الأمين محمود غزالي قِصّة «قصة» وبعض من مسيرة
فيما كنت أراجع أعداداً قديمة من مجلة فكر عثرت في العدد 87 (ك2 – آذار 2005) على مقالة كان نشرها الأمين، الصحافي القدير والمناضل الحزبي المميّز، محمود غزالي، فيها من المعلومات والطرافة ما يحسن قراءتها.
رغبت إلى الرفيقة هلا غزالي أن تسعى لتسليمي ما يتوفر عن سيرة الأمين محمود. فهو، وقد كتبت عنه عند رحيله، وكتب آخرون، يستحقّ من الذين عرفوه في الصحافة، وفي مسيرته الحزبية الغنية بالنضال، أن يكتبوا. شكراً للرفيقة هلا، وكلّ رفيق يزوّدنا لاحقاً بكتابات عن الأمين غزالي.
ل. ن.
* *
بين المغفور لهما طه حسين ومحمد الخامس، وقف طويل العمر سعيد عقل ينقل إلى الرياض نموذجاً من «اللغا اللبنانيي» بواسطة أحد مؤيديه.
هذا الانطباع عايشته في الرياض خلال زيارة استمرت شهرين إلى جانب رؤيا وجعفر وأدونيس وأليسا(1).
في تلك المرحلة، حرصت ألّا أبدّل عادتي اليومية في المشي صباحاً عبر الشوارع الحديثة في عاصمة المملكة العربية السعودية، فكنت أصحو باكراً لأمارس رياضة المشي السريع بين شارعَي محمد الخامس، وطه حسين، فأبدأ مع بداية الأول لأكمل إلى نهاية الثاني، وكنت أفعل ذلك مرتين أو ثلاثاً قبل أن تشتدّ حرارة الشمس في الصباح الباكر، وأعدو إلى المنزل بعدما أكون تسوّقت بعض الصحف التي تحمل تفاصيل الغزو الأميركي للعراق.
وقد لمست عند الشعب السعودي حقداً دفيناً على الولايات المتحدة و»إسرائيل».
يومها اشتدّت حملة الدعوة إلى مقاطعة البضائع الأميركية، والتزم المواطنون بتلبية الدعوة، فتراجع الطلب على المطاعم الأميركية، حتى باتَ من النادر أن تلمح في مطاعم المالك دونالد، زبائن سعوديين على مدة فترة تجاوزت الشهر، لا أدري ماذا حلّ بها بعد ذلك، فقد تركت الرياض.
وكنت أعدو في الصباح إلى أحد المقاهي على زاوية شارع طه حسين، أحتسي فنجاناً من القهوة، وأطالع الصحف التي تسوّقتها. وصدف ذات يوم أنني لم أكن أحمل عملة سعودية، فنقدت الواقف على الصندوق ورقة العشرة دولارات، فرفضها: «نحن لا نتعامل بالنقد الأميركي» قال، وسوّيت المشكلة بتجميع بعض الفراطة في جيوبي لتسديد قيمة الفنجان، وخرجت كمن عاد مهزوماً في مواجهةٍ ما.
وأنا خارج من المقهى لاحظت أنّ أصحاب المحلّ وضعوا علم «إسرائيل» عند أسفل السلّم كي تطأه الأقدام في الذهاب والإياب، لكن ذلك لم يستمر طويلاً، لأنه يُحرج السلطة ويضمّها إلى لائحة دول «محور الشر».
في تلك المرحلة احتجت إلى زيارة للحلاق يهذّب ما طال من شعري بعد فترة غبت فيها عن «نبيل جابر» في بيروت استغرقت أكثر من شهر، فاستنجدت بجعفر (عطوي) ليدلّني على مزيّن أطمئن إلى قَصًّته، فإذا به يدلّني على محلّ توَّج جدار واجهته بلائحة من المقصات الضخمة وقد زرعت في وسطها كلمة «حكاية».
نصحني «جعفر» بولوج هذا المحل، بدلاً من زميله المتربّع على زاوية شارع محمد الخامس، بعد لائحة من المزيّنين الخاصّين بالنساء.
يقع محل الحلاق الذي اخترنا على زاوية شارع طه حسين في منطقة من الرياض تُسمّى «منطقة التحلية».
المهم أنني بانتظار دوري للإذعان إلى مقص صاحب الـ»الحكاية» حاولت أن أربط بين هذه الكلمة وبين تربّعها وسط المقصات الطوال التي احتلّت الواجهة، فلم أوفّق إلى اكتشاف الرابط.
وفيما كنت غارقاً في البحث عن السبب، هل هو رواية كتبها عميد الأديب العربي طه حسين؟ أهو اشتراك في المبنى بين دكان الحلاق وإحدى المكتبات؟ أم ماذا؟
في هذه اللحظة حملتني ابتسامة صاحب المحل إلى كرسي الحلاقة، فحمل مشطاً في يسراه ومقصاً في يمناه، وتوجّه إليَّ عبر المرآة يسألني عن حَسَبي ونسَبي، وتوجّهاتي الفكرية، وأسباب وجودي في الرياض، ومنذ متى أنا ضيف على المملكة.
ورغم كلّ براعته في الأسئلة والاستدراجات التي لجأ إليها، لم يتمكّن من الحصول على بعض الأجوبة التي تتعلّق بالمهنة والمذهب.
أدخل في روعي أنه صرف النظر عن «التحقيق» الذي بدأه، فعاد إلى مقصّه ومشطه يوظّفهما في تهذيب شعري، وهو يحدّثني باللهجة اللبنانية العريضة بين الجملة الوصفية أحياناً والذكريات أحياناً أخرى.
هو مشتاق إلى زقاق البلاط، وله في هذا الحيّ أصدقاء وأقارب، وفي الخندق الغميق له ذكريات لا ينساها. حدّثني عن وادي أبو جميل، عن منطقة الفنادق، وحي الوتوات، ووصف بعض المواقع والأبنية، وتحدّث عن الأزقّة وعن «اللبنانيين اللي خربوا بلدن بإيدن».
كان واضحاً أنه أمضى سنوات في بيروت مع ذكريات جميلة، قبل أن تضطرّه الظروف الأمنية إلى الاستقرار في الرياض.
توسّعت معه في الحديث عن ذكرياته في لبنان، لعلّي في ذلك أصرفه عن طرح الأسئلة المحرجة، فانتقلت معه إلى الحديث عن ساحة البرج التي سارع إلى تصحيح معلوماتي حولها، فاسمها «ساحة الشهداء»… ويحمل منها ذكريات كان أحد شهودها الدائمين، كيف أن «محمد سلمان» كان يطارد «حبيب مجاعص» كل أسبوع، يكمن له نهار الأحد على زاوية الروكسي ليثأر منه ومن كتاباته المسيئة إليه في مطبوعته الأولى «أشكال ألوان» قبل أن تتحوّل إلى «السينما والعجايب»، وكيف أنّ حبيباً كان يعود في اليوم التالي مضمّداً جراحه التي اُصيب بها في أنحاء عدّة من جسمه… حتى لكأننا كنّا ننتظر هذا المشهد كلّ أسبوع، حبيب يشتم سلمان في مطبوعته، وسلمان يكمن له ويطارده في الساحة، ليعود حبيب في اليوم الثاني مهشّماً.
قبل أن أتحرّر من كرسي الحلَّاق، دفعني فضولي أن أتجنّب لائحة من الأسئلة يطرحها مزيّني «اللبناني»، فسألته عن الرابط بين لائحة المقصات وكلمة «حكاية» التي تتوسّطها، فلاحظت الدهشة على وجهه والسؤال على لسانه: ولو أنت مش لبناني؟ حكاية يعني قصة، أنا شو عملت هلّق مش قصّيت شعرك قصة، يعني حكاية؟».
استعدت المبادرة وسألته: «أنت لبناني» فنفى، إنه تركيّ المولد نادراً ما أقام طويلاً في بلده، فقد اختار لبنان مكانه المفضّل.
وحُلَّت العقدة، فقد تأثّر صاحبنا بسعيد عقل، ولذلك ترجم القَصّة إلى قِصّة والقِصّة إلى حكاية، وكانت ترجمته مبرّراً للاستخفاف بمداركي اللغوية، وأدركت صوابية تصرّفي عندما تحفّظت على سؤاله عن مهنتي.
*
الأمين محمود علي غزالي المولود بتاريخ 1935 في بلدة مشغرة البقاع الغربي، ابتدأ مسيرته الصحافية في مجلة «الأجيال» وتحوّلت إلى «الأجيال الجديدة»، وفي عام 1956 كان ومجموعة من أترابه قد أبدوا اهتماماً بالصحافة، وقرّروا إصدار «مجلة المجلة» فأجاز لهم صاحب الامتياز ميشال فضول(2) إصدارها، فاشترك هو وكل من وفاء نصر(3)، حسين قطيش، الياس مقدسي، ذو الفقار قبيسي، حسن مخلوف، سعيد مخلوف(4)، أنطوان الغريب، فؤاد مطر بتأسيسها .1960
عمل في جريدة «الزوابع»، وانطلق منها مروراً إلى «أسواق» الأسبوعية ترافقاً مع «الزوابع»، ثم انتقل إلى «صدى لبنان» وكان سكرتيراً للتحرير على مدى سنوات تسع، وعاد فعمل في «نداء الوطن» لصاحبها الياس الغريافي، ثم عمل في جريدة «النهار» بالقسم الاقتصادي حيث شارك بمؤتمرات عدة في كلّ من الجزائر والكويت وألمانيا والعراق. وفي تلك الفترة قام بسبق صحافي كان له أثر كبير في الوسط الإعلامي، حيث كشف الوجود الإسرائيلي في قريتيّ كفرشوبا وشبعا، وجاء بالمانشيت العريض «النهار تشاهد إسرائيل في كفرشوبا وشبعا»، مما أدى إلى ملاحقة السلطة اللبنانية له، فحاكموه وصدر بحقه حكم بالسجن لفترة شهر مع دفع غرامة بقيمة 10000 ليرة، لكنه عاد فاستأنف الحكم وتغيّر القاضي وتغيّر معه الحكم ليصبح غرامة ب 500 ليرة لبنانية فقط .
خلال فترة عمله بجريدة «النهار» عمل توازياً بجريدة «الناس»، في العام 1970 دُعي من قِبل وزير الثقافة الأردني» عدنان أبو عودة» للإشراف على إصدار جريدة «الرأي» لحساب الوزارة. وفي العام 1977 طلب إليه إصدار جريدة «الأخبار» الأردنية بشخص صاحبها «فؤاد النمري». بعدها سافر إلى قبرص فترة 26 يوماً لتأسيس جريدة «الوفاق». أما خلال الثمانينات انتقل إلى الكويت للعمل في جريدة «القبس»، ثم أصبح مديراً مسؤولاً لمجلة «أسيل» التي تأسست في سورية وكانت تعنى بأمور المرأة من تجميل وموضة، ثم انتقل مديراً مسؤولاً وسكرتيراً للتحرير في مجلة «صباح الخير– البناء» لفترة أكثر من عشر سنوات، خلال عمله في مجلة «صباح الخير– البناء» عمل ليلاً في جريدة «الشرق» وأسس مكتباً إعلامياً لجريدة «الديار» في شتورة، لكنه لم يعمل به بل قام صاحب الجريدة ببيع المكتب .
تأثر في حياته بمقالات وكتابات الأمين الراحل محمد البعلبكي، وراسله حيث كان مجتمعاً بالأديب الراحل سعيد تقي الدين وطلب من السيد غزالي أن يلتقوا وجهاً لوجه، ومن هناك انطلقت مسيرته الصحافية التي كانت زاخرة بعطاءات كثيرة، ومنها مؤلفات سياسية واقتصادية وخواطر بمقالات نشرها على النحو التالي:
مواسم الزنبق – 1981
– على رصيف الويمبي – 1998
(توفيق الباشا (يقظة الموسيقى -1998
النزيف – 1999
حوار مع أنطون سعاده (1) – 2001
حوار مع انطون سعاده (2) – 2002
كهنة ام جواسيس – 2003
المصالح القومية في زمن العولمة –2003
السوق العربية أولاً – 2004
من حواشي العمر – 2006
مشغرة متعة ينغصها الحرمان – 2009
* *
سُئل محمود غزالي يوماً ماذا تعلمت من سعيد تقي الدين فأجاب:
– تعلمت الوقوف عند قناعاتي مهما كلفني ذلك من ثمن.
– وتعلمت أنّ الصحافة رسالة، وإذا مورست بغير هذه القناعة فهي سلعة.
كثيراً ما تهيّبت سعيد تقي الدين، غير أنه كان في كل مرة يرسخ في ذهني قناعة كافية أن على المناضل أن يؤاخي صليبه حتى التوحّد.
هوامش
رؤيا: هي ابنة الأمين محمود، عقيلة جعفر عطوي ووالدة أدونيس وأليسار.
ميشال فضول: هو ميشال فضول الأشقر. من بلدة «بيت شباب»، عمل في الصحافة، تولى مسؤوليات حزبية عديدة، يصحّ أن نكتب عنه.
وفاء نصر: للإطلاع على النبذة المعممة عنه مراجعة الموقع المذكور آنفاً.
الأمين سعيد مخلوف: من أشهر فناني النحت في الشام، إن لم نقل في كل الأمة السورية. للإطلاع على النبذة المعممة عنه الدخول إلى موقع شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية www.ssnp.info.