«شمس الأستاذ إيمان» ليوسف هزيمة.. تضيء حياةً لم تسقط من غربال الذَّاكرة
} د.عبد المجيد زراقط*
«شمس الأستاذ إيمان»، ليوسف هزيمة، مجموعة قصص قصيرة، صدرت مؤخَّراً عن دار الفارابي. يقول كاتبها، في مقدمته لها، إنَّ أحداثها حقيقيَّة ومتخيَّلة ذات أساس واقعي، وإنَّها كُتبت بين عامي 2003 و 2020.
وهذا يعني أنَّ هذه الأحداث تمثِّل حياةً معيشة لم يُسقطها غربال الذاكرة، وإنَّما مكثت في مصفاة الذات ذلك الزمن الطويل، وامتلكت فاعلية الخروج نصوصاً قصصية قصيرة.
وهذه النصوص ذات بنية قصصيَّة متخيَّلة، سواء أكان مرجعها حقيقيَّاً أم متخيَّلاً ذا أساس واقعي، لأنَّ الكاتب، عندما يكتب يختار من منظوره الوقائع، وعندما ينظّم هذه الوقائع من منظوره أيضاً، يشكِّل بنية قصصيَّة متخيَّلة تمثِّل تجربته وتنطق برؤيته.
فما هي هذه الأحداث التي امتلكت هذه الفاعلية؟ وكيف تمثلت نصوصاً قصصية قصيرة في زمن تهيمن فيه الرواية، ولا تترك للقصة القصيرة إلاَّ حيِّزاً محدوداً ينشط فيه بعض الكتَّاب الذين تملي تجربتهم الحياتيّة/ الأدبية كتابة هذا النوع الأدبي المغبون؟
يمكن للإهداء، الذي نستطيع أن نعدَّه نصَّاً يشكل فضاء قراءة هذه المجموعة، أن يكون دالَّاً على إجابة، فالكاتب يهدي هذه المجموعة الى أخيه علي الذي اختفى، ليل 17/1/1981، ولم يعُد…، وكان مقاوماً عرفته تلال بنت جبيل. ينطق هذا الدَّال بثنائية هي: مقاومة العدو المحتل/ فقد الأحبَّة، في فضاء الفقد المهيمن على الوطن العربي، والذي يدل عليه هتاف أبناء القرية، في قصة:
«الجنود في رأس الظهر»، بعد قصف قريتهم التي لا ملاجئ، ولا مستشفى، ولا مستوصف، ولا طبيب، ولا… فيها، ولا قوى تدافع عنها:
وين العرب!؟
ويدل عليه الوصف الخلَّاق للمعنى لشمس هذه القرية، بوصفها شمس البلاد التي تعاني من فقدٍ لم يُعوَّض، فطلوع هذه الشمس باهت، وهي حزينة، «تحجبها غيوم سود، ورياح هوج تعصف بالنُّفوس».
فهل هذه هي شمس الأستاذ إيمان؟ وماذا تضيء هذه الشمس؟
تأخذ هذه المجموعة عنوانها من عنوان إحدى قصصها. في هذه القصة تبرز مقاومة ثنائية هي: الكيان الاستيطانيّ الغاصب المحتل/ التعصُّب الطائفي والمذهبي التكفيريّ، فشمس، الأستاذ الناجح، والطالب الجامعي الواعد، يفقد بصره لدى قيامه بعمليّة ضد العدو المحتل، فيتماسك، ويعمل، وينجح، وينجب…، ولا يلبث ابنه جواد الذي أعاد سيرة أبيه أن يُقتل في تفجير نفَّذه التكفيريّون. وهكذا تتجسد ثنائية العلم والشجاعة والبطولة/ الفقد…، وفي غمرة عيش هذه المواجهة الدائمة تستمر الحياة المعطاء.
تُكتب قصصٌ، من قصص هذه المجموعة، أحداث هذه الحياة، وترسم قصص أخرى صور شخصيات متميِّزة، منها ما هو فاعل طيِّب كالطبيب «اسبريدون» الذي كان يجوب بسيارته قرى قضاء مرجعيون، ويمارس دور الطبيب والصيدلي والمستوصف و…، ويجيد التعامل مع أبناء القرى، بمختلف فئاتهم، وقد أجاد الكاتب رسم صورته الجسديّة وتعامله الإنساني، كما أجاد التقاط لحظة حياتية دالَّة، فالطفل الذي كان ينتظر المنقوشة، شرب الكاز، وأُغمي عليه، ولمَّا أفاق بعد معالجة الطبيب، كان أوَّل سؤال سأله: وين المنقوشة!؟ كما كشف رسم صورة هذا الطبيب حرمان القرى الجنوبية وفقدها، فكان واضحاً أن العدو الثالث، اضافة الى العدو المستوطن والطائفية التي تلغي الاَخر، هو الحرمان وفقد عناية الدولة بأبنائها وفاعليتها الانمائية، في الوقت الذي يعنى فيه هؤلاء الأبناء بأرضهم وأشجارها ومزروعاتها، فنجد صورةً للفلاح العجوز الذي يعشِّب شتلات التبغ، والفلاح العجوز الاَخر الذي لا يرتضي قلع زيتونة من أجل بناء بيت مكانها، واللافت أن الأستاذ الذي كان يأخذ عليه ذلك فعل الأمر نفسه عندما أراد ابنه أن يبني بيتاً في كرمه المشجَّر بالزيتون.
وفي هذا السياق من رسم الشخصيات، نجد صورةً لنائب رئيس جامعة، يكثر الكلام والادعاء الفارغين، ما يثير السخرية منه ومن جامعته، وإقامة المقارنة بينه وبين أولئك الفلاحين والأساتذة، وهكذا ترسم هذه القصص نماذج إنسانية حيّة ملموسة.
ويتوقف القارئ عند صورة المرأة، في هذه المجموعة، فعلى الرغم من قسوة الحياة تتمكّن الفتاة التي يحرمها جدها من الميراث، من إكمال تعليمها، ومن العمل، والزواج ممَّن تختار بعدما رفضت من اختاره لها جدُّها، وحاول إرغامها على قبوله. كما تتمكن المرأة الصابرة من الهجرة الى أميركا، واسترداد ولديها ليكملا تعليمهما هناك في رعايتها.
ويبدو واضحاً حضور الاغتراب في هذه المجموعة، ففي سبيل تعويض الفقد، يهاجر اللبنانيون، وينتشرون في كل مكان في هذا العالم الذي غدا قرية كبيرة. فالمسافر، يلتقي في غير قصة، لبنانياً مثله، ويكشف نماذج من الغربيِّين، منهم الألماني المتحضِّر «الواعظ» الذي يقدِّر الإنسان الصادق ويكافئه، و»الستراسبورغي» العنصري، ويقرِّر: مسكين من لم يزر أوروبا، ومسكين من يبقى فيها، فالوطن هو الأحلى والأغلى.
ومن الأحداث التي لم تسقط من غربال الذاكرة طرائف ملتقَطَة من وقائع الحياة دالَّة على طبيعتها، منها: مطاردة الغزال الذي لم يكن سوى كلبة، والرحلة الميمونة التي لم تكن سوى رحلة بائسة. تبرز، في هذه الأحداث، المفارقة الكاشفة عن فقد من نوع اَخر، هو الإخفاق في كسبٍ مرجوٍّ في الحدث الأول، والخداع المولِّد للخيبة في الحدث الثاني.
وهكذا، كما يبدو، أضاءت شمس الأستاذ ايمان حياةً معيشة لم تسقط، طوال عمر من الزمن، من غربال الذاكرة، وتجسّدت نصوصاً تمثِّل الحياة التي تمثَّلتها.
*باحث وناقد وأستاذ جامعي.