رؤية بوتين: المقابلة في نادي فالدي
} زياد حافظ*
التحوّلات الدولية التي نشهدها منذ عدّة عقود أفضت إلى تغييرات جوهرية في موازين القوّة التي كانت تسود وتتحكّم بالعلاقات الدولية. فمن جهة نشهد تراجعاً استراتيجياً للغرب بشكل عام غير قابل في رأينا للتعديل وتقدّماً استراتيجياً للشرق والجنوب بشكل عام أيضاً ولكنّه ما زال في دائرة هشّة وقابلاً للكسر إن لم تتجاوز مكوّناته التحدّيات التي تعوقه، مع الاعتراف بأنّ قيادات ذلك المحور تعمل بشكل جادّ وجدّي على تذليل العقبات لتثبيت المحور. وهنا نتكلّم عن المحور الصيني الروسي الذي يشكّل العمود الفقري لمجموعة الدول المناهضة للهيمنة الغربية. وهذه التحدّيات تعود إلى رواسب حقبات (بكسر الحاء) سابقة طغت على البلدين. فمن جهة هناك تنافس طبيعي على النفوذ في وسط آسيا بين الصين وروسيا يتخلّله صعود دور كلّ من الجمهورية الإسلامية في إيران وتركيا. فكلّ من الصين وروسيا تريد أن تكون القوّامة في النفوذ لها دون التنكّر لمصالح الطرف الآخر ولكن الاثنين أصبحا بحاجة لبعضهما البعض في مواجهة الكراهية المتصاعدة في الغرب تجاه كل واحد منهما. ونقول بصراحة «كراهية» لأنّ مستوى التهجّم على تلك الدولتين في صحف ومحافل الغرب يدلّ على حقد عميق سببه الغيرة أولاً والتراجع ثانياً التي تشهده تلك الدول التي كانت تهيمن في القرنين الماضيين على العالم وعدم تقبّلها لأفولها. كما أنّ مستوى التهجّم يعود إلى حالة الضعف التي تسود تلك الدول وعدم قدرتها على مواجهة التحوّلات بسبب رداءة القيادات الغربية وبسبب وصول النموذج الغربي على الصعيد السياسي والاقتصادي والفكري إلى طريق مسدود. كما يجب ذكر أنّ سبب تلك الكراهية هي العنصرية المتأصّلة في الغرب وكأنّ العنصرية هي الحمض النووي في تكوينه. التاريخ الغربي خير دليل على تلك العنصرية والوحشية عبر أعمال الإبادة الجماعية التي ارتكبتها في العديد من القارات إلى الممارسات التمييزية داخل مجتمعاتها ضدّ من يختلف معهم في البشرة واللسان والدين.
والتنافس الصيني الروسي قد يشكّل مدخلاً لدول الغرب وخاصة للولايات المتحدة لإجراء شرخ بينهما كما استطاعت في السبعينات استغلال التباين في الرؤية بين الصين والاتحاد السوفياتي لتحقيق اختراق استراتيجي لصالح الولايات المتحدة عبر إبعاد الصين عن الاتحاد السوفياتي من جهة واستنزاف الأخير في جبال أفغانستان. بعض النخب الحاكمة تريد استقطاب روسيا وإبعادها عن الصين لأنها تعتبر الأخيرة الخطر الفعلي على المصالح الاقتصادية لدول الغرب.
في المقابل، هناك نخب غربية تعتبر أنّ الخطر الاستراتيجي ما زال في روسيا وهذا ما نراه في كلّ من المملكة المتحدة وقيادات الحزبين الديمقراطي والجمهوري في الولايات المتحدة. لكن بغضّ النظر عن تفاضلية العداء فإنّ المحور الروسي الصيني أصبح الخطر الاستراتيجي الذي ينافس المحور الغربي، وإنْ كان التنافس في رأينا حُسم لمصلحة المحور الصاعد. لكن المعركة الآن هي كسب الوعي للشعوب التي كانت تحت وطأة الاستعمار والتغريب وهذه معركة طويلة المدى للتفوّق المطلق للغرب في تسويق نمط حياة استهلاكي يستهوي البشرية. أما المحور الصاعد فمن الصعب ربطه حتى الآن بنمط حياة يستهوي الناس وبالتالي لم يدخل في وعى الناس وخاصة عند العرب قيمة صعود المحور الروسي الصيني ونموذجه السياسي والاقتصادي.
لكن هذه الملاحظات لا تمنعنا من ضرورة التركيز والرهان على المحور الصاعد لتعديل موازين القوّة في العالم وبالتالي في الإقليم ومن ثمّة في الوطن العربي. ما نريده في هذه المقاربة هو الإضاءة على خلفية التفكير للقيادة الروسية التي ساهمت في صنع التغيير في التوازنات في موازين القوّة الدولية. فمعرفة طريقة تفكير الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ضرورة لفهم الاستراتيجيات والسياسات الروسية في العالم وفي الإقليم. صحيح أنّ خطاباته تعبّر عن تلك السياسات ولكنّها لا تشير بشكل مباشر إلى طريقة التفكير والخلفية. في هذا السياق كانت المقابلة الحوارية مع نادي فالداي الروسي فرصة للتعرّف أكثر على طريقة تفكير الرئيس الروسي.
نادي فالدي الحواري مؤسسة بحثية روسية تجمع نخب الاتحاد الروسي مع نظرائهم في العالم. تأسّس النادي عام 2004 والمؤسّسون هم نخبة النخب الفكرية والبحثية في الاتحاد الروسي المكوَّن من مجلس السياسة والدفاع الروسي، المجلس الروسي للشؤون الدولية، معهد موسكو الحكومي للعلاقات الدولية وهي جامعة تابعة لوزارة الخارجية والمعروفة بـ «امجيمو» الأحرف الأولى بالروسية، ومعهد البحوث للكلّية العليا في الاقتصاد. اما المشاركون في مؤتمرات والحلقات النقاشية والمنتديات فتضمّ أيضاً نخبة النخب العالمية من جامعات غربية وآسيوية وعربية كجامعة القاهرة وجامعة طهران وجامعة شرق الصين وجامعة توكيو وجامعة هارفارد وكولومبيا وجورج تاون ستنافورد وجامعة لندن والسّوربون وذلك على سبيل المثال. أما المشاركون في كلّ هذه النشاطات فتضمّ المسؤولين الروس الكبار من رئيس، إلى رئيس الوزراء، إلى وزير الخارجية، والدفاع، ورئيس هيئة الأركان على سبيل المثال وليس الحصر. والمشاركون الدوليون من أشخاص هم ملوك ورؤساء دول ومجالس نيابية حاليون وسابقون، إضافة إلى وزراء سابقين في العديد من الدول الأوروبية والآسيوية. كلّ ذلك يعني أنّ ما يصدر عن هذا النادي الحواري مهمّ للغاية لأنه بمشاركيه الروس والدوليين يتناول قضايا المعمورة بشموليتها وتفاصيلها.
هذا التعريف عن النادي كان ضرورياً لوضع مقابلة الرئيس بوتين في سياق الأهمية الذي يستحقّه سواء من المنصّة التي تكلّم عنها أو المضمون لكلامه. أجريت المقابلة على مدى ساعتين ونصف أو ما يساوي 20 ألف كلمة تقريباً لمن يريد قراءة النص. مقاربة الرئيس الروسي للمشهد الدولي والروسي شكّلت تقريباً ربع الوقت تضاف إلى ما تبقّى من المقابلة من ردوده على الأسئلة. وأهمّ ما أتى به الرئيس الروسي يتعلّق بجائحة كورونا وتداعياتها على الاقتصاد الروسي وأسس الدولة القوية كما يفهمها والمبادئ التي يرتكز إليها. كما قارب العلاقات الدولية وتمسّكه بالمؤسسات الدولية والقانون الدولي والتحوّلات التي حصلت في العالم خاصة بعد زوال الاتحاد السوفياتي وظهور روسيا. وركّز الرئيس الروسي على البيئة كمحور أساسي في التعامل الوطني والدولي على حدّ سواء. فما هي الملاحظات التي يُمكن استخلاصها من قراءة نص المقابلة؟
الملاحظة الأولى هي مركزية التوازن في المقاربات بعيداً عن خلفيات أيديولوجية أو سياسية. فبالنسبة لجائحة كورونا شدّد الرئيس الروسي على ضرورة التوازن بين اتجاهين متناقضين وهما الحرص على صحة المواطن وبين ضرورات الحياة والاقتصاد. الأولوية هي الحرص على حياة المواطن ولكن أيضاً ذلك الحرص يتطلّب الحرص على الاقتصاد. أوضح الرئيس الروسي أنّ القطاع العام الصحّي قام وما زال يقوم بواجباته على أكمل الوجوه وساهم إلى حدّ كبير في احتواء الجائحة. وما ساعد ذلك الإجراءات الوقائية كالحجر الصحي وإقفال المؤسسات العامة والخاصة لفترة معيّنة. لكنه أضاف أنّ استمرارية القطاع الصحي الحكومي يتطلّب تغذيته بالمال وهذا يعني لا بدّ من إعادة الدورة الاقتصادية والنشاط الاقتصادي إلى مستوياته الطبيعية. وسجّل في ذلك السياق أنّ الصناعات الغذائية والتحويلية تعمل بشكل طبيعي وجيّد بعد الإقفال القسري في المراحل الأولى لانتشار الجائحة.
الملاحظة الثانية هي تركيزه على ضرورة وجود دولة قوية. وتعريفه للدولة القوية لا ينحصر بحجم القوّات المسلّحة ونوعية عدادها وعتادها ولا بالقوانين القاسية ولا عبر خنق المبادرة الفردية بل بقدرتها على توفير التنمية. فالدولة القوية قاعدة لذلك ما يفرض مشاركة الجميع ويحصّن السيادة الوطنية التي هي قاعدة تلك القوّة. تكرّر مصطلح السيادة ليعطي بعداً سياسياً لمفهوم العمل القومي الروسي الذي يضع في أولوية اهتماماته السيادة الوطنية بعد حقبة بوريس يلتسين التي شهدت نهب مقدّرات الدولة بتشجيع غربي بشكل عام وأميركي بشكل خاص. والسيادة الوطنية هي التي تحدّد مسار السياسة الخارجية لأيّ دولة وأن لا سياسة خارجية ممكنة في ظلّ التبعية. فما يحصّن السيادة الوطنية وبالتالي عدم التبعية للخارج هو الوحدة الوطنية والأخيرة تعني مشاركة مكوّنات المجتمع.
وفي هذا السياق تكلّم عن الديمقراطية التي لا يمكن استيرادها لان الديمقراطية المستوردة تهدّد السيادة كما حصل في التجربة الروسية بعد تفكيك الاتحاد السوفياتي. فالديمقراطية المستوردة تفتح المجال لتنفيذ أجندات خارجية عبر نشطاء المجتمع المدني المموّل من الخارج. فكل دولة لها خصوصياتها التي يجب احترامها ومن الصعب تقليد تجارب الآخرين بل فقط الاستفادة منها بعد الدرس والتمحيص. وشدّد أنه لا يمكن تطبيق نماذج من الخارج دون اخذ رأي المواطنين أولاً. فالنماذج المستوردة هي فقط واجهات وليس لها مضمون يحاكي واقع الحال. فالعديد من مؤسسات ما يُسمّى بالمجتمع المدني مموّل من مؤسسات دولية أو حكومات لها أجندات تتنافى مع المصلحة الوطنية. لكن في المقابل لم يحدّد الرئيس الروسي الآليات لأخذ رأي المواطنين بل استفاض بالتكلّم عن «المجتمع» وشراكته مع «الدولة». نستطرد هنا لنقول إنّ التجربة اللبنانية لعدد من مؤسسات المجتمع المدني في انتفاضة 17 تشرين الأوّل 2019 تضاف إلى تجارب «الثورات الملوّنة» في أوكرانيا وجورجيا وأرمينيا ومصر على سبيل المثال وليس الحصر لتؤكّد دقّة كلام الرئيس الروسي. في المقابل إنّ المجتمع المدني القوي هو الذي يضع مصلحة الوطن قبل أيّ اعتبار آخر. والهدف في المجتمع المدني القوي هو تأمين الاستقرار الذي يساهم في عملية التنمية.
الملاحظة الثالثة تتعلّق برؤية الرئيس الروسي للعلاقات الدولية وأسسها فشدّد على ضرورة الحفاظ على القانون الدولي والالتزام به. والحجر الزاوية للقانون الدولي هو ميثاق الأمم المتحدة التي أسّست لمنع الحروب بين الدول وفض الصراعات عبر التحاور والتفاوض وعبر المعاهدات والاتفاقات القانونية التي تقرّها الدول المعنية كقانون البحار وقانون الأنهار إلخ… لكن الولايات المتحدة استطاعت أن تُحرّف المؤسسة الدولية وتحوّلها إلى أداة طيّعة لسياساتها الخارجية كما أنها ضربت عرض الحائط القانون الدولي. نستطرد هنا ونقول إنّ الولايات المتحدة لا تتكلّم عن القانون الدولي بل عن «المعايير الدولية» (norms) دون تحديد ما تقصد بذلك. فهذا مصطلح فضفاض لا يعني إلاّ ما تريده الولايات المتحدة!
والنقطة التي ركّز عليها الرئيس الروسي هي إعادة الاعتبار لتلك المؤسسة عبر التفكير في تطوير آلياتها السياسية وخاصة في مجلس الأمن وعضويته. ما لفت النظر كلامه عن ضرورة التفكير بتوسيع العضوية الدائمة في مجلس الأمن لضمّ كلّ من ألمانيا والبرازيل والهند وجنوب إفريقيا، أيّ إدخال دول «بريكس» التي تشكّل أغلبية سكّان العالم واقتصاده وجغرافيته. وبهذا الكلام اعتبر أنّ «الاستثنائية الأميركية» لم تعد قائمة ولن تمكّنها من السيطرة على المشهد الدولي. كما اعتبر أنّ المنظّمات والتكتّلات الإقليمية ضرورة في هيكلية العلاقات الدولية. ففي هذا السياق أشاد بدور منظومة شنغهاي التي على حدّ قوله تتنامى ومثمرة في إنتاجها للأمن والاستقرار وكذلك الأمر بمسار استانة. ويعتقد الرئيس الروسي أنّ الاتفاقات الإقليمية بين الأطراف المعنية مباشرة (وبعيدة عن التدخّل الغربي في رأينا) تشكّل إطاراً مقبولاً لتحقيق الأمن والاستقرار بعيداً عن التجاذبات الدولية.
يتكرّر مصطلح الأمن والاستقرار في مفردات الرئيس الروسي والتي يربطها بقاعدة قانونية خلافاً لما تقوم به الولايات المتحدة ومن يتحالف معها. التركيز على القانون الدولي يعطي مصداقية كبيرة للدبلوماسية الروسية والصينية في آن واحد بينما الاعتماد على القوّة الفجّة كما يحلو لوزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو لا يحصد إلاّ الريبة في أحسن الأحوال والعداء في أسواءها. الخلاصة هي أنّ إشراك أكبر عدد ممكن من الدول في صنع القرار يؤسّس لقاعدة صلبة للأمن والاستقرار. والإشراك لا يعني أبداً البصم على ما تمليه الولايات المتحدة! فحتى مفهوم التحالف يتغيّر ويتطوّر ليصبح معبّراً عن أكبر عدد ممكن من الدول ومصالحها.
ويعتبر الرئيس الروسي انّ مرحلة الحرب الباردة كانت مرحلة استقرار نسبي في العلاقات الدولية. لا ولن يترحّم على تلك الحقبة بل يعتبر انّ التغييرات والتحوّلات التي حصلت كانت سريعة ولم يتوقف عندها الكثيرون لتحليلها بعمق بل قام الكثيرون بالتسابق لتقاسم الكعكة على حدّ قوله! ما لاحظناه في تلك المداخلة كما في العديد من مداخلات الرئيس استرجاع ذاكرة التاريخ وخاصة تاريخ الحرب العالمية. فروسيا (الاتحاد السوفياتي آنذاك دفع الفاتورة الأكبر في عدد الضحايا الذي بلغ 25 مليون قتيل). لذلك نرى روسيا تستعيد ذكرى الحرب بينما الغرب يحاول تغييب دورها. كما أنّ روسيا تعرف معنى الحرب أكثر من الولايات المتحدة وبالتالي نرى دبلوماسيتها تهدف إلى فضّ الصراعات بدلاً من اختلاقها.
إصلاح نظام المنتصرين
يلاحظ الرئيس الروسي أنّ النظام العالمي أوجده المنتصرون في الحرب العالمية الثانية وهم الاتحاد السوفياتي والمملكة المتحدة والولايات المتحدة. في هذا السياق لم تعد المملكة المتحدة كما كانت في الماضي والاتحاد السوفياتي لم يعد موجوداً لكن هذا لا يعني أن لا وجود لروسيا كما يحلو للبعض على حدّ قوله. لذلك تقوم روسيا بدراسة المشهد الدولي الذي يتطلّب إصلاحات وليس إعادة تركيب كما يحلو للبعض. يجب الحفاظ على المؤسسات القائمة والآليات ولكن مع تعديلات تعكس التحوّلات. من هنا نفهم اقتراحه بتعديل تركيبة مجلس الأمن للأمم المتحدة.
لذلك نرى خياراته وتوجهّاته مستوحاة من مقاربته للتاريخ بغض النظر عن تقييم تلك المقاربة. هنا يختلف كثيراً عن المقاربات في الغرب حيث البعض اعتبر انّ التاريخ انتهى مع سقوط الاتحاد السوفياتي وانتصار سياسة الأسواق. لكن هذا حديث آخر خارج عن إطار المقاربة هنا. والتاريخ مدرسة يُستفاد من دروسها دون أن يكون المرء أسيراً لها. ومن ضمن مقاربته للتحوّلات اهتمامه بالتقدم التكنولوجي وانعكاساته على الفضاء السيبراني (cyberspace). في هذا السياق شدّد على رغبته في التعاون مع الولايات المتحدة رغم التباينات القائمة بين البلدين وذلك لتعزيزي الأمن والاستقرار.
الملاحظة الرابعة هي تشديده على أهمية البيئة وتكلّم في ذلك بشكل مسهب وليس من باب رفع باب العتب مظهراً مدى تعمّقه في الموضوع واهتمامه به. يستذكر هنا قصة الكاتب الفرنسي أنطوان دي سنت اكزيبوري صاحب المؤلّف الشهير «الأمير الصغير». في هذه الرواية المليئة بالاستعارات والرموز (metaphors and allegories) يقول الأمير الصغير إنّ المهم هو الانضباط في السلوك اليومي. ويجرّ الرئيس بوتين هذه الاستعارة إلى ضرورة الحفاظ على البيئة كما يحافظ الإنسان على ملابسه وأغراضه الخاصة. هنا أيضاً نرى ارتباط الخيارات والسياسات بالثقافة بشكل متعمّد عند الرئيس الروسي وينفرد بذلك بين القيادات الدولية المعاصرة له. في الماضي كان الرئيس الفرنسي شارل ديغول رمزاً لرجل الدولة الذي لا يخرج عن الثقافة وكذلك وزيره اندرية مالرو وفي ما بعد الرئيس فرنسوا ميتران. يخلص الرئيس الروسي إلى أنّ استعمال الموارد الطبيعية بشكل مفرط يؤذي الطبيعة وأذى الطبيعة يؤذي العالم أجمع.
الملاحظة الخامسة تأتي في سياق تعليقه عن دور الدولة ودور الرأس المالية. وما قاله يستحق التوقّف عنده لأنه يعطي قراءة نقدية لمرحلة سابقة ويضع الأطر الفكرية لسياسات تستشرف المستقبل. في الصراع مع منظومة الغرب من المهم أن نعرف أسس السياسات التي تتبعها روسيا ومعها الصين والدول التي تريد الالتحاق بذلك المحور. فيعتبر بوتين أنّ الراس المالية كانت في حالتها الصافية في بداية القرن العشرين فقط لكن التحوّلات التي حصلت في ما بعد في بنية الرأس المالية تستدعي التوقف عندها. ويلفت النظر إلى أنّ التجربة الروسية في المنظومة الرأس المالية تجربة محدودة لا تتجاوز الثلاثين سنة ولا يعتقد أنّ روسيا شهدت تحوّلاً إلى الرأس المالية بكل المعنى. فقرن من التخطيط المركزي يجعل من الصعب التحوّل إلى اقتصاد سوق. وروسيا تقوم ببناء مؤسسات الرأس المالية (لم يحدّد ما هي وما يقصد بها) من القاعدة إلى قمة الهرم. وهذا البناء في رأيه يأخذ بعين الاعتبار التحوّلات في العالم في ما يتعلّق بالرأس المالية. وهنا اعتبر أنّ دعاة اقتصاد السوق يزدادون حماسة عندما تكون المؤشرات الاقتصادية في تصاعد وفي حال الاستقرار والرخاء وزيادة الثروة والاستهلاك. عند ذلك الحين يعتبر دعاة الرأس المالية أنّ الدولة تقف عائقاً في وجه النمو بسبب القيود التي تفرضها على النشاطات والتي تكبح المبادرات. لكن في زمن الأزمات البنيوية والكوارث يتّم الارتكاز إلى الدولة كخشبة خلاص. إذن، عرض الرئيس الروسي القطبين الذي يحاول أن يجعلهما متكاملين بدلاً من نقيضين. هنا تحضر في رأينا التجربة الصينية التي مزجت بين اقتصاد موجّه عبر تخطيط مركزي وإطلاق اليد للمبادرات الخاصة فحقّقت أرقاماً قياسية في النمو والتنمية ورفعت مستوى المعيشة لعدد كبير من سكّانها كما رفعتهم من مستوى الفقر إلى مستوى الطبقة الوسطى.
هذه هي بعض الملاحظات التي يمكن استخلاصها من قراءة نص المقابلة. فهي وثيقة للتاريخ ولمن يريد أن يفهم عقل الرئيس الروسي. فمداخلته قبل البدء بالحوار حدّدت الأسس لكن فترة الأسئلة والإجابات أعطت تفاصيل أكثر عن عدد من القضايا الداخلية والخارجية لا نستطيع سردها لضيق المساحة وقد تشكّل مواد إضافية تستحق المقاربة في وقت لاحق. لكن الانطباع الذي خرجنا به من تلك المقابلة أننا أمام رئيس من طراز مختلف عن نظرائه في الغرب. فهو أكثر عمقاً وأكثر ثقافة وأكثر بصيرة رغم تواضعه في الكلام. ليس من الغريب إذن أن تستعيد روسيا مكانتها في العالم بل ربما بشكل أفضل وأكثر استدامة لأنّ رؤية الرئيس الروسي تستند إلى عامل يستطيع العالم أجمع أن يلتف حوله وهو عامل القانون الدولي الذي يأخذ مصالح العالم أجمع دون التفضيل لدولة على أخرى.
*كاتب وباحث اقتصادي سياسي