مؤتمر موسكو لم يفشل: حجز مقاعد للتسويات الكبرى

د. وفيق ابراهيم

تعرفُ المعارضات السورية، بمختلف تنوعاتها، أنّ الأزمة السورية لم تعد محلية، وأنّ إيجاد حلّ نهائي لها يحتاجُ إلى اعتماد أكثر من وسيلة: عسكرية وسياسية وثالثة ابتكرها النظام السوري وهي تجمع بين العسكري والسياسي، وذلك للتعامل الجيد مع الطبقات الإقليمية والدولية للأزمة.

أما تعقد الأزمة، فمردّه التآمر التركي ـ الخليجي و«الإسرائيلي» بغضّ طرف غربي يوصل إلى حدود المشاركة، ما أدى إلى فتح حدود سورية مع تركيا وفلسطين المحتلة ولبنان والأردن والعراق أمام كلّ أنواع التكفيريات العالمية، وضخّ كلّ أنواع التمويل الإعلامي واللوجيستي والتدريبي. فتحولت الأرض السورية إلى أوكار إرهابية ضخمة كادت تطيح بكلّ شيء، لولا بسالة الجيش السوري وتحالفاته مع الميليشيات الشعبية وقوات حزب الله.

هناك إذاً عناصر للأزمة السورية أولها:

النظام السوري وهو الطرف الأقوى الذي يؤدي دور المنتج المستمر لكلّ أنواع الخدمات للدفاع عن الوطن، وهي الخدمات العسكرية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية اللازمة لدعم صمود السوريين، فيذود عن الناس والأرض بتضحيات قلّ نظيرها في التاريخ.

العنصر الثاني، هو الإرهاب التكفيري الذي يتألف من عشرات التنظيمات ومئات آلاف العناصر من 88 جنسية مختلفة، يدمّر ويفتك ويسبي ويقتل ويسرق النفط، معاوداً بيعه عند حلفائه في تركيا والأردن. وهناك إجماع عالمي على أنّ هذا الإرهاب يسيطر على 95 في المئة من المناطق الخاضعة لسلطة «المعارضة».

أما العنصر الثالث، فهو المعارضة الداخلية وبعض القوى الموجودة في الخارج، وهي معارضة معنوية تقدم نفسها على أساس من الصدقية والوطنية، لكنها تنضبط في الإطار العام للمعارضات الخبيثة، خشية حرمانها من أدوار مستقبلية في حال نجح مشروع التكفيريين، كما تتوهم، أو حال النفوذ الغربي دون إنجاز تسوية حقيقية، لذلك نجدها تلعب لعبة «الالتباس» وترسل إشارات مبطنة عن استعدادها للمضي إلى الأمام في حال تأكدها من نهائية التسوية مع النظام.

يُعتبر «الائتلاف السوري» من أكثر المعارضات تمويلاً وإعلاماً والأقل تأثيراً في الساحة السورية، له علاقاته بما يُسمى «الجيش الحر» و«الإخوان المسلمين»، لكنّ أدواره مقتصرة على بلاغات إعلامية تخدم أجهزة الاستخبارات في تركيا والسعودية و«إسرائيل» وقطر والغرب. ومقارّ إقامة صعاليك الائتلاف هي الفنادق التركية والغربية، حصراً، مع حضور خفيف في الدوحة والرياض.

إنّ هذه التقسيمات أدت بمنطقية إلى حضور النظام ومعارضة الداخل مؤتمر موسكو بحصرية. فلم يكن ممكناً دعوة إرهاب لا يؤمن بالدولة والقانون الوضعي والأنظمة الحديثة. وكان مستحيلاً على الائتلاف أن يقبل الدعوة من دون موافقة «معلميه» في أنقرة والرياض والدوحة و«إسرائيل». وهؤلاء لا يزالون يعيشون في حالة انفصام عن الواقع، مصرّين على إسقاط نظام يواصل تحرير سورية وتطهيرها من آثارهم المدمِّرة.

لذلك جاء لقاء موسكو طبيعياً جداً، وتمت المحادثات كما اشتهى المنظم الروسي: الاتفاق على الممكن وإرجاء المتعذّر إلى جلسات لاحقة، من دون وجود معونة أميركية، لأسباب تتعلق بيأس واشنطن من معارضة داخلية تبين أنها إرهاب عالمي موصوف بدأ بالارتداد على العالم الغربي.

ودليل توصل المجتمعين إلى مفاهيم عامة مشتركة كانت إلى الأمس القريب من المحظورات، هو موافقة الحاضرين على مبادئ محاربة الإرهاب ودعم مؤسسات الدولة السياسية والعسكرية، ورفض المسلحين الأجانب من دون موافقة الدولة السورية، وإدانة التدخلات الإقليمية والدولية، الأمر الذي يكشف أنّ المجتمعين يؤيدون الدولة والنظام والجيش السوري ويدينون التدخلات التركية والقطرية و«الإسرائيلية» والسعودية، تدخلات كشفت عنها أجهزة استخبارات أميركية وغربية وأعلنها وزير خارجية أميركا ونائب رئيسها.

إنّ هذه التفاهمات حدث كبير في حدّ ذاته، حتى لو لم يجرِ الإعلان عن مبادئها رسمياً، مخافة استثارة الأصناف الأخرى للمعارضات، وخشية استعداء الأطراف الدولية.

هناك إذاً سياق طويل من المباحثات قد يتجه إلى مزيد من التخصيص مثل كيفية محاربة الإرهاب وتطوير النظام السياسي وإعادة بناء سورية ومستقبل المعارضة ودورها في المراحل التالية.

كل ذلك يؤكد أهمية استمرار المباحثات بعيداً من ضغوطات الخليج وتركيا المصرّة على البدء بشعار إسقاط النظام السوري، الفخّ الكبير الذي يُراد منه الاستمرار في تدمير سورية وشرذمتها إلى أيالات وسناجق خدمة للطرف «الإسرائيلي» من جهة، والمشروع الأميركي من جهة أخرى. فإسقاط النظام لا يعني إلا بعثرة جيش سوري أثبت أنه الأصلب بين الجيوش العربية، جيش لا يستسلم ولا يهادن.

عكس مؤتمر موسكو موازين القوى المحلية في سورية والتأثير الدولي المرعوب من المعارضات الإرهابية. ويواكب «زعم» الغرب محاربة الإرهاب، معتبراً أنّ التغيير السياسي والديمقراطية والحرية، إنما هي مطالب يقرّرها المواطن السوري حين يستعيد حريته وقدرته على التعبير عنها في أجواء سلمية. فهناك مواطنون حولهم الإرهاب إلى عبيد، وثروات اقتصادية تسرق وتنهب، ومهجرون ونازحون يسكنون الخيام وأطلال المباني.

محاربة الإرهاب ونزع السلاح الداخلي غير الرسمي والحفاظ على مؤسسات الدولة من جيش وبنى سياسية هي من إنجازات موسكو التي أطلقتها في أرجاء السياسات الدولية المنوعة لاقتضاء ردود الفعل، على أمل أن تؤدي الجلسات المقبلة إلى بناء فريق عمل سوري كبير بقيادة الرئيس بشار الأسد لإعادة بناء سورية على أسس صلبة ومتينة لتستكمل دورها الدائم في الدفاع عن المشرق العربي.

إنه مؤتمر حجز المقاعد للتسويات الكبرى… فترقّبوه.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى