} د. إشراقة مصطفى حامد*
منذ كتبت أول روائيّة سودانيّة ملكة الدار محمد روايتها (الفراغ العريض) في النصف الأول من الخمسينيات وطُبعت في أول السبعينات بعد رحيلها، ولكن ظلت الرواية إلهاماً للكاتبات السودانيات جيلاً بعد جيل ومحفزة الكاتبات السودانيات ليملأن هذا الفراغ بما تختلج به نفوسهن من أحلام وأشواق للعدالة الاجتماعية والمحبة والسلام.
أطلعت بشغف على أغلب الروايات للكاتبات السودانيات من مختلف الأجيال وكل رواية تعصف بالأسئلة التي أحاول في هذه السلسلة الإجابة عليها، وعن كيف تلمّست هذه الروايات بين الواقع والواقع المتخيل الذي انعكست فيه بالضرورة رؤية الكاتبة ومقاهيها في العمل الإبداعي.
أسئلة تحتاج الى إبحار في واقع المرأة السودانية ودورها في الحراك الوطني والديمقراطي وإسهاماتها في المجتمع ونضالاتها المستميتة لأجل الحرية والعدالة والسلام المجتمعي، وذلك منذ بواكير تكوين الحركة النسائية في السودان والخبرات والتجارب التي اكتسبتها النساء السودانيات عبر نضالهن الذي يماثل النيل طولاً وراسخاً مثل أشجار التبلدي (الباوباب) وشاهقاً مثل النخيل قبل أن تمتد اليه أيادٍ تهدف حرق الهوية ما يعني الانسان، هي نفسها التي كبلت النساء بسلاسل من القوانين الجائرة وناضلت النساء بكل آليات العمل السياسي التي اكتسبتها من خبراتها في منافحة القوانين الجائرة وصلف الأنظمة الديكتاتورية، وقد شهد لها العالم بدورها العظيم في ثورة ديسمبر 2019 التي أطاحت بالبشير.
الكتابة إحدى وسائل النضال ودورها في مخاطبة الوجدان وإشعال جذوة الوعي بالمتخيل من الواقع وتناول قضايا مجتمعية تشغل الرأي العام او مسكوت عنها. من الصعب فصل قضايا المرأة عن قضايا الرجل في السودان. وهذا لا ينفي خصوصيات قضاياها وآليات تناولها.
هذه الآليات تطرح سؤال الأدب النسوي وإشكاليات المصطلح والمفاهيم والتي لا تنفصل عن النظرة للمرأة والواقع المكبل لها، ولو بسلاسل من ذهب. تبدو لي هذه الإشكاليات مختلقة لأن الحديث عن النسوية يحتاج الى مراجعة كل مدارسها وتطورها ونقدها، وبالتالي يمكن أن تختلف التفاصيل التي تخصّ السياق الثقافي والسياسي المحدّد، فالنسوية مدارس عديدة، فهناك اختلافات وإن كانت التسمية واحدة. نضالات المرأة السودانية كانت وظلت لأجل المساواة والعدالة. وهذا أمر لا يخص النساء وحدهن فلا عدالة إن لم تشمل الجميع وأن لا يكون النوع سبباً في التمييز مثله مثل الدين، التوجّه السياسي، اللون، الانتماء الاثني الخ من الاختلافات التي قد تكون سبباً للتمييز.
إذن النسوية أمر يخصّ الجميع وليس شأناً يخص المرأة وحدها. النسوية التي انطلق منها في تناولي لهذه السلسلة تنتمي الى المدرسة النسوية (السوداء) و(النسوية البيئية ولن أشرح تفصيلاً في محاولة لتحفيز القراء للبحث عن هذه المدارس قبل الحكم على رفض (النسوية) إذ هدفها المساواة في الحقوق والواجبات المنصوص عليها بقانون حقوق المواطنة. من المؤسف أن النسوية يتم التعامل معها كوصمة رغم أنها حركة من حركات الوعي العالمي لأجل واقع أفضل للنساء وللرجال. وهو ما ذهبت إليه الروائيّة النيجريّة تشيماماندا نغوزي أديتشي بقولتها الآسرة (علينا جميعاً أن نصبح نسويّين).
أتناول في هذه السلسلة عدداً من الروايات السودانية لكاتبات سودانيات من أجيال مختلفة. أضيء في هذا الإطار رواية (آماليا) للكاتبة السودانية مناهل فتحي والتي حازت على جائزة الشارقة في دورتها الحادية والعشرين. لا أنحو الى تفكيك وقراءة الرواية الا في إطار تناولها قضايا نسويّة ليس لأنها تناولت قضايا تخصّ النساء، ولكن لأن هذه القضايا تلامس الرجل وتنعكس على شكل العلاقة بينه وبين المرأة طالما الهدف من النسوية المساواة الاجتماعية وأن لا يكون النوع سبباً للتمييز الذي يقع على النساء من دون الرجال.
إضاءات الرواية طقوساً ثقافية ترتبط بالمرأة السودانيّة خاصة في منطقة الشمال والوسط ممثلة في عملية الختان الذي بدأت به الشخصية المحورية (غفران كمال) وحفلات (الزار) وهو طقس راقص تمارسه بعض النساء للتخلص من (جن) يستلبسهن ويطالبن بكل ما يشتهين من خاتم ذهب او عطر الصندل و(الشلوخ) كعادة قديمة بتفصيد الوجه الخ. غفران التي بدأت من البداية شابة واعية وصلبة ومدافعة شرسة لأجل الحقوق وخاصة حقوق المرأة والعلاقة التي تُوّجت بزواجها من الطبيب أخصائي التجميل خالد الذي عاد من روسيا تاركاً وراءه ناراً مازالت تشتعل في قلبه عبر علاقته مع الروسية آماليا التي تنسلّ بينه وبين زوجته التي تعاني من تأثيرات الختان الذي ترك آثاره النفسية والجسدية عليها وحرمها من المتعة الجنسيّة مع الرجل الذي أحبته لذا لا تنفك ذاكرته المقيدة بحبيبته الروسية. الرواية أخذت منحى آخر عبر تناول قضية بيع الأعضاء البشرية والإشارة الى واقع الانحدار الذي وصل اليه السودان في الرواية. انخرط أخصائي التجميل خالد في هذه الجريمة وكان يعيش صراعاً مريراً انتهى بمؤشرات انتحاره في الفضاء العام وهي نهاية صادمة ولا تتسق مع تسلسل الرواية وشخصية خالد المثقف والواعي. غفران التي كانت شرسة في مواقفها انتهت الى حالة من الانطفاء والخنوع والدموع.
حالة الأخصائي خالد في صراعه بين حبيبته الروسية والتي تمثل عنده الجسد وقدرتها على إشباعه ومشاعره نحو زوجته التي تشكل عنده الروح، فهل ظلم نفسه بظلمه للاثنين عبر هذه العلاقة الإنسانية المربكة؟ أليس في الواقع ان وصايا الجدات والنساء الآتي يكبرن العروس وعايشن تجربة زواج الوصية المهمة فيه ان تكوني (راسية) او بمعنى آخر (يتمنّعن وهن الراغبات)؟
أحد الإشكاليّات التي تواجه العديد من الكاتبات تُكمن في أن تناول الكاتبة حياة المرأة تعني ضمنياً بأنها سيرة ذاتيّة وهذه أحد المحن التي أشار لها الكتاب للكاتب تشارلز ر.لارسون في كتابه (محنة الكاتب الأفريقي).
Ordeal of African Writer
. (نحن نكتب ونترك للقارئ أن يتناول ما كتبناه كما يشاء، آماليا ليست سيرة ذاتية، ولكني من ناحية أفرح جداً لأن هذا الطرح يوحي بأنني تمكنت من تقمّص الشخوص كما ينبغي، فرحت عندما سألني البعض إذا ما كنت درست في روسيا، أو إذا كنت أنتمي إلى شندي أو الهلالية، الإجابة أننا لم أر روسيا من قبل، ولم أزر شندي ولا الهلالية. ومن ناحية أخرى الحكم على الرواية بأنها سيرة ذاتية هو حكم على الكاتب بأنه محدود الخيال لا يرى أبعد من تجربته الذاتية، ولا يستطيع أن يصف أبعد من أماكنه المألوفة). وتضيف الروائيّة والشاعرة مناهل في حوار لي معها بأنها تؤمن بأن الأدب مرآة الإنسان رجلاً كان او امرأة. وتضيف:
(الكتابة فعل موازٍ للحياة بعنصريها المذكر والمؤنث، لا أحب تصنيف الأدب على هذا النحو ولكن يحلو لي أن أقول إن قضايا المرأة ستظل تحتل مكانة كبيرة في الأدب الذي أنتجه شعراً ونثراً شئت ذلك أم أبيت..
آماليا ومنذ اسمها، ناقشت صراع الرجل مع نفسه، تشظيه بين أنثى بلاده والأجنبية، تخبّطه بين المتناقضات، تورطه في الجرائم، وغيرها من القضايا، آماليا أبطالها رجل وامرأة كما هي الحياة.)
ويظل سؤالي قائماً:
هل المرأة تتمتع بالحقوق المدنية ذاتها التي يتمتع بها الرجل؟ هل تنعم بالمساواة الاجتماعية؟ كيف اذن للأدب ان يتعامل معهما على أنهما على مرتبة واحدة من الحقوق التي تجعلهما يتمتعان بالحياة الكريمة؟ كيف نجعل صورة الواقع إنسانيّة وهي في الأصل غير ذلك؟ أسئلة تحاول هذه الدراسة أن تجيب عليها في إطار روايات أخرى لكاتبات سودانيات.
د. مناهل فتحي حسن سالم
شاعرة وروائية سودانية من مواليد مدينة عطبرة.
بدأت الكتابة منذ عمر السابعة فكانت البداية مع الشعر ثم ارتقت سلم الرواية بروايتها الأولى (آماليا) ثم (شيكونغونيا) والقصة القصيرة بمجموعة (نهرٌ يختنق).
صاحبة خمس قصائد ضمن (أجمل عشرين قصيدة نسائيّة في السودان)، الكتاب الصادر عن المركز الثقافي العالمي في الخرطوم 2003.
العديد من المشاركات بالمهرجانات داخل وخارج السودان لها.
.ولها مجموعة شعرية ديوانا شعر (أوجاع النساء) و (كأنه هو).
حائزة على المركز الخامس في مسابقة أمير الشعراء في موسمها السادس – أبو ظبي 2015 وتأهّلت للمشاركة في مهرجان كتارا لشاعر الرسول (ص) لمرحلة أجمل ثلاثين قصيدة في مدحه.
حازت روايتها آماليا على المركز الثالث في جائزة الشارقة للإبداع العربي 2018.
نشرت قصائدها في الصحف السودانية وبعض الصحف والمجلات الإماراتية.