الروائي الناقد السوريّ الدكتور نضال الصالح لـ«البناء»: الكتابة، أيّ كتابة، عندما تزعم النضج حكمت على نفسها بالحركة في المكان، بل بالموت..
* أردت تحدّي الحياة بما استطعت إلى ذلك سبيلاً، وأزعم أنني هزمتها في غير مواجهة معها، ولم أكن أملك من الأسلحة سوى اليقين..
* مؤمن حدّ اليقين بأنّ أكثر الأشياء طمأنينة للذات هي اتخاذ القرار بعيداً عن أيّ تأثيرات ليست نابعة من الذات نفسها التي غالباً ما نهملها تحت وطأة مفهومات وأعراف خاطئة وقيم مجتمعيّة..
* عدتُ إلى حضن حلب بعد سنوات غياب عنها لأجدها في انتظاري وهي ترسل جدائل تاريخها بساطاً لرقص أصابعي على البياض، فأكتبُ، وأكتبُ، وأكتبُ، ولا أرتوي من جنائن ذلك السحر الذي لا يشبهه سحر..
} تقديم هاني سليمان الحلبي
يكتب بمداد سحريّ، يستلهم روحاً علويّة، عينُه في عين الحق وفي عين الإبداع. الفقر فرصة لامتحان ذاته وصقل إرادته وشحذ همته. لم يتردّد أن يستجيب للتحدّي عندما نصحت قريبة أمه والدتَه أن العلم ليس للفقراء.. فانطلق في جواب لما ينقطع؛ يكفي الفقراء أن يعوا حقيقتهم أن كل فرد إمكانية فاعلة، وأن يسيّروا أقدارهم من نواصيها عندما يريدون.
اعتمد لنفسه خطة دولة. خمسيّة عادة. دولة مصغّرة وطنها جسد منذور لقضية ومبدأ، شمعه يسيح على وهج النار المنبعثة من نفس متوقدة؛ والأيام، الأفكار، المبادئ، الرؤى وقودُها النووي..
وإذ يكتب تتوق الحروف لحبره أن ترتسم أبجديّة شغف.. وحسبه أن يكون هو ما هو، لكأنه حلم تجسّد في سقطاته وهناته ووقفاته كما أراد أن يكون.. الحياة تجربة.. لكنها قبل هذه وتلك وقفة عز فقط. ومَن يتخذ وقفة العز، ما همّه ان يطاوله صغار وأن يعابثه أنذال في زمن عبريّ باسم عروبة.
الروائي، الناقد، الأكاديميّ، أمين عام اتحاد الكتاب العرب الأسبق، النادم بمعنى ما، على ترشّحه لأمانته العامة، الناقد التجربة بعصف ذهني ونفسي جدير بالمعنيين سبر الواقع لتقويم واقع المؤسسة في حرب الوجود على هويّتنا، فالكتّاب قادة سلاحهم أقلامهم وذخيرتهم أفكار ورؤى لا تقلّ عن فعلها أحدث الأسلحة من الجيل السادس..
صاحب الـ 25 كتاباً في زمن القحط، قصصاً وروايات ثلاثاً، وإذ نساله عن نضج الكتابة يستفظع مستهولاً أن تدّعي أية كتابة نضجَها.. فادعاء الكتابة نضجاً مراوحة في المكان وجفاف في الروح يسمّيهم بعضُهم موتاً..
لقاء دهشة.. يُنشر في وقت واحد تزامناً في جريدة «البناء» وفي موقع حرمون، توأمة حروف وقضية وثقافة التزام بوطن بهيّ.. حلب نموذجه السحريّ ودهشته المستدامة..
جدير بقراءتكم.. ولن تضيع منكم ساعة قراءته ففيه زادُ عقل ومدادُ روح وسدادُ ثقافة..
} تنسيق وحوار فاطمة ملحم
أنا آخر من يمكنه التعريف بي..
أعجز عن هذا وأخشاه
* نحن نعلم أنك غنيّ عن التعريف، ولكن هل من الممكن أن تلقي لنا ببعض الضوء على ما يعرّفنا إليك أكثر؟
– أنا آخر من يمكنه التعريف بي، أعجز عن هذا، وأخشاه كما يخشى طفل من أن يتلعثم بالقراءة في حضرة معلّم لا يعرف الشفقة، وإنْ تجرّأت على ذلك، فلا أملك سوى بضعة أسطر لا تتجاوز كونها نثارات من عمر بلغ إلى الآن الرابعة والستين: حلبيّ، سوريّ، عربيّ، ولد ونشأ لأسرة لم تكن تملك سوى كفاف يومها، وكانت تملك أثمن ما في الكون: الكرامة. عملَ ودرس حتى حصوله على شهادة الدكتوراه بعرق الجبين، وقرأ آلاف الكتب وصدر له إلى الآن خمسة وعشرون كتاباً في القصة والرواية ونقدهما والنصّ العابر للأجناس والمقال. ابن المتضادّات: يبكي لمرأى عصفور يرتجف من البرد ولا تقوى حاملة طائرات، مهما عربدتْ، على دفعه إلى الخوف. بسيط كماء وواضح كطلقة مسدس بتعبير الشاعر الراحل رياض الصالح الحسين. ينهمر الدمع من روحه لمشهد تراجيديّ في مسرحية أو فيلم سينمائي أو لسماعه أغنية حزينة وصلب وربّما قاسٍ كحجر من البازلت. طفلٌ لا يعرف من أبجديّة الحياة شيئاً وطاعنٌ في الحكمة مثل رجل عجوز خبرَ الحياة بالتجارب والمحن. يكره أنصاف الأشياء، الرجال والنساء والمواقف والمشاعر، ولا يتردّد في قول ما يجب قوله مهما كان الثمن.
لم أدَعْ لقوة، مهما توحّشت، أن تهزم إرادتي في المضيّ إلى الأمام..
* كيف كوّنت خبرتك الفكرية والشخصية؟
– منذ كنتُ طفلاً كنتُ نهماً للقراءة، لا أوفّر كتاباً أو مجلة أو صحيفة تصل إليها يداي، ولم أكن أتردّد في التقاط كتاب أو مجلات أو صحف رمى بها أحدُهم في الطريق، ثم آوي إلى مكان يعصُمني من صخب العالم حولي وأقرأ، ولذلك كانت القراءة أحد أهم مصادر معرفتي بالعالم، وكتاباً إثر كتاب ومجلة بعد أخرى وصحفاً أو نثارات من الصحف على نحو أدق بعد نثارات ازددتُ وعياً بالحياة التي غالباً ما كنتُ أرتطم بقسوتها وتوحّشها وتغوّلها في التهام الطبقة الاجتماعية التي أنتمي إليها، ولذلك أردت تحدّيها بما استطعت إلى ذلك سبيلاً، وأزعم أنني هزمتها في غير مواجهة معها، ولم أكن أملك من الأسلحة سوى اليقين بأنّ الإرادة تصنع المستحيل مهما يكن من أمر الإرادات المعوّقة لحقّ الإنسان، أيّ إنسان، في حياة حرة وكريمة وخالية من دنس الاستعباد والاسترقاق لفرد أو جماعة أو قوّة. إنني أقرأ، منذ ما يزيد على ثلاثين سنة، نحو ثماني ساعات كلّ يوم على الأقلّ، وعلى الرغم من أنّ معظم قراءاتي هي في حقل الأدب والنقد، فإنني لا أوفّر أيّ كتاب في أي حقل معرفيّ آخر، ولا سيما التاريخ والفلسفة؛ أمّا ما عنيتِ بالخبرة الشخصية، فكانت بسبب ما تقلّبت على جمره في غير شأن منذ كنتُ طفلاً، وفي جحيمه منذ وعيت الحياة، ومن ذلك ما كانت الحياة تجابهني به من حصى وأشواك وحجارة في الطريق إلى المعنى الحقّ لها، أي الحياة نفسها وعلى قيدها، وعلى الرغم من أنني كثيراً ما كابدتُ من محاولات القتل، بالمعنى المجازيّ، فإنني لم أدَعْ لقوة، مهما توحّشت، أن تهزم إرادتي في المضيّ إلى الأمام.
المطمئن للذات هو اتخاذك قرارك وحدَك ومن ذاتك وحدها
* كيف تحلّل الموقف وتتخذ القرار فيه؟
– على الرغم من دراستي الفرع العلميّ في المرحلة الثانوية، فإنني لم أكن ألجأ إلى منطق المصفوفات الرياضيّة يوماً، بل إلى الثقة بالنفس والإرادة وبقدرتي على اتخاذ القرار من دون أن أحسب حساباً لربح أو خسارة بل بأن القرار قراري أنا وليس قرار سواي. إنني مؤمن حدّ اليقين بأنّ أكثر الأشياء طمأنينة للذات هي اتخاذ القرار بعيداً عن أيّ تأثيرات ليست نابعة من الذات نفسها التي غالباً ما نهملها تحت وطأة مفهومات وأعراف خاطئة وقيم مجتمعيّة ترغمنا على وضع الأقنعة بدلاً من مواجهة الواقع بوجوهنا الحقيقيّة، بل بدواخلنا وأعماقنا ومشاعرنا، وقبل ذلك وبعده بما يحقق لنا أسباب الإحساس الحقّ بالحياة لا العيش فيها.
أثبتُّ لقريبة امي ولنفسي أن عدم امتلاكي طاولة للدرس لا يعيقني عن التفوّق لأعلى الدرجات
* ما أبرز ما تتذكّره من مواقف جعلتك تكتشف نفسك، تحديات، مواجهات، إخفاقات، إنجازات؟
– ذات مساء كانت إحدى قريبات أمي في زيارة لمنزلنا المتواضع في الحيّ الذي ولدتُ ونشأت وترعرعت فيه، في حي باب المقام الذي يُعَدّ أحد أعرق أحياء حلب القديمة، والذي يتكئ على زند القلعة. كنتُ في نحو الحادية عشرة من عمري أتمدّد على الأرض وأنا أكتب واجباً مدرسياً لأنه لم يكن لديّ طاولة أستعين بها على الدراسة والكتابة. سألت القريبة أمي، رحمها الله، عما أفعل، وعندما أجابتها بأنني أكتب «وظيفة»، قالت القريبة بما معناه إنّ على أمثالنا من الفقراء الانصراف إلى العمل في مهن بدلاً من الدراسة التي تليق، حسب تعبيرها، بمن يملكون المال. كان لذلك الموقف / القول على الرغم من وطأته على الروح ومن قسوته فعلُ السحر في داخلي، فقد دفعني إلى اتخاذ قرار بمواصلة الدراسة حتى أعلى شهادة علمية، وبتفوّق بآن، لأثبت لنفسي قبل أن أثبت لقريبة أمي بأن الشهادة العلمية أغلى من أغلى كنز في الحياة، ومن أثمن مال، وهذا ما كان، فعلى الرغم من أنني وجدتُ نفسي بعد حصولي على الثانوية العامة، الفرع العلمي، مضطراً إلى الدراسة في الصف الخاص بسبب الظروف المادية التي كانت أسرتي تكابدها بدلاً من متابعة الدراسة في الجامعة، فإنني لم أستسلم لقسوة الحياة، بل تقدّمت إلى امتحانات الشهادة الثانوية، الفرع الأدبي، بالدراسة الحرة بعد نحو سنتين من ذلك، ونجحت، وسجلت في قسم الفلسفة في جامعة بيروت العربية، وبلغت السنة الثالثة، وبسبب الغزو الصهيوني للبنان مطلع الثمانينيّات لم أكمل الدراسة، ولم أستسلم أيضاً، فتقدّمت إلى امتحانات الشهادة الثانوية من جديد، ونجحت، وسجلت في قسم اللغة العربية في جامعة حلب، ولم أكتف بالشهادة الجامعية، بل تابعت مسيرتي بإرادة لم تعرف الهزيمة يوماً حتى حصولي على شهادة الدكتوراه، ومجمل الشهادات التي حصلت عليها كانت بتفوق.
لا يمكن أن أكون غير أنا الذي عليه الآن.. فأنا الذي رسمتُ مصائري بيديّ
* لو لم تكن أنت ما أنت، ماذا وددتَ أن تكون؟
– لا يمكن أن أكون غير أنا الذي عليه الآن، فأنا الذي رسمتُ مصائري بيديّ على الرغم من إيماني المطلق بالقضاء والقدر، ولم أدَعْ لشأن، أيّ شأن، في حياتي أن يكون بمحض المصادفة أو بإرادة الواقع. لقد كنتُ أخطط لمستقبلي كما يُصطلح عليه في علم الاقتصاد بالخطط الخمسيّة، وباستثناءات قليلة جداً تكاد لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة أنجزت معظم ما كنت أخطّط له، وفي الزمن الذي كنتُ وضعته من قبل كما لو أنني أنا مَن يحدد للزمن حركته ويرسم مساره. كنتُ في طفولتي مغرماً بكرة القدم، ولو كان لخندق قلعة حلب المواجه للمدرسة الإعدادية التي درستُ فيها، إعداديّة الزهراوي، لسانٌ لشهدَ لي بأنني كنت حارس مرمى متميّزاً، وكان من الممكن أن أكون، فيما مضى من الوقت طبعاً، أحد أبرز حرّاس المرمى في سورية، ولكنني آثرت الانصراف إلى شأن آخر، إلى الرسم، وأزعم أنني تفوّقت في هذا المجال أيضاً على كثير من أبناء جيلي آنذاك، ولكن، وشأن ولعي بكرة القدم الذي لم يستمرّ طويلاً، انصرفت عن الرسم إلى الكتابة وأنا في المرحلة الإعدادية من الدراسة، ومنذ أوّل نصّ قصصيّ نُشر لي في إحدى أهم المجلات الثقافية السورية في السبعينيات، المعلّم العربيّ التي كان يرأس تحريرها الشاعر الكبير الراحل سليمان العيسى، حسمتُ أمري مع نفسي، واخترت مساراً لوجودي في الحياة: الثقافة التي صارت بالنسبة إليّ، قراءة وكتابة، الهواء والماء والطعام الذي يمنحني معنى لهذا الوجود. لو لم أكن أنا ما أنا الآن، فلما تردّدتُ في أن أكون نفسي كما أنا الآن.
حفرتُ الصخر بأظافري ولم أسمح لأيّ عائق، مهما تورّم، أن ينال من إرادتي
* ممكن العودة إلى البدايات. كيف بدأت؟ وأين؟ ما عوائق البدايات؟ وكيف تخطيتها؟
– أستطيع أن أختزل الإجابة عن هذا السؤال بعبارة واحدة هي أنني حفرتُ الصخر بأظافري، وبثانية هي أنني لم أسمح لأيّ عائق، مهما تورّم، أن ينال من إرادتي في أن أكون كما أريد أن أكون.
القصة القصيرة ملاذاً لي فالرواية لو لم يأخذني النقد إلى جحيمه الشهيّ
* لماذا اخترتَ ميدان الرواية؟ وكيف تبلورتْ تجربتُك فيها حتى النضج؟
– بدأتُ حياتي الأدبية شأن الكثير من الشباب في مرحلة المراهقة بكتابة الشعر، ثم ما إن ازداد وعيي بالواقع حولي، واكتشفتُ بنفسي بأنّه لن يكون لي موطأ قدم في ساحته الممتلئة بالكبار، وبأنه يضيق بما أنوء تحت وطأته من مؤرقات تستلزم مساحة تعبير أكثر رحابة، حتى اخترت القصة القصيرة ملاذاً لي، ثم منها إلى الرواية، ولو لم يأخذني النقد إلى جحيمه الشهيّ بسبب الدراسات العليا، لكنتُ أنجزتُ في هذا المجال أكثر مما أنجزت إلى الآن. أمّا ما يعني الجزء الآخر من سؤالك، فليس لي أن أؤكد ذلك أو أنفيه، لأنه شأن النقاد والقراء وليس شأني على الرغم من أن روايتي البكر «جمر الموتى» حظيت بجائزة أولى في مسابقة عربية للكتابة الروائيّة في وقت مبكر نسبياً من حياتي، ومن إشادة روائيين ونقاد كبار بها. إلى الآن، وبعد ثلاث روايات، لا أدّعي أنني بلغت درجة النضج في الكتابة، ولن أبلغه حتى لو صدرت لي عشرات الروايات، لأنّ الكتابة، أيّ كتابة، عندما تزعم ذلك يعني أنها حكمت على نفسها بالحركة في المكان، بل بالموت.
* هل ندمت على اختيارك ولو توفّرت لك ظروف التغيير تغيّر؟ إلى ماذا؟
– بالتأكيد لا، وبالتأكيد أكثر ومهما تغيرت الظروف، فلن أتردّد في اختيار ما اخترت لسبب رئيس هو أنّ ما اخترت جعلني أربح هذا الحضور الذي أفخر به في الحياة الثقافية العربية، وهذا الكم الكبير والبهيّ من الناس، قرّاء ونقاداً، والمعنى الحقّ للبقاء على قيد الحياة رغم أنف الموت.
مع بداية خرافة الربيع العربيّ حاربني بخسة مَن كان يتسوّلني التنويه به
* حسناً، فهل ندمتَ على شيء فعلته، أو على شيء تمنيتَ أن تفعله ولم تفعل؟
– ليس بمعنى الندم، بل بمعنى الأسف، ومن بعض ذلك الغدر والجحود والنكران ممّن كان يتسوّلني لأكتب عنه في ما أكتب في حقل النقد، أو لأكتب تقديماً لعمل أدبيّ له، ثم لم يدخر وسيلة ليأكل لحمي ميتاً، أو ليثبت لنفسه قبل أن يثبت لي ولسواي أنني من عنى الشاعر القديم بقوله: ومَن يصنع المعروف في غير أهله.. إلى آخر البيت. لستُ نادماً بالمعنى الدقيق للكلمة، بل ينتابني الحزن والأسى كلّما واجهت عقوقاً من هؤلاء، ومنهم بعضٌ مِن طلبتي في جامعة حلب الذين كنت أحمل لهم المصادر والمراجع من مكتبتي الخاصة ليتابعوا دراساتهم العليا، ثمّ ما إنْ جهرتْ خرافة الربيع العربي بنفسها حتى تحوّلوا ذئاباً ضالة، وبلغ الأمر باثنين منهم حدّ الخسة والنذالة اللتين لا يقدم عليهما إلا كلّ من باع ضميرَه للشيطان.
* ماذا أنجزت حتى الآن؟ وماذا لما تنجز بعد؟
– أنجزتُ الكثير، ولديّ الكثير لأنجزه إن بقي في العمر بقية. لقد صدر لي إلى الآن خمسة وعشرون كتاباً ما بين القصة القصيرة والرواية والنقد والنص العابر للأجناس، وحصلت على عشرات الجوائز الأدبيّة على المستوى العربي، كان أبرزها جائزة القدس التي يمنحها الاتحاد العام للأدباء والكتّاب العرب، والتي تشرّفت بها قبل نحو سنتين، وثمة مشروعات كثيرة أعمل عليها الآن، منها رواية جديدة وكتاب في النقد الروائي، وآمل أن أنجزهما خلال الأشهر القليلة المقبلة.
لا طقوس لديّ في الكتابة.. فأنا أكتب تحت وطأة الحال التي أكونُ فيها
* كيف تكتب موضوع روايتك؟ وأية طقوس للوحي برأيك؟ أم أنه يفتح عليك أبواب الإلهام بلا استئذان أو مواعيد أو مقدّمات؟
– الواقع حولي يفرض عليّ الموضوع، ومن البدهي أن تكون الحرب في وطني سورية هي ما يُشغلني منذ سنوات، وهي ما جسّدته في ثلاثة أعمال روائيّة إلى الآن كان لمدينتي حلب جوهر المحكي فيها بسبب ما كابدته من جحيم هذه الحرب. ولا طقوس لديّ في الكتابة، فأنا أكتب تحت وطأة الحال التي أكون فيها، وبعد اكتواء بجمرها، وبروح العاشق الذي لا يعرف معنى لحياته من دون أنثى / مدينة يخفق قلبها له، وتتعطّر روحه بعبق السحر الذي يفيض من كلّ شيء فيها، وتلك هي حلب التي تُلهمني الكتابة منذ بدء جحيم الحرب سعيره قبل نحو عشر سنوات، والتي عدتُ إلى حضنها بعد سنوات من الغياب عنها لأجدها في انتظاري وهي ترسل جدائل تاريخها بساطاً لرقص أصابعي على البياض، فأكتبُ، وأكتبُ، وأكتبُ، ولا أرتوي من جنائن ذلك السحر الذي لا يشبهه سحر.
نادمٌ بمعنى ما لاستجابتي للتمني عليّ بترشيح نفسي لانتخابات الاتحاد
* دعني أسألك قبل سؤالي الأخير عن اتحاد الكتّاب العرب الذي كنتَ رئيساً له. واقعه، وكيف تراه؟
– يُعيدني هذا السؤال إلى سؤال سابق لك عما إذا كنت ندمتُ على شيء فعلته، وها أنذا أعترف أمامك وأمام القراء بأنّني إذا كنتُ أحسستُ بالندم يوماً أو مرّة في حياتي، فهو أنني استجبت للتمني عليّ بترشيح نفسي لانتخابات الاتحاد لأكون رئيسه في الدورة التاسعة، وليتني لم أفعل لأنني كنتُ كلّما مضيت في معرفة الواقع أكثر ازددتُ ندماً على ندم، ومن بعض أسباب ذلك ما رأيته من كمّ كبير من الكتب الصادرة عن الاتحاد مرميّ في المستودعات، وبعض من عناوينها لم يزد عدد النافد منه ما لا يتجاوز أصابع اليدين، وما عرفتُه عن غير قليل من أعضاء الاتحاد عن قرب بعد أن كنت عرفتهم من خلال مؤلفاتهم. وهنا أعني الكتّاب والكاتبات معاً، ولا سيما المفارقة لدى بعض منهم، وهو ليس قليلاً، بين النظرية والممارسة، أو الكتابة والسلوك، ولا سيما أكثر أنّ غير قليل منهم كاتب تقارير أكثر من كونه كاتباً بحقّ، و..
لقد غادرتُ الاتحاد غير آسف بعد أن أنجزت له ما أفخر به، ومن ذلك اجتماع المكتب الدائم للاتحاد العام للأدباء والكتّاب العرب في دمشق في ظروف شديدة الوطأة على الوطن، ومنه أنني وفيتُ لما عاهدت نفسي عليه وهو ألا أطبع لي أي كتاب ضمن إصدارات الاتحاد ما دمتُ رئيساً له، ومنه أنني لم أسرق من أمواله شيئاً كما فعل ويفعل غيري، و.. أما كيف أراه، فأتمنى أن يستعيد المكانة التي كانت له قبل أن يتسلل إليه الأشباه والأدعياء والملوّثون بشهوات البحث عن امتياز صغير هنا وآخر هناك، ومن أولئك شيء، أجل شيء، حكى الراغب الأصفهاني عنه في كتابه «محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء»، وفيما سمّاه: «ذمّ مَنْ يتكلّف إدراك ما لا يدركه»، وما سبق من الإجابة غيض من فيض بعض صوره في كتاب أكاد أنتهي منه بعنوان: «كأنّ الريح، ما يشبه السيرة».
* سؤالي الأخير: في عصر الهاتف والآيباد يواجه الكتاب الورقي مأزقاً، هل تتوقع قدرته على الدفاع عن نفسه؟
– لا يمكن لوسائل الاتصال الحديثة مهما بلغت من قوة البطش بحياتنا الراهنة أن تقوى على سحب البساط من تحت قدميّ الكتاب الورقي الذي سيبقى له سحره وروحه وغوايته، وعلى الرغم من أنّ جائحة الكورونا ازدادت بطشاً به، وكادت أن تقضي عليه لصالح النشر الإلكترونيّ، فإنه سرعان ما سيستعيد عافيته، وأعتقد أن ذلك ليس ببعيد.