غرفة قتل مشتركة برسم «14» وملكٌ يحصد زَرْع يديه
جورج كعدي
ليس حدثاً واحداً ما جاءتنا به الأيّام الأخيرة، بل هما حدثان اثنان مهمّان ومعبّران، الأول ما كشفه عميل سابق في «سي آي إيه» لصحيفة «واشنطن بوست» عن التعاون الاستخباريّ والعسكريّ التقنيّ بين الولايات المتحدة و«إسرائيل» في عملية اغتيال الشهيد الكبير المناضل والفذّ عماد مغنيّة، والثاني إقدام «داعش» على حرق الطيّار الأردنيّ الشابّ حيّاً، في أحد أفظع المشاهد وحشيّة وبهيميّة منذ حرق جاندارك زمن محاكم التفتيش وأصوليّتها «المسيحيّة» المقيتة والمرعبة.
ما أوحاه الحدث الثاني توّاً لي، ولكثر سمعت آراءهم، أنّ ملك الأردن الذي بدا أول من أمس «مفجوعاً» وخرج على شعبه بدعوة إلى التضامن في الوقت القاسي والصعب، متوعّداً ومهدّداً بردّ «مزلزل»، لم نرَ حتى الساعة من «زلزلته» سوى إعدام إرهابيّين عراقيّين تافهين لا يساويان «قشرة بصلة» بحسب التعبير الشعبيّ! فهل هذا «ردّ» الملك؟ وهل هذا فحسب ما تطوله قدراته المحدودة ويداه المكبّلتان بأكثر من اتفاقيّة ذلّ واستسلام وتطبيع مع العدوّ «الإسرائيليّ» من ناحية، ومع الغرب الأميركيّ والأوروبيّ من ناحية ثانية، ومع ممالك القهر والرمل والفحشاء والتآمر والزحف عند نعل الأميركيّ من ناحية ثالثة. لذا لا أتوقّع من ملك مكبّل، عاجز عن الردّ الفعليّ، أن يأمر سلاح طيرانه مثلاً كَوْن الطيّار الضحيّة ينتمي إليه بإنجاز عمليّة نوعيّة كبرى ضدّ عدّة مواقع لـ«داعش» تكون ردّاً مزلزلاً بالفعل لا بالخطاب الشعبويّ الديماغوجيّ الذي يهدف إلى تهدئة الغضب في أوساط القبائل والجيش والشارع الأردنيّ المعبّأ بمشاعر الغضب.
الانطباع الفوريّ الذي يتملّكنا إزاء حدث كهذا أنّ ملك الأردن المتورّط في الإرهاب داخل سورية، والشريك في المؤامرة الأميركيّة ـ «الإسرائيليّة» ـ السعوديّة ـ القطريّة ـ التركيّة ـ الفرنسيّة، بدأ يحصد الزرع الفاسد الذي بذره في أرض الشام وغذّاه ونمّاه ووجّهه مع باقي الموجّهين واحتضنه ورعاه، وكان سبقه هولاند إلى مثل هذا الحصاد للزرع الإرهابيّ الإجراميّ في شامنا الحبيبة، شام الحضارة الأعرق وعبق الياسمين وهناءة العيش. ومثلما اهتزّت فرنسا بالأمس القريب اهتزّ الأردن بالأمس الأقرب، وبانت عسى ولعلّ للملك وحاشية سلطته واستخباراته أخطار اللعب بالنار وغضّ الطرف عن الإرهاب وتشريع الأرض الأردنيّة لإعداد الإرهابيّين وتدريبهم وتسليحهم وتسهيل عبورهم إلى الأراضي السوريّة ليساهموا في أعمال الإرهاب قتلاً وتدميراً ونشراً للموت والخراب. وليس ما حدث سوى أوّل الغيث وأوّل الحصاد للأردن ولسائر الأطراف المتورّطة في المؤامرة ضدّ سورية وإشعال النار الداخليّة فيها.
أمّا في الحدث الآخر، أي التعاون الأميركيّ ـ «الإسرائيليّ» المشترك لقتل الشهيد عماد مغنيّة في دمشق، فلنا العبرة ولنا السؤال. العبرة هي أنّ الولايات المتحدة و«إسرائيل»، وللمرّة الألف نردّد، هما وجهان لعملة واحدة، وتلبثان كذلك دائماً وأبداً، ولا غرابة في الأمر بالنسبة إلينا نحن مدركي حقيقة أميركا وحقيقة أدوارها المجرمة والتآمريّة في العالم، بل الغرابة كلّها هي في الذين ما انفكّوا يوماً عن «الفصل» بينها وبين «إسرائيل» بحجج شتىّ من النوع المتهافت والضعيف، خاصّة جماعة «14 الشهر» عندنا الذين يصرّون على هذا «الفصل» الواهن ويدأبون على الترويج له ضدّ الخصوم، على قاعدة «عنزة ولو طارت» وأن كل ما هو أميركيّ هو «الصلاح» بعينه و«الحقيقة» بذاتها، فيمضون مدافعين عن «القيم» الأميركيّة و«الديمقراطيّة» و«الحرّية» و«الليبراليّة» وسواها من الشعارات الفارغة المضلِّلة، بينما الواقع والحقيقة في مكان آخر نقيض ومن أبرز تجلّياته الشراكة الثابتة والمستمرّة بين دوائر الحكم والقرار والنفوذ في الولايات المتحدة وعصابات الكيان الصهيونيّ.
بعد الإعلان الصريح والواضح عن عملية اغتيال الشهيد عماد مغنيّة بالتكافل والتضامن بين أميركا و«إسرائيل»، هل تستمرّ مجموعة «14 الشهر» في الدفاع عن السياسة الأميركيّة المعادية لأمّتنا وقضايانا المحقّة والشريكة لـ«إسرائيل» والمنحازة تمام الانحياز إليها، تحت ذرائع «الفصل» و«التمييز» بين البلدين والسياستين؟! أم تتبنّى الحقيقة وترتدّ عن سوء التقدير وتقتنع بأنّ الولايات المتحدة لا تريد خيراً لنا ولا تقرّ بحقوقنا ولا تأبه لأيّ من مصالحنا؟!
علّمتنا تجارب الماضي أن لا أمل يُرجى من هؤلاء الذين أسلسوا القياد لأميركا منذ زمن بعيد ومنحوها الثقة والقرار وجعلوا أنفسهم في خدمة مشروعها المدمّر وربطوا أنفسهم بغرف عمليّاتها في لبنان والمنطقة، ولم تعد الحقيقة والمنطق مفيدين في مخاطبتهم وفتح حوار وطنيّ وقوميّ صادق معهم. كان الله في عون الشرفاء المخلصين.