عن الوَجز الإنسانيّ
} د. باسل الزّين*
تكمن مأساتنا، أحيانًا، في عدم قدرتنا على الاكتفاء بالصّمت، واقتبال الفواجع بالتّأمّل أو بالتحسّر. ويُخيّل إلينا أنّ الإسهاب في رصد تفاصيل انفعالاتنا، وهواجسنا، ومآسينا، وتطلّعاتنا يقينا من برد الرّوح، أو من التّفلّج وحيدين في مفازات الصّقيع الوجوديّ، والهمّ الإنسيّ، والقلق الكونيّ.
ومع ذلك، ثمّة اختبارات تنزل في منزلة بين منزلتين، وأعني تحديدًا بين استحالة كتابة الصّمت، وعبثيّة الانسياق وراء التذمّر اللغويّ المدموغ بالخسارات، والانكسارات، والتقوقع، والغياب، والرّحيل، والتّفجّع.
لننعم النّظر جيّدًا في الواقع الإنسانيّ من حولنا، ولنرصد وقع الأحداث في سياقاتها التّالية. يقيني أنّنا سنعثر على ومضات إنسانيّة تستجلي همّها الحياتيّ، والوجوديّ، والعاطفيّ، والعقلانيّ، من خلال وقفات خاطفة، أو تلحّظات مكينة، تحتشد فيها إمكانات الحزن، والتفجّع، والرّثاء، والتحسّر لتخرج من بعدها إلى عالمها الطّبيعيّ بيقين أقلّ، لكن بتجاوز أكبر.
هنا ينسلك المعنى الإنسانيّ في تعاريج البوح الصّعب، والتكتّم المحال. إنّها اللحظة. لحظة الانكشاف في كثافتها القصوى، وانزياحتها الأقسى، ودلالاتها المفتوحة. إنّها الحضور الكليّ لمكوّنات الحدث الواقعي والنّفسيّ في تجلٍّ مضيء، وومض مهيب. بهذا المعنى، ينبغي لنا أن نتوق إلى القبض على اللحظة في حضورها المكين هذا، وإسقاط ما قبلها، وإهمال ما بعدها.
يتعلّق الأمر، إذًا، بحسن القبض على اللحظة وتأبيدها. ونعني بتأبيدها تشذيب أعراضها، وتهذيب متعلّقاتها، والاكتفاء بما اعتلن من ذروتها التّكثيفيّة الجامعة المانعة، الكاشفة المضيئة، المباغتة الصّادمة.
بهذا المعنى، يغدو القبض على اللحظة قبضًا على يقين مومِض قبيل تلاشيه، وذلكم ما يسمح لنا بتأبيده على وجه اللغة، والإيقاع.
كي يتيسّر لنا هذا الأمر، لا بدّ من مواءمة تطابقيّة، واعتلان وجيز، يماثل اللّحظة، من حيث حضورها البهيّ، والمكثّف، وتجلّيها الإشراقيّ، كلّ ذلك في تلازم لفظيّ ومعنويّ يروم نقل الدّهشة في أقصى تجلّيها، والصّدمة في أبهى حلولها، والفهم في ذروة اعتلانه.
وعليه، نسعى في الأدب الوجيز إلى تحقيق هذه المواءمة، فتكون الومضة، شعريًّا، معادلًا لفظيًّا للومض الإنسانيّ في أقصى درجات تجلّيه، بأقلّ وقت ممكن. لنتخيّل معًا لحظة الحزن الأقصى، ومعادلها اللفظيّ والإيقاعيّ والمعنويّ، يقيني أنّها ستنفذ إلى أعماق ما نريد تدوينه بالضبّط من دون الرّكون إلى حالات الشّروع الحزنيّ، أو متتماته البعديّة. وقس على ذلك تجليات الفرح والغبطة واليأس والانكسار…
بعبارة أخرى، إذا شئنا أن ننتخب العناصر التي تكوّن حياتنا النفسيّة لانتخبنا تلك التي ومضت وأفلت، ولَتُقنا إلى استعادتها في دهشتها الأولى، تفجّعًا كانت أم تغنّيًا. وعليه، بِمِكْنَة الومضة الشّعريّة أن تحفظ تلك اللحظات نقيّة، ومتعالية، وحاضرة في أقصى درجات حلولها حدّة، وتجليًّا.
يحضرني هنا قول إدواردو غاليانو: «الكلمات الوحيدة الجديرة بأن توجد هي الكلمات الأفضل من الصمت». لستُ أدّعي أنّ الومضة هي الكلام الذي يفوق الصّمت بلاغة، ووحيًا، واقتبالًا، لكنّني أمنّي النّفس بأن تكون كذلك في يوم من الأيّام.
الومضة ليست اختزالًا أو تكثيفًا وحسب، إنّها رصد لمدار قول مختلف، وتوق إلى سبل تعبير مغايرة تنهض بمهمّة ترجمة الانفعالات في أبهى حلولها، والتجليّات في ذروة حضورها، والتخيّلات في أقصى درجات توتّرها.
*عضو ملتقى الأدب الوجيز.