشهرزاد كل صباح حكاية جديدة.
يحفّر الشاعر المسكون بعشق وهيام للمدينة عميقاً في التاريخ ليعيد الى الأّذهان حقيقة أن بيروت استمرت وبقيت «عروسة التاريخ والأزمان»أمام السلاطين والسلالات الغازية على اختلاف وتنوع راياتها وأيديولوجياتها. ثم ينقلنا بلغة شعريّة الى أمكنة بقيت حية في ذاكرته (وهي أسماء ربما نستها الأجيال الشابة): «ساحة البرج، الجميزة، وعين المريسة.. المعرض والطويلة، سرسق والنورية»، ولا ينسى قهوة الحاج داوود والسان جورج وجنينة الصنايع ومقاهي الروشة ومطعم فيصل في رأس بيروت… الأمكنة وناس بيروت عنده سيان: كلهم، احتموا بك طوال الوقت وكنائسهم وجوامعهم..».
لذلك نكتشف أهمية المكان المتأنسن في هذه المجموعة الشعريّة المكتوبة بلغة أنيقة كلاسيكية تذكّرنا بلغة الضاد الأصيلة.
يخاطب الشاعر مدينته: «ساحرة شرق المتوسط»، ويتساءل: «ما أوسع صدرك وحنان قلبك.. في سرك أنت أنت.. شاهدة على ملحمة الخلق والإنسان». اللافت للنظر في «رباعية بيروت»ذلك العمق التاريخي للمضمون الذي يخرج الى القارئ أبياتاً شعرية: «أنت المركز وتموج منك الدائرة.. منذ مأرب سعى البشر إليك..»، وفي السفر والغربة يكتوي الشاعر بالحنين الى الحبيبة – المدينة «نتخمّر ونستولد في حضنك جمرة الدفء..وكم حلمنا حلم الرجوع الى كنفك». لكن «الأغراب عن أسوار»المدينة عاثوا فيها وهدموا و«كبتوا أنينك بضجيج خطابات وأصوات خالية المعاني..».
في أنشودته الثانية بعنوان «راحو وتركوك»يعدد الشاعر أسماء كبار كبروا وتألقوا في بيروت والعالم وبقيت أسماؤهم تلمع في سماء الفكر والثقافة: مثل جبران، نعيمة، الريحاني، سعاده، يوسف الخال، سعيد عقل والرحابنة… ثم خليل حاوي وزكي ناصيف والعلايلي….». وحدها فيروز غار الثقة.. أجمعت آلهة المشرق على صداها.. وحلت بركة «نجمة البحر عليها»(صلاة لمريم)…. تروي الوطن… وحدها فيروز ومع ابنها… وحدها فيروز تغني، تغني وتصلي.. لصخب بيروتي.. تستحضر بركة بيروت البهية.. بيروت نساء المعمورة».
الشاعر مهجريّ قولاً وفعلاً؛ حمل مدينته الحبيبة و»الكشة»على ظهره وجال العالم. كافح وعانى وتعذّب وأصاب نجاحاً معلناً جهارة بيروت «حبيبته بين المدن»و»حاضرة الدنيا وقبلتها»و»إمرأة ناضجة عيناها بحر». وهي «ملكة على التاريخ والماضي.. ولك كل الزمان الآتي».
المجموعة الشعرية بكاملها حُبلى بمشاعر الحب والشغف ببيروت الساكنة في أعماق وجدان وذاكرة الشاعر فارس الحرموني. يخاطبها: «لك أكاليل الغار في كل الأزمنة».. ويسأل بحزن عن بيروت اليوم: «ومن هم هؤلاء أهل التعاسة؟»….. «غدروا بك.. وأوغلوا فيك بارقة الخنجر… لماذا عليك القمامة والذباب… والسم حتى عروقك.. والملك الإله نقيضك، أين هو شعبك؟؟». وهو الشاعر المرهف الذي اعتاد على التنوّع وغرف من «عمر المزامير وسفر الجامعة والوصايا، وسورة مريم وآل عمران وموعظة الجلال على الجبل… وعشتار وغلغامش وجبران…. يا صبية المدائن الدائمة على شاطئ المتوسط..».
فمن يعتاد تنوع الفكر في مدينة كوزموبوليتية، يصعب عليه ويحزنه أن يعود ليراها تكتسى لوناً واحداً داكناً. لكن الأمل بغد أفضل لا يفارقة لشدة أيمانه بها وبناسها.
يختم الشاعر ملحمته الشعرية البيروتية بصلاتين: «صلاة الفلاح لمريم» و«السلام عليك يا نجمة البحر»… راجياً الخلاص.