هنري ميللر الذي سقط في جحيم أرتور ريمبو
لا يوجد في تاريخ الأدب من هو أكثر جاذبية وإثارة للجدال من الفرنسي أرتور ريمبو. يبدو هذا التعميم مبالغاً فيه، إلا أن المراهق الفرنسي كان في عمر الثامنة عشرة حين ختم سيرته الشعريّة لتغيّر نصوصه تاريخ الشعر وتصنف على أساسها الحداثة الشعرية. هو من قلّة ارتقت من مرحلة «الشاعر إلى «الرّائي» le voyant ، فالرائي يقتحم العالم ويرفض كل ما هو قائم به. هذه التجربة الغنيّة أغوت الكاتب الأميركي هنري ميللر لتأليف كتاب عنوانه «ريمبو وزمن القتلة». ويتحدث فيه ميللر عن تجربة ريمبو الشخصية في قراءة هذا الشاعر، إذ يحاول أن يقاطع سيرته الشخصية وتنقله بين نيويورك وفرنسا مع سيرة «الملعون» ريمبو، ورحلته من فرنسا نحو الشرق، مروراً بالحبشة واليمن وصولاً إلى الهند.
شكلت قراءة أرتور ريمبو هاجساً وخوفاً لهنري ميللر، فمن الصعب التعرف إلى حياة شاعر مماثل من دون الشعور بأن سائر محاولات الكتابة التي نقوم بها لا توازي بيتاً شعرياً من تأليفه، إذ بقي ميللر لفترة طويلة يتحاشى قراءته، فالغوص في «فصل في الجحيم» تجربة مهمة لكل كاتب إذ تتكشف له إثرها عوالم «الرائي»، ليبدأ بعد الكاتب ـ الشاعر بعد ذلك محاولات اكتشاف لغته الخاصة والتحرر من جميع القيود الاجتماعية والدينية في سبيل الحرية المطلقة. فريمبو من شعراء قلّة عاشوا الشعر وكتبوه. هو ليس ملهماً بشعره فحسب، بل بسيرة حياته، إذ عاش حياة العبيد ورفض الانتماء إلى الحضارة التي رأى أنها ستغتاله روحاً وجسداً.
إثر قراءته لريمبو نرى ميللر محاولاً خلط حياته والجحيم الذي عاشه مع حياة ريمبو والويلات التي أرسل نفسه إليها، فميللر يذكر تشرّده في شوارع نيويورك، ومعاناته باحثاً عن عمل، وحالة اللاجدوى التي وصل إليها، وتحوّله إلى شخصية مرفوضة فيها الكثير من الأخطاء والعيوب، إلاّ أنه ما زال محبوبا، كأن الناس يغفرون لأولئك الكتّاب أصحاب الخطايا.
هذا ما وجده هنري ميللر في سيرة ريمبو الذي كان غارقاً في الخطايا على أنواعها، إذ عمل ذات مرّة حمّالاً، وعاش حياته إلى الأقصى سعياً وراء رغباته من غير اعتبار لأحد، إذ كان همّه جمع النقود لتأمين حياة شريفة لنفسه، كي يتفرّغ بعد ذلك لتجربته الشعرية، إلاّ أن جحيمه وسعيــه هذا أودى به في النهـــاية إلى حيث قطعت قدمه، وعاد إثر ذلك إلى فرنسا.
يوضح ريمبو رأيه في الكتابة وفي الشعر، عبر رسالة في جزءين إلى أستاذه في فرنسا بول ديمني، كتبها عام 1871 تحت عنوان «رسائل الرائي – les lettres du voyant»، يطرح فيها ريمبو رأيه في الشعر والحداثة، وفي ما يتوجب على الشاعر أن يكونه. هذه الرسالة يعتبرها النقاد دستور الحداثة الشعرية، يتحدث فيها عن التجارب الشعرية المختلفة لمن سبقه من الشعراء، وينادي بالتأسيس لصوت شعري يتجاوز كل ما سبق. لا يشير ميللر إلى رسالة الرائي بوضوح، بل يعقد مقارنات بين ريمبو وأولئك المعذبين أمثاله مثل دوستويفسكي وفان غوغ ولوتريامون. هنا تكمن المفارقة، فإنتاج ريمبو الأساسي الذي يثير رعب الكاتب والقارئ على حدّ سواء لا يمكن مقارنته بإنتاج ميللر الذي لا يعادل برغم أهميته النسبية ما وصلت إليه عبقرية ريمبو.
لا يمكن إنكار أن محاولة ميللر هذه لا تخلو من السذاجة، فـ»فصل في الجحيم» لريمبو لا يمكن أن يقارن بثلاثية «الصليب الوردي» التي ألفها ميللر، رغم كل محاولات هذا الأخير لكسر المحرّمات في هذه الثلاثية والحياة على الهامش ورفض كل القيم، إلاّ أنها لا ترقى إلى جهود ريمبو في التأسيس لحريته، فهذا الأخير عاش في عدن «المدينة القائمة على فوهة بركان» وليس في باريس التي كان يقيم فيها ميللر الذي يشير إلى الهول الذي يتمتع به ريمبو إذ يقول: «هل أثار فنان كلمات، في السنوات الأخيرة، العالم مثلما فعل هتلر. هل صدمت قصيدة العالم، مثلما القنبلة الذريّة». يبدو أن ريمبو هو الوحيد الذي يمتلك هذا الامتياز الذي لم ينله أحد.
يتناول ميللر في قراءته لريمبو عقدة الأم التي كان مصاباً بها الشاعر الفرنسي، فرغم محاولاته كلّها للتحرر من كل شيء إلاّ أن صلاته مع أمه لم تنقطع، فهي حاضرة دوماً ويذكرها في مراسلاته، كأن محاولات ريمبو للتحرر قد تنجح إلاّ مما هو بيولوجي، فالأم وحضورها بوصفها الرحم التي خرج منها الشاعر تتحوّل إلى هاجس يقلق راحة ريمبو في سعيه نحو الكمال المضادّ.
نهاية ريمبو مأساوية، فبعد رحلاته الطويلة أصيبت قدمه بالتهاب ونُقل إلى مرسيليا حيث بُترت هناك، وعاش حتى موته في منزل شقيقته وأمه. كأن كل محاولات ريمبو للفرار من فرنسا ومن حضورها انهارت أمام العطب الجسدي الذي أصابه، ففي نهاية حياته حاد ريمبو عن كل ما كان يناضل ضدّه. حتى جنازته كانت أكثر من مبتذلة. لم يسر فيها سوى أمّه وشقيقته، بلا جلبة. دفناه وتخلصا من جثمانه بسرعة، كأنه لعنة انفكت عنهما. إلاّ أنه تحوّل بعد ذلك وعلى مرّ التاريخ إلى أيقونة للشعر المعاصر. الأعمال العربية التي تناولت ريمبو كثيرة، أشهرها ترجمة سعدي يوسف لكتاب ميللر «ريمبو وزمن القتلة» لدى «دار التكوين»، كذلك الآثار الشعرية لآرتور ريمبو التي ترجمها وجمعها وعقّب عليها كاظم جهاد، والصادرة عن «دار الجمل» و»آفاق للنشر والتوزيع».