أنا أقتل إذن أنا موجود

محمد محمود مرتضى

نشر تنظيم «داعش» فيديو مصوّراً حول أعدام الطيار الاردني معاذ الكساسبة، لكن الإعدام لم يكن بحدّ ذاته هو الخبر، فتاريخ التنظيم حافل بعمليات القتل، إلا أن «المهووس» بصناعة البروباغندا والظهور الإعلامي إرتأى هذه المرة ان يبعث برسالته بطريقة نارية، فنفذ حكم الإعدام بحق الكساسبة حرقاً.

تأتي عملية الإعدام هذه بعد سلسلة من التهديدات أطلقها التنظيم في محاولة لإطلاق سراح ساجدة الريشاوي المسجونة في الأردن بتهم تتعلق بالإرهاب والمحكومة بالإعدام. وبعد اعدام رهينتين يابانييتين حاول «داعش» إطلاق الريشاوي عبر المقايضة بأحدهما قبل إعدامه منذ يومين. ورغم انّ السلطات الأردنية أعلنت استعدادها للتفاوض لمبادلة الريشاوي مع طيارها شرط تقديم «داعش» الأدلة بأنّ الكساسبة لا يزال حياً، إلا أنّ التنظيم لاذ بالصمت حول هذه القضية ليظهر بعدها عملية إعدام الطيار.

في الواقع انّ رفض «داعش» لتقديم معلومات عن سلامة الطيار ومن ثم الإعلان عن إعدامه يقوّي من فرضية انّ «داعش» لا يرغب في إطلاق سراحه، وربما أعدمه بعد أيام من اعتقاله بمعزل عن المعلومات التي ذكرتها السلطات الأردنية من انها تملك معلومات استخبارية عن ان «داعش» كان قد أعدم الكساسبة منذ حوالي الشهر، أيّ في 3-1-2015.

في الحقيقة عندما قلنا إنّ التنظيم لا يرغب في إطلاق سراحه فإنّ ذلك ينطلق من ملاحظات يمكن تسجيلها على مجمل قضية الكساسبة حتى تاريخ الإعلان عن إعدامه ونشر الفيديو حولها:

1 ـ لماذا يقوم «داعش» بإعدام الطيار رغم انّ بإمكانه مبادلته. وهذا ما يمكن أن يرفع من أسهمه داخل الأردن نفسه، كما انه سوف يظهر بمظهر المهتم بالعناصر التي تعمل معه في حال سقطت بفخ الاعتقال.

2 ـ رغم الصور الواضحة لوجه الكساسبة قبل عملية الإعدام، إلا أنّ هذا الوضوح سرعان ما اختفى بحيث يصعب التقاط صورة واضحة لوجه الطيار الأردني اثناء مشهد اشتعال النيران. وما لم يقم «داعش» بتسليم جثة الكساسبة فانني أعتقد انه سيصعب التأكد بشكل قطعي من عملية الاعدام هذه.

3 ـ اذا افترضنا ان «داعش» بالفعل قد أعدم الطيار الآن فلماذا رفض الدخول في التفاوض للمبادلة بالريشاوي، وفضل ربط التفاوض على الريشاوي بالرهينة اليابانية.

ربما هذا اللغط حول رفض «داعش» للتفاوض او إعطاء معلومات عن سلامة الطيار قد قوى من نظرية ان «داعش» قد اعدم الكساسبة في وقت سابق، الا انّ هذه النظرية تبقى مدخولة بجدوى قيام «داعش» بقتل الطيار بعد أيام من اعتقاله رغم حاجته له للتفاوض حول ملفات عدة.

انّ هذه الملاحظات تعيد فتح باب الحديث عن الملابسات التي رافقت عملية أسر الكساسبة، بين تأكيد السلطات الاردنية انّ الطائرة أسقطت بعد إطلاق النار عليها ونفي الولايات المتحدة تعرّض الطائرة لإطلاق النار. ما يعيدنا الى نقطة الصفر في محاولة ايجاد الفرضية الأمثل التي تجيب عن هذه الاشكاليات.

من هنا يمكن اعادة إحياء فرضية لم تأخذ حيّزاً واسعاً في الإعلام والتي تتحدث عن موقف ملتبس حول الطيار معاذ الكساسبة.

رغم أنّ هذه الفرضية تحتاج الى أدلة، إلا أنها تبدو أكثر انسجاماً من ناحية منطقية مع هذا الإصرار من «داعش» على رفض التفاوض عليه مقابل الريشاوي او غيرها، ومع الإصرار على عدم إعطاء السلطات الأردنية تطمينات حول بقائه على قيد الحياة.

ومن هنا فإنّ هذه الفرضية لن يقطعها ويبددها إلا قيام «داعش» بتسليم جثة الطيار، وفي حال الرفض فإنّ أسهم هذه الفرضية سوف تزداد قوة.

هذا في ما يتعلق بالحيثيات التي أحاطت بعملية الإعلان عن «الإعدام» والمتعلقة بالجانب الأردني. إلا أنّ هذا الإعلان وبالطريقة التي تمت لا يمكن فصله عن الانتكاسات المتتالية التي تصيب التنظيم سواء في العراق او سورية.

ففي الوقت الذي يستعدّ فيه الجيش العراقي والقوى المساندة له من الحشد الشعبي والعشائر لتحرير باقي المناطق في محافظة صلاح الدين، شهد «داعش» في سورية ايضاً انتكاسات في عين العرب والرقة ودير الزور، فضلاً عن خلافات داخلية بدأت تظهر بشكل عنفي بين عدة مجموعات.

إعلامياً تراجع «داعش» عن تصدّر المشهد الذي تسيّده لأشهر عدة بعد التطورات المتلاحقة في المنطقة في أعقاب عملية اغتيال كوادر من حزب الله في القنيطرة والردّ القوي من حزب الله، ما أعاد الصراع في المنطقة الى وجهته الحقيقية ضدّ العدو الاسرائيلي، وكشف القناع عن هذه الجماعات التكفيرية وارتباطاتها مع العدو الاسرائيلي لا سيما «جبهة النصرة» التابعة لتنظيم «القاعدة».

أمام هذه الانتكاسات العسكرية الكبيرة من جهة وتراجع التنظيم عن الواجهة الاعلامية لحساب الصراع مع «إسرائيل» وتصدّر محور المقاومة للمشهد كمحور متماسك أعاد نوعاً من التوازن للاصطفافات الشعبية في الشارع العربي لمصلحة هذا المحور وصراعه مع «إسرائيل»، في وقت تخوض التنظيمات التكفيرية صراعات داخلية لم تنتج الا مزيداً من القتل وسفك الدم وتشويه الإسلام وتدمير المجمتعات.

أمام هذا كان من الواضح أنّ «داعش» سوف يلجأ الى عمل إجرامي يأخذ فيه طابع الاستعراض بعد أن فشل بالقيام بعمل عسكري يمكّنه من إعادة الاعتبار للتنظيم ورفع معنويات عناصره، لا سيما أنّ مشهداً يسود فيه محور المقاومة من جديد لن يفيد «داعش» في عملية الاستقطاب.

يعيش «داعش» على القتل والدم وعلى نشر الفوضى والتخلف، لذلك لم يكن مصادفة أن يتمّ في يوم واحد: نشر إعدام الطيار الأردني حرقاً، وإحراق التنظيم لمكتبة الموصل بكلّ ما فيها من علم وثقافة.

لقد كانت رسالة «داعش» واضحة: أنا اقتل وأحرق إذن أنا موجود.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى