لبنان والعودة لمنهج تفكير الحرب الأهليّة رغم الإنكار والاستهبال!
ناصر قنديل
– يفترض أن الشعوب تراكم ذاكرتها الجماعية من تجاربها فتتفادى بوعيها التراكمي تكرار الأخطاء ذاتها، وتبتعد عن إعادة ارتكاب الحماقات ذاتها، وتتجنب بالخبرة المتحققة عبر التراكم عبور المزالق الخطرة التي أوصلتها الى المحن والكوارث، لكن هذا ليس أبداً حال لبنان اليوم، فمن يتابع النقاشات السياسية والمواقف المعلنة والقضايا المثارة للنقاش يدرك سطحية السياسة بالمعنى العلمي للكلمة، حيث الشعارات تستبطن ألغاماً تكفي لتفجير البلد عشر مرات، ويجري رميها في التداول بكل بساطة واستسهال واستهبال في الغالب الأعم، إن لم نقل بغباء وسذاجة، او تفاهة وتآمر، فنحن نشهد في سوق السياسة تداولاً لبضائع كاسدة سبق سحبها لانتهاء صلاحيتها، مخاطر تسببها بالتسمم، لكن المذهل حجم الرواج الذي تلقاه هذه البضائع من دون تدقيق. وكيف تتولى شخصيات يفترض أنها تتمتع بالثقافة والخبرة، أو قيادات تتصدّى لمواقع مسؤولة عمليّة التسويق بكل ثقة وجسارة ان لم نقل بوقاحة.
– القضية الرائجة في زمن العقوبات الأميركية والمقاطعة الخليجية والتي يدمن عليها كم لا يُستهان به من جماعات النشطاء وأحزاب وشخصيات هي العلاقة مع حزب الله وسلاحه، وكلها تعزف على وتر واحد، «حروبكم وسلاحكم جلبوا علينا المصائب، لا نتفق معكم على ما تفعلون ولا بما تؤمنون، وأنتم تتحملون مسؤولية بلوغنا الحضيض، والسلاح يحمي منظومة الفساد»، وتكفي العودة لمقال حازم صاغية في الشرق الأوسط أمس، عن صعوبة التفاهم مع حزب الله، ومحوره وضعُ التيار الوطني الحر بعد العقوبات، او الى ما صرّح به رئيس حزب الكتائب سامي الجميل صارخاً بوجه السلاح، تحت شعار لا يُخيفنا سلاحكم، او كلام رئيس حزب الحوار الوطني فؤاد مخزومي في تغريدات وحوارات محورها مساوئ السلاح والحزب الذي يحمل هذا السلاح، لنضع يدنا على ما تضج بمثله وسائل التواصل الاجتماعي من تغريدات ومنشورات لمجموعات وأفراد تندرج تحت العنوان ذاته، ويكفي لاستكشاف حجم السذاجة في التفكير العميق لأصحاب هذه الوجهة، إن أخذنا مواقفهم بحسن نية، أن ندعو للحظة نغمض فيها عيوننا ولتخيّل معاً لبنان من دون حزب الله، كأن تتحقق من دون دماء ومعارك وحروب داخلية أو خارجية معجزة يتمنونها صبحاً ومساء، وهي أن نستيقظ ذات يوم وقد اختفى حزب الله وسلاحه، حسناً لنتخيل أن ذلك قد حصل، فهل يملك هؤلاء المستفكرون، جواباً على سؤال يهربون منه، هو ماذا عن «إسرائيل»، والمقصود هنا ليس نغمة لا عداء عقائدي مع «إسرائيل»، بل مسألة المصلحة اللبنانيّة الثلاثيّة، الحصول على ثروات المياه الإقليميّة اللبنانيّة وفقاً للقانون الدولي، وهو ما يكفي قراءة كتاب الرئيس السابق أمين الجميل عن يوميات حكمه للتحقق من استحالة ضمانه بالدعم الدولي والعربي وفشل وعقم الرهان على المساندة الأميركيّة، وثانياً ماذا عن مصير اللاجئين الفلسطينيين، وثالثاً ماذا عن الحماية الاستراتيجية بمعناها المستدام أمام كيان يملك كل اسباب القوة وله أطماع موثقة بلا حدود تجاه لبنان منذ زمن شارل مالك وتحذيراته، ولماذا يختبئ أصحاب منطق لا للحزب والسلاح وراء ظلال أصابعهم ولا يجاهرون بأنهم لا يمانعون بالتوطين، ولا يمانعون بالتخلي عن الثروات اللبنانية في البر والبحر ولا يمانعون بلبنان خاضع للمشيئة الإسرائيلية بقوة سطوة الجار القوي على الأضعف، طالما انهم يطلبون الانضمام لزمن علاقات الودّ والجيرة مع كيان الاحتلال، وعندها يمكن أن يستوي النقاش بجدية ويحظى أصحاب الرأي بالاحترام لأنهم لا يكذبون، والمؤسف بل المزري أن هذا النقاش استعادة سطحية لنقاش وجودي كلّف دماء في الثمانينيات من القرن الماضي.
– القضية التي لا تقل خطورة، والتي تطفو على سطح السياسة اللبنانية تطال مفهوم الكيان السياسي اللبناني، الذي عاش في السبعينيات والثمانينيات، نقاشات مكلفة تحت عنوان التقسيم والفدرالية، وبدا مع اتفاق الطائف أن خلاصات الحروب علّمتنا باستحالة هذا الخيار الانتحاري، لكنه يعود ليطل برأسه مجدداً كأننا لم نتعلم شيئاً، فهل يخبرنا الذين يقولون باستحالة العيش معاً عن خريطة الطريق التي يحملونها لتطبيق الطلاق الودّي والسلمي بين الطوائف، وهل ينتبهون أن تأثيرات اختلافاتنا ستبقى على الجميع طالما تربطنا ليرة واحدة، إلا أذا توهم بعضهم بإمكانية ولادة دول مستقلة تماماً من لبنان الصغير في مئوية لبنان الكبير، فلمَ لا يخبروننا كيف، أما الفدرالية والكونفدرالية ولو كانت غير جغرافية، من دون تطهير وصفاء طائفي على الطريقة البلجيكيّة، فهل تحل مسألة الخلاف التي يقولون إنها الأهم، وهي تطال السياسة الخارجية، والحرب والسلم، وما هي وصفتهم لحل التناقض حولها في صيغهم العبقرية؟
– القضية الأخطر في النقاش اللبناني هي العودة لعناوين ما قبل اتفاق الطائف، ليس فقط في مسألة دعوات التقسيم التي شكل رفضها ركناً لاتفاق الطائف، ويعرف القاصي والداني أن اتفاق الطائف قام على ثلاثة أركان انبثق منها السلم الأهلي وتم تثبيتها في مقدمة الدستور، وهي نهائية الكيان اللبناني مقابل العلاقة المميّزة مع سورية كترجمة لعروبة لبنان، إقراراً بأن لبنان الملتزم مع ما يتفق عليه العرب ملتزم في حال خلافهم بموقع سورية في حال الخلاف، لمن يفهمون معنى الجغرافيا السياسية التي رسم الطائف طريقها، والركن الثاني هو رفض التقسيم والتجزئة والذهاب الى إلغاء الطائفية السياسية مقابل عدم ربط مناصب الدولة السيادية والسياسية والإدارية بتقاسم طائفي متحرّك على التغيير الديمغرافي في أعداد المنتمين للطوائف، اي دولة يتساوى فيها صوت المواطن بالمواطن بمعزل عن هويته الطائفية، كحق إنساني ابتدائي لا تقيّده أكذوبة تضييع الإلغاء في متاهة النصوص والنفوس، والركن الثالث العداء لـ»إسرائيل» التي تحتل الأرض وتطمع بالمياه ولم يكن النفط والغاز قد ظهرت بوادرهما بعد، وصولاً لتطلع «إسرائيل» لتصفية القضية الفلسطينية، وفرض توطين اللاجئين الفلسطينيين، ولن يكون صعباً رؤية هذه الثوابت في مقدمة الدستور، كخلاصات للإجماع الذي ولد اتفاق الطائف على أساسه، كما لن تكون صعبة رؤية أنها تفاهمات ماتت اليوم، وأن خطابات الفرقاء عادت الى ما كنا عليه تجاه هذه القضايا عشية الانقسامات التي سبقت اتفاق الطائف، فلماذا لا يجرؤ الذين يرفضون السير بأية خطوات نحو إلغاء الطائفية والذين يرفضون السير بأي خطوات نحو العلاقة العادية وليس المميّزة بين الحكومتين اللبنانية والسورية والذين لا يمانعون بالتقسيم والذين لا يمانعون ضمناً بالتوطين، أنهم يخرجون من اتفاق الطائف، وان لبنان يحتاج البحث من جديد عن عقد سياسي اجتماعي بديل للطائف، ان لم تكن الحرب مشروعهم؟
– الحقيقة المرّة هي أنه لو وجد اليوم من يموّل حرباً أهلية، ويضعها ضمن مشروع على مستوى المنطقة، لكانت الحرب أقرب إلينا من حبل الوريد، والبعض يقول هذا هو موضوع اجتماع مايك بومبيو وبنيامين نتنياهو ومحمد بن سلمان!