القوى «الخفية» في الولايات الأميركية المتحدة… (2/2)
} زياد حافظ*
3 – ماذا فعلت؟
هذه القوى هي التي “تصنع” الواجهات السياسية من خلال رؤساء تختارهم عبر تداولات غير رسمية. فبعد سقوط الاتحاد السوفياتي كان لا بدّ من تغيير واجهة الولايات المتحدة وإبراز شخصيات غير تلك التي قادت الحرب الباردة. لذلك لم يُكتب لجورج بوش الأب إلاّ ولاية واحدة بعد أن أشرف على نهاية الاتحاد السوفياتي وسقوط حائط برلين ورغم نجاحه في حرب الخليج الأولى على العراق. فأتت هذه القوى بشخصية مغمورة ولكن لها كلّ مواصفات الجاذبية التي تستهوي الجمهور الأميركي وفيه من الفساد ما يجعله طيّعاً في يد تلك القوى. من هنا نفهم وصول بيل كلينتون، حاكم مغمور لولاية جنوبية صغيرة من بين رهط من الشخصيات الديمقراطية الثانوية. نذكر آنذاك تلقيب المرشحين الديمقراطيين بـ “الأقزام السبعة” كما في القصة الخرافية التي يقرأها الأطفال. استمرّ بيل كلينتون في ولايتين صاحبتها الفضائح الجنسية والفضائح المالية وصلت إلى محاولة إقالته. لكن ولايتيه كانتا انطلاقاً لتمكين المؤسسات المالية وتخفيض القيود الناظمة على نشاطات المؤسسات بحجة ضرورة زيادة التنافسية ولانطلاق العولمة بشكل واسع ولتكريس قطبية واحدة لصالح الولايات المتحدة عبر السيطرة على شرايين المال بعد رفع القيود الناظمة عليها.
لكن هذه العولمة واجهتها معارضة من قبل دول لم تكن في الحسبان كسورية والعراق والجمهورية الإسلامية في إيران وحزب الله في لبنان خاصة بعد التحرير عام 2000 على سبيل المثال. فكان لا بدّ من إدارة تفرض السيطرة بالقوّة ومنع صعود دول تنافس الولايات المتحدة كما حددّتها وثيقة استراتيجية الدفاع والأمن القومي التي صدرت في أيلول/ سبتمبر 2002. لذلك كان لا بدّ من تغيير الطاقم فجيء ببوش الابن وبظروف انتخابية ملتبسة والمحاط من صقور (أيّ المحافظين الجدد) كانت وظيفتهم دفع الولايات المتحدة إلى فرض الهيمنة بالقوة في العديد من البقع الجغرافية. لم يستطع بيل كلينتون القيام بتلك المهام بل اكتفى بالحرب على يوغسلافيا والإشراف على نهب روسيا من قبل الأوليغارشية اليهودية فلذلك تمّ غض النظر عن ولاية لنائبه آل غور. بالمناسبة كان انطوني بلينكن من مستشارين كلينتون آنذاك واعتُبر من مهندسي تفكيك يوغسلافيا واليوم يعود إلى الواجهة كوزير للخارجية!
لكن إخفاقات بوش الابن في عدم حسم المعركة السياسية وتفاقم المقاومة ضدّ الاحتلال في كلّ من أفغانستان والعراق وبعد فشل عدوان تموز على لبنان التي شوّهت صدقية وصورة الولايات المتحدة دفعت القوى الخفية الصانعة للقرار والتوجّه السياسي للتدخل عبر لجنة باكر هاملتون لتصحيح صورة الولايات المتحدة عبر إطلاق مبادرات الحوار مع الخصوم والمتنافسين بدلاً من التصادم المباشر. أما على الصعيد الداخلي فأزمة الرهونات العقارية الناتجة عن طبيعة نظام اقتصادي نيوليبرالي ومتوحّش كادت تطيح بالأسواق المالية وسيطرة الولايات المتحدة على المال عبر تلك الشرايين الحيوية. فكان لا بدّ أيضاً من الإتيان بشخص مغمور نسبيا ومن أصول أفريقية ومسلمة لتلميع صورة المؤسسة الحاكمة الأميركية وكـأنها تجاوزت العنصرية البنيوية فيها. من هنا نفهم أهمية لجنة بيكر هاملتون التي ضمّت ليس فقط رموزاً من الحزبين الحاكمين بل أيضاً شخصيات تنتمي إلى شبكة المصالح التي ذكرنا بعض رموزها. فجميع أعضاء اللجنة التي تكوّنت لمعالجة تداعيات الفشل في العراق ضمّت بالتوازي شخصيات جمهورية وديمقراطية شغرت مناصب رفيعة جدّا في الإدارات السابقة إضافة إلى شخصية بارزة من المحكمة الدستورية ما يدلّ على أنّ الموضوع كان أبعد من سياسة معيّنة تجاه العراق بل تجاه العالم وطريقة التعامل.
لجنة بيكر هاملتون كانت ربما الوجه الأكثر ظهوراً لشبكة المصالح التي تشكّل مجمع القوى الخفية في الولايات المتحدة. فتمكين انتصار الشيخ الشاب والمغمور نسبياً حصل عبر إفشال المنافسة الأولى له أيّ هيلاري كلينتون التي تحمل رواسب فساد بيل كلينتون وعبر فرض مرشح للحزب الجمهوري لا يمكن أن يستهوي القاعدة الشعبية التي كانت تريد التغيير. فالشيخ العجوز جون ماكين مقابل الشيخ الشاب من أصول أفريقية ومسلمة كانت الطريقة الوحيدة لتلميع صورة الولايات المتحدة وهكذا كان. فأوباما ورث حروب بوش والأزمة المالية التي ختمت الولاية الثانية لجورج بوش الابن فكان لا بدّ من “منقذ” يمكن تسويقه إعلامياً.
اتبعت إدارة أوباما استراتيجية مختلفة عن الاستراتيجيات السابقة حيث كان التدخّل العسكري المباشر والكبير ركناً من تلك الاستراتيجية. استبدل أوباما القوّة الناعمة بالحرب المفتوحة. والحرب الناعمة كانت تحريك المجتمعات المستهدفة للتقاتل بعضها ببعض فكان الربيع العربي كارثة على المجتمعات العربية. لكن هذا لم يمنع من تدخّل ولو محدود في ضرب كلّ من ليبيا واليمن والتحريض على تدمير سورية. المهمّ هنا أنّ بصمات لجنة بيكر هاملتون في منع الحروب المفتوحة كانت واضحة. في عهد أوباما كانت أيضاً محاولات احتواء روسيا عبر دعم الانقلاب في أوكرانيا على الرئيس المنتخب. هذه القوّة الناعمة (لا ندري أين النعومة فيها؟!) استمرّت في ولاية ترامب الذي امتنع عن شنّ أيّ حرب جديدة ولكن استمرّ بمحاولة قلب الحكومات كما حاول في روسيا البيضاء أو بلاروسيا أو كما حاول في لبنان عبر انتفاضة شعبية مخترقة من منظمات غير حكومية مموّلة من الخارج أو عبر ممارسة الضغوط القصوى على كلّ من سورية والجمهورية الإسلامية في إيران ولبنان.
خلال العهود السابقة، من كلينتون إلى بوش الأبن إلى أوباما، شهدت الولايات المتحدة صعود التيار العولمي داخل المؤسسة الحاكمة والتي أدّت إلى المزيد من التدخل العسكري في العالم. فعهد أوباما شهد ثلاث حروب جديدة في المنطقة، في ليبيا وسورية واليمن، إضافة إلى الحروب السابقة في كلّ من أفغانستان والعراق حيث تعثّر المشروع الأميركي والعولمي. ما حصل داخل دوائر النخب الحاكمة هو صراع بين التيّار المعولم والمهيمن وبين التيّار الوطني الداخلي إذا جاز الكلام الذي كان يريد المزيد من الاهتمام بالوضع الداخلي. تجلّى ذلك الصراع بين مرشحة العولمة بشخص هيلاري كلينتون وتيّار الشعبوية المتمثل في بشخص دونالد ترامب. انتخابات 2016 كانت ردّة فعل على مجمل النخب الحاكمة فأتت بشخص من خارج الدائرة المعهودة من المرشّحين. اللافت للنظر هو أنّ ترامب استطاع أن يهزم النخب الجمهورية قبل أن يهزم مرشّحة النخب الديمقراطية. انتخابات 2020 هي استكمال لانتخابات 2016 التي لم تقبل بنتائجها النخب المعولمة. فكانت الحرب السياسية طيلة ولاية ترامب انتهت بفوز مرشّح الدولة العميقة التي يسيطر عليها التيّار المعولم وإن كان ذلك الانتصار مكلفاً للغاية على صعيد التماسك الداخلي والذي قد ينذر بتلاشي مكوّنات الولايات المتحدة بشكل عام والدولة العميقة بشكل خاص التي شكّلها مجمل المؤسسات الأمنية والإعلام المهيمن والشركات التكنولوجية.
أما على الصعيد الداخلي استطاعت تلك الشبكة سنّ التشريعات التي أدّت إلى تكريس هيمنة المؤسسات المالية والأسواق ومختلف شرايين المال عبر تخفيض حتى الإلغاء للقيود الناظمة للمؤسسات بشكل عام والمالية بشكل خاص. أدّى ذلك إلى تفاقم ثقافة الدين العام والخاص من جهة والاستدانة المفرطة في العقارات ما أدّى إلى أزمة الرهونات العقارية التي أصبحت أكبر أزمة مالية في تاريخ البلاد وحتى العالم كادت تطيح بكلّ المنظومة. حصل ذلك في نهاية ولاية بوش الابن ما جعل من الضروري التغيير للواجهة والتي جاءت بباراك أوباما. وكما ذكرنا سابقاً فإنّ المؤسسات المالية شهدت تمركزاً في عددها حيث خمس مؤسسات تملك 75 بالمائة من الأصول المالية بينما ملكية تلك المؤسسات لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة. هذا التمركز أعطى نفوذاً كبيراً داخل شبكة المصالح التي تصنع القرار وتدفع بالواجهات التي تنفّذ توجيهاتها. كذلك الأمر حصل بالنسبة لشركات الضمان الصحي وشركات التأمين المرتبطة عضوياً بالمؤسسات المالية حيث التمركز جعل لتلك المؤسسات نفوذاً غير مسبوق في تاريخ الولايات المتحدة.
من ناحية أخرى شهدت تلك الشبكة المزيد من التمركز حيث عدد الشركات التابعة للمجمع العسكري الصناعي تقلّص عبر العمليات الاندماجية التي تنذر بتراجع في الإبداع والكفاءة. فالجنوح إلى الاحتكار والممارسات الاحتكارية تقوّض الإبداع بسبب تراجع التنافس. لذلك وجدنا أنّ المنتوج الحربي كالطائرات المقاتلة أكثر كلفة وأقلّ فعّالية من نظيراتها الروسية. نخصّ على سبيل المثال كلفة درّة السلاح الجوّي الأميركي أف 35 الذي ما زالت تشكو من عيوب رغم الكلفة الباهظة التي وصلت إلى أكثر من 70 مليون دولار للطائرة بينما نظيرتها الروسية سوخوي 57 كلفتها المتوسطة بحدود 40 مليون دولار. والآراء متباينة في موضوع كفاءة الطائرتين لكن لا تنافس بين كلفة الطائرة الروسية والطائرة الأميركية. ارتفاع الكلفة للطائرة الأميركية ناتج عن رغبة الشركة في تحقيق الأرباح طيلة فترة الإنتاج وإنْ كان في كثير من الأحيان على حساب سلامة المنتوج. لن نسترسل في هذا السجال فما يهمّنا هو التركيز على مسار شركات التصنيع الأميركية التي أصبحت عملاقة لا تستطيع الترشيق عبر الإبداع والكفاءة.
انتخابات 2020 شكّلت تحوّلاً مفصلياً في المشهد السياسي الأميركي حيث شبكة المصالح التي عرضناها سابقاً تعرّضت لتصدّعات بسبب انقطاعها عن نبض الجمهور الأميركي. التيّار المعولم الذي دعمته شبكة المصالح أصبح على نقيض المزاج الأميركي. فحتى داخل الحزب الديمقراطي هناك وجهات نظر وتباينات حول دور مكوّنات شبكات المصالح كالنظرة السلبية تجاه شركات النفط والمصارف الكبرى وشركات التواصل الاجتماعي التي تمارس رقابة على كلّ ما يخالف مصالح الشبكة. صحيح أنّ تلك الشركات دعمت المرشح الديمقراطي ضدّ الرئيس الأميركي ولكن هذا لا يعني أنها ستقف على الحياد في الصراع بين القاعدة الشابة للحزب الديمقراطي وقيادتها العجوز (بايدن 78 سنة، بيلوزي 80 سنة، شومر 70 سنة). فما هو مستقبل تلك الشبكة هذا ما سنحاول مقاربته في الحلقة الأخيرة من هذه السلسلة.
4 – ما هو المستقبل؟
شبكة المصالح استطاعت حتى الآن إيصال “مرشحها” إلى سدّة الرئاسة متخفّية وراء ستار “المؤسسات” و”القانون”. هزيمة ترامب الافتراضية كانت نتيجة تحالف الإعلام الشركاتي المهيمن ووسائل التواصل الاجتماعي والمؤسسات الأمنية التي وجدت في الرئيس الأميركي خطراً على وجودها وعملها. لكن كلفة هذا النجاح قد تكون أكثر من قيمة الفوز في الانتخابات. فالأميركيون منقسمون بشكل عمودي وأفقي في آن واحد وليس بمقدور الرئيس المنتخب وفريقه ردم الهوّة بين مكوّنات الشعب الأميركي. فهو لا يحظى بتأييد كبير حتى داخل الحزب الديمقراطي ما يجعل برنامجه السياسي والاقتصادي والاجتماعي برنامجا توفيقيا بين متناقضات في أحسن الأحول ولن يعالج القضايا المزمنة التي أدّت على الانقسام.
في الماضي كانت تلك الشبكة تقرأ بشكل جيّد موازين القوّة الداخلية لكن هذه القدرة بدأت تتلاشى خلال السنوات الماضية. فالانتخابات الأخيرة كرّست حدّة الانقسام الداخلي الذي لا تستطيع هذه النخب مقاربته وبالتالي معالجته ومن هنا الخلل في القراءة. الخلل في قراءة موازين القوّة الداخلية بدأ يظهر في الحملة الانتخابية سنة 2016 حيث أوحت ودعمت الشبكة تسمية هيلاري كلنتون في سرقتها للتسمية من منافسها برني سندرز. والفضائح التي ملئت الحملة من تسريبات من داخل الحزب الديمقراطي لويكي ليكس تشير إلى عملية ذلك السطو. فالمسؤولون عن الحزب الديمقراطي، ومن ورائهم “الشبكة”، خافوا من وصول برني سندرز الذي يحمل مشروعاً إصلاحياً تقدّمياً بالمفهوم الأميركي والذي يهدّد العلاقة بين القيادة الديمقراطية وشبكة المموّلين الكبار من شركات أو أفراد. كما أن قناعة تلك القيادة آنذاك كانت أن الشعب الأميركي غير مستعدّ لتقبّل المشروع الإصلاحي الذي يعرضه برني سندرز. هذا يستدعي التوقف عنده غير أن حالة الانقسام الموجود بين مكوّنات الشعب تجعل طروحات برني سندرز وفريقه أكثر جدوى من الاستمرار في الوضع الحالي الذي لا يرضي أحد. لكن بعض طروحات سندرز قد تكون غير مقبولة ربما بسبب صوغها الذي يتنافى مع الموروث الثقافي الأميركي الذي لا يحبّذ تدخل الدولة في شؤون الأفراد وإن كانت هناك فوائد عديدة لذلك. لا نريد الاسترسال حول هذه النقطة لضيق المساحة المتاحة لكن أشرنا إليها لأنها من العوامل التي ساهمت في إجراء الخلل في قراءة موازين القوّة وخاصة المزاج العام للشعب الأميركي. في المقابل عملت قيادة الحزب الديمقراطي والإعلام الشركاتي الليبرالي على دعم ترشيح دونالد ترامب اعتقاداً أن الشعب الأميركي لن يصوّت لمن تعتبره بهلوان ومهرّج.
في كلا الحالتين قرأت تلك القيادة بشكل خاطئ مزاج الشعب الأميركي الذي كان يريد التغيير. فإقصاء سندرز جعل القاعدة الشابة للحزب الديمقراطي تتحفّظ على ترشيح هيلاري كلنتون كما أن القاعدة الجمهورية سئمت من قيادات تقليدية عاجزة عن التجاوب مع مصالحها. ترامب استطاع أن يقبض على نبض الشعب الأميركي أو على الأقل على نبض شرائح واسعة منه. ففاز بالتسمية كما فاز بالانتخابات الرئاسية ذلك الفوز كان تعبيرا عن نقمة ضد النخب الحاكمة. وهذا ما لم تقبله قيادة الحزب الديمقراطي وإلى حدّ ما قيادة الحزب الجمهوري التي تماهت في آخر المطاف مرغمة مع دونالد ترامب. صرفت قيادة الحزب الديمقراطي ومعها الاعلام الشركاتي الليبرالي المعولم كل ولاية ترامب على شيطنة الرئيس الأميركي ومحاصرته سياسياً وإعلامياً ناهيك عن محاولات العزل.
القراءة الخاطئة لموازين القوّة الداخلية من قبل شبكة المصالح تعود بالدرجة الأولى إلى التغيرات في بنية كلّ مكوّن لتلك الشبكة. ذكرنا أعلاه التمركز الذي حصل في كلّ من الإعلام والمؤسسات المالية وشركات التصنيع المعدّات الحربية. وإذا أضفنا إلى تلك القائمة مجموعة شركات التواصل الاجتماعي التي أيضاً منذ بدايتها كانت في موقع الاحتكار الفعلي في قطاعها نرى أنّ أوليغارشية جديدة تكوّنت. وحتى المؤسسات (foundations) كمؤسسة بيل ومليندا غيتس وجورج سوروس ومؤسسة كلينتون على سبيل المثال وليس الحصر أصبحت تلعب دوراً غير مسبوقا في العديد من القطاعات. نذكر هنا دور مؤسسة بيل ومليندا غيتس تلعب دوراً أساسياً في مقاربة جائحة كورونا التي تكون أبعادها أوسع من القارة الأميركية لتشمل العالم أجمع. فهنا نرى مظاهر العولمة المفرطة عبر الترويج للتلقيح الإجباري في ظروف أقلّ ما يمكن القول عنها إنها ملتبسة.
سياسة مكوّنات الشبكة كانت المضي في مشروع العولمة الذي أثّر بشكل مباشر على مصالح الشعب الأميركي. ففقدان الوظائف التقليدية في القطاعات الإنتاجية أدّت إلى إفقار الطبقة الوسطى وخاصة بين المواطنين البيض. هذه الشريحة كانت لقمة سائغة لأيّ خطاب شعبوي يحاكي الغرائز التي فجرّها الضيق الاقتصادي والمالي. من هنا ظهر الخطاب القومي الأميركي في مواجهة العولمة كما ظهرت مجدّدا العنصرية التي استغلّها على حدّ سواه كلّ من الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري وإن بطرق عكسية. عامل العنصرية سهّل تجاهل البعد الاجتماعي الناتج عن الفجوات الاقتصادية بين قلّة لا يتجاوز حجمها الواحد بالمائة تملك أكثر من سبعين بالمائة من الثروة في الولايات المتحدة. استغلال العنصرية كان مفيداً للشبكة لتجنّب مقاربة الفجوات الاقتصادية. والإعلام الشركاتي لعب دوراً مفصلياً في ذلك وكيف لا؟ فلا يمكن لمؤسسات تملكها شركات عملاقة أن تروّج لسردية ناقدة للنظام القائم التي تمثّله تلك الشركات وسلوكها فلا تنقل هواجس الشعب ولا المشاكل التي يعانيها. هذا أدّى إلى المزيد في فقدان مصداقية التي كانت معطوبة بالأساس في عدد كبير من الملفّات التي تهمّ المواطن الأميركي. ففقدان المصداقية للإعلام الشركاتي المهيمن ساهم في تكريس سوء تقدير موازين القوّة كما ساهم في حدّة الانقسام.
هذا يعني أنّ الدعاية حلّت مكان الخطاب السياسي الهادف وأن خطاباً واحداً فقط هو المقبول وهو خطاب النخب الحاكمة. وبما أنّ الإعلام الشركاتي يمثّل حوالي 90 بالمائة من الإعلام المرئي والمكتوب والصوتي فتصبح الرقابة على وسائل التواصل الاجتماعي استكمالا للتحكّم بالرأي العام وفرض السردية التي تناسب النخب الحاكمة. وقيادات بارزة في تلك الشبكة تدعو بصراحة إلى مراجعة التعديل الأول في الدستور الأميركي الذي يصون حرّية التعبير والتعديل الثاني الذي يصون حق المواطن الأميركي في حمل السلاح. فمن جهة يتمّ تكميم الأفواه ومن جهة أخرى يتمّ نزع السلاح من المواطن الذي يمكن أن يلجأ إلى المقاومة المسلحّة ضدّ تسلّط النخب الحاكمة. هذا نموذج الفاشية الليبرالية التي تجمع تناقض الانفتاح الليبرالي مع القمع الفكري للفكر المضاد لها. ويصبح السؤال عندئذ هل ستنجح القوى الخفّية في تحقيق أهدافها بتكميم الأفواه ونزع السلاح ليستقر الوضع الإعلامي والسياسي لها؟
الانتخابات النصفية التي حصلت في 2018 كرّست الانقسام الداخلي العمودي والأفقي كما أكدّته انتخابات 2020. من نتائج تلك الانتخابات هي أنّ القوى الخفية خسرت قدرتها على إقناع الأميركيين بخياراتها وبالتالي ستضطر إلى “إقناع” الجمهور الأميركي بالقوة. ما كان يمّيز النموذج الأميركي عن النموذج الشمولي هو قدرة النموذج الأميركي في إقناع المواطن الأميركي بالتخلّي عن حرّياته طوعاً كما حصل في قانون باتريوت الذي أقرّ في تشرين الأولى 2001 بعد أحداث أيلول في نفس السنة. اليوم هناك أصوات تدعو بصراحة إلى تقييد حرّية التعبير. فمن ضمن سلّة التعيينات للرئيس المنتخب يبرز اسم ريتشارد ستنجل كمسؤول عن الإعلام والدبلوماسية العامة. وريتشارد ستنجل كان في الماضي مدير التحرير لمجلّة “تايم مغازين” المعروفة. يدعو ستنجل إلى فرض القيود على كلّ خطاب يدعو إلى الكراهية والتمييز أو إلى المعلومات الخاطئة دون تحديد المعايير التي يمكن تطبيقها. وفي هذه الناحية يؤكّد ما تقوم به شركات التواصل الاجتماعي التي تحذف أو تعلّق حسابات وفقاً لمزاجها تحت ذريعة منع خطاب الكراهية أو المعلومات الخاطئة (fake news) دون تحديد كيف وما يشكّل وجود تلك المعلومات خطأ يجب تصحيحه. كما يدعو أيضاً إلى مراجعة الدستور في حق تملّك السلاح وهذه المسألة لن تمرّ بسهولة. فحمل السلاح هو في الحمض النووي للمواطن الأميركي وكلّ ثقافته وموروثه الثقاف تعطي مكاناً خاصاً لحمل السلاح. دعوة ستنجل قد لا تنجح ولكنّها تأتي في صميم خطاب العولمة الذي يريد تحويل المواطنين إلى مستهلكين فقط دون أي هوية وطينة وثقافية. ونزع السلاح هو تمهيد لتمرير بالقوّة لسياسات متناقضة مع الموروث الثقافي للأميركيين. لا نعتقد أنّ هذه المحاولات ستنجح ولكن وجود تلك المحاولات تدلّ على أنّ شبكة المصالح أصبحت تدرك أنها على وشك خسارة السيطرة على الجمهور الواسع كما أنها لا تمتلك حلولاً ترضي الجمهور الأميركي.
حالة الانقسام الداخلي دليل واضح على عدم قدرة تلك القوى على استيعاب ما حصل من تحوّلات في المجتمع الأميركي التي أدّت إلى ذلك الانقسام الحاد. بل ربما يمكننا أن نقول أكثر من ذلك فهي مسؤولة مباشرة عن ذلك الانقسام وشجّعته لأنه كان يخدم مصالحها الضيّقة وفقدت البوصلة الأساسية أي الاستقرار الداخلي. فعلى سبيل المثال فإنّ الانقسام الناتج عن شعور شرائح واسعة بالتهميش الاقتصادي والاجتماعي ناتج عن سياسات اقتصادية متعمّدة أدّت إلى تحويل الاقتصاد الأميركي من اقتصاد منتج بيني إلى اقتصاد رقمي افتراضي وذلك عبر توطين القاعدة الإنتاجية الصناعية إلى دول الجنوب في العالم. هذا أدّى إلى فقدان وظائف عديدة كانت ركيزة الطبقة الوسطى. وتلك السياسات التي خدمت مصالح الشركات ومساهميها فقط أدّت الى تفاقم الفجوة الاقتصادية. ورافق تلك السياسات بل نتج عنها بشكل مباشر تمركز مراكز القرار الاقتصادي والمالي والإعلامي. اعتقدت تلك النخب وتلك القوى انها بمنأى عن أي مساءلة ومحاسبة واستمرّت في المزيد من تهميش الطبقة الوسطى. وبما أنّ معظم الطبقة الوسطى من البيض نما شعور البيض بالتهميش وبالتالي ردّة فعل معاكسة استطاع استغلالها دونالد ترامب. فالعنصرية الجديدة التي تشمل جميع مكوّنات المجتمع الأميركي (أي ثقافة مواجهة الآخر) هي متلازمة مع تفاقم الفجوات الاقتصادية. من جهة أخرى تحصد هذه القوى نتائج سياسة فتح باب الهجرة للضغط على سوق العمل بشل جعل كلفة يد العاملة رخيصة بسبب قبول المهاجرين الشرعيين وغير الشرعيين برواتب وأجور منخفضة. هذا أدّى إلى المزيد من نقمة البيض من الطبقات الوسطى والفقيرة والتعبير عن عنصرية ناتجة عن الضيق الاقتصادي والمالي.
استطاع دونالد ترامب أن يلعب على هذه الوتيرة وساعدته في ذلك عن قصد أو غير قصد تلك القوى التي تتحمّل نتائج خيارات وسياسات داخلية وخارجية امتدت على أكثر من أربعة عقود. فلا عجب ان تصل الأمور إلى ذلك الحال من الانقسام الحاد. وما يزيد الطين بلّة هو حالة الانكار التي تعمّ تلك القوى التي لا تستطيع أو لا تريد الاعتراف بخطأ خياراتها وسياساتها فتستمر في سياسة الهروب إلى الأمام معتقدة أنها مسيطرة على المؤسسات الدستورية وخاصة التشريعية. فأعضاء الأخيرة لا تعارض خيارات الشبكة لأنها مدينة بوجودها لقوى تلك الشبكة من المصالح. لذلك يصعب التصوّر أن هذه الشبكة التي كانت ممسكة بمعظم خيوط الحياة السياسية تستطيع أن تسيطر على المشهد مجدّداً لأنها فقدت القدرة على التأثير على الشعب. فالإعلام المهيمن الشركاتي ووسائل التواصل الاجتماع تشكّل أدوات التحكّم بالرأي العام. لكن انحدار مستوى نقل المعلومات والتحريف للحقيقة والرقابة المفروضة على كل من يعارضها أفقدها كلّ مصداقية. هذه من نتائج الانتخابات التي روّجت وسائل الإعلام انّ مرشح النخب سيكتسح المعركة وأنّ حزبه سيتمكن من السيطرة الكاملة على مؤسسات التشريع. لم تجر الرياح كما اشتهت سفن شبكة المصالح وبالتالي لا بدّ من مراجعة جذرية لأدائها وحتى لخياراتها وسياساتها. ليس هناك من دليل على رغبة ولا على قدرة على ذلك فالمصالح متجذّرة ولن تسمح بالتغيير إلاّ بالقوّة. ربما هو المسار المرتقب للولايات المتحدة أي التغيير خارج الإطار المؤسساتي وبالشارع وبالعنف.
في الخلاصة يمكن القول إن شبكة المصالح التي قادت الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وصلت إلى طريق مسدود. فمن جهة لا تستطيع أن تقدّم أيّ شيء للجمهور الأميركي غير المزيد من السياسات التي تزيد في الفجوة الاقتصادية والاجتماعية كما أنها متمسّكة بسياسة الهيمنة في العالم وإن أدّت تلك السياسة إلى موجهات مع الدول. فالشعب الأميركي لا يريد ذلك وهناك تكمن المشكلة. فاعتقاد الشبكة أن السيطرة على المال والاعلام ووسائل التواصل كافي لتحقيق مصالحها بينما واقع الحال يدلّ بوضوح أنّ الأمور تغيّرت. ليس في الأفق من يستطيع أن يقول كيف ستتصرّف تلك الشبكة. هل ستقدّم بعض التنازلات للحفاظ على ما تعتقد هو الأهمّ؟ السنوات المقبلة قد تأتي بالإجابة ولكن في مطلق الأحوال دخلت الولايات المتحدة مرحلة لا توازن داخلي لا يستطيع أحد التنبّؤ بالنتيجة. فالمؤسسات الدستورية أظهرت عجزها وخاصة المؤسسات القضائية والإعلامية التي كانت رمزاً لاحترام القانون. فكلّ شيء أصبح عرضة للطعن كما برهنت الانتخابات الرئاسية الأخيرة.
*كاتب وباحث اقتصادي سياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي