الديموقراطيّة الأميركيّة إلى مزيد من التصدّع
} د. وفيق إبراهيم
يتعرّض النموذج الأميركي للديموقراطية لحالة من الاهتزاز العنيف تسيء الى صورته العالمية كنموذج قابل للتقليد وتحشره للمرة الأولى منذ 75 عاماً في خانة اعتراض أميركي داخلي بدأ يشكك به.
واحد من أهم مشاهد هذه الديموقراطية الأميركية هو نظام الانتخابات الرئاسية الذي يرعى كل أربع سنوات انتخابات بين مرشحين اثنين لا تسمح طبيعة المنافسات الأميركية الكبرى الا بهما فقط على الرغم من أن هذا القانون يسمح بالترشّح لمن يريد.
هذا المشهد لا يكتفي بجذب الداخل الأميركي، لكنه يحظى باهتمام العالم بأسره من خلال وسائل الإعلام، فيتصوّر انه في عالم أميركي مثالي بديموقراطية متفوقة على كل النماذج العالمية الأخرى.
اما الأدلة على قدرة هذا النظام الانتخابي وبراعته، فموجودة في مهارته باستيعاب أي مستجدات طارئة كوفاة مرشح أو حدوث حرب مفاجئة، فهناك دولة أميركية عظمى في اقتصادها المسيطر على العالم وسياساتها المتمكنة داخلياً والمسيطرة خارجياً، الى جانب قوات جيش وأمن ومخابرات وسفارات، لا تسمح بأن تكون هذه الدولة ذات النظام الرئاسي بلا رئيس ولو ليوم واحد، ولا تبيح أيضاً أي اعتراض على نتائج الانتخابات.
لكن أميركا تفتقر حالياً إلى هذا المشهد التاريخي. فبعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي أسفرت عن فوز المرشح جو بايدن وفشل الرئيس الحالي ترامب دخل الأميركيون في حالة شديدة من الاضطراب بدأت برفض ترامب نتائج الانتخابات، وتشجيعه مناصريه على احتلال الشوارع والمدن والطرق بذريعة وجود تزوير أدّى الى نجاح خصمه.
وهكذا ومنذ شهر تقريباً تجتاح جماعات مؤيدة لترامب مناطق أميركية وتعتدي وتحطّم مقابل مجموعات مؤيدة لمنافسه بايدن تعلن عن ولائها له.
هذا المشهد الذي لم يتوقف حتى الآن قد لا يستطيع وقف المجمع الانتخابي الأميركي عن إعلان فوز بايدن بعد أيام عدة، لكنه لن يستطيع تهدئة الشارع.
فترامب يحرّض على أسس كان من المعتقد ان النظام الاقتصادي الأميركي استوعبها فألغاها أو عطل على الأقل مكامن قوتها.
فأميركا تجاوزت في القرن التاسع عشر حروباً جهوية بين شمال كان يريد دولة أميركية وجنوب كان يعمل للاستئثار بدولة خاصة به. وقضت على السكان الأصليين من الأميركيين في مذابح تقشعر لها الأبدان وهم من يسمّيهم الغرب بالهنود الحمر ولم تحتفظ إلا بكمية قليلة للزوم العمالة.
كما استوردت ملايين الأفارقة وربطتهم بعقود يعملون بموجبها كعبيد عند مالكيهم، كما وفتحت باب الهجرة أمام أبناء أوروبا وآسيا والشرق الاوسط والصين ومختلف بلدان العالم لتلبية المشروع الاقتصادي الأميركي الذي أسس البناءات الموازية لأعمق اقتصاد معروف في تاريخه.
ولاستكمال هذا الدور اجتاحت أميركا الأرض منذ أربعينات القرن الماضي فاستولت على الثروات وموارد الطاقة والاستهلاك ونشرت القواعد العسكرية في مئات البلدان كتعبير عن سيطرتها الكونيّة.
هذا التطور استجلب للمشروع الاقتصادي الأميركي أكبر كتلة من المال معروفة على مدى التاريخ، فنشأت أقوى طبقة من البورجوازيات هي التي أسست الصناعة والتجارة وسمحت ببناء أقوى أجهزة عسكرية وأمنية موازية.
هذا ما أدّى الى حاجة البورجوازية الأميركية الضخمة الى طبقة وسطى وفقيرة تدير الأعمال والمؤسسات وتعمل بها فكانت الطبقة الوسطى الأميركية الأكبر من نوعها والتي تعدّى معدلها الخمسين بالمئة من السكان كتعبير عن الصعود الأميركي اللافت.
لقد ضمّت هذه الطبقة البيض والملونين لحاجتهما الى الطرفين معاً ونشرت ثقافة إعلام وأفلام تقدم النموذج الأميركي على انه نموذج الديموقراطية الحقيقية والأول عالمياً والذي لا مثيل له.
إلا أن جائحة كورونا اصابت الازدهار الأميركي في مركزيته بدليل أن تفاعلاته الاقتصادية تراجعت خمسين في المئة على دفعات تدريجية، وقد تذهب نحو انهيارات أكبر، أما الدليل فهو إطلاق مؤسسات إحصاء لمعلومات تؤكد فيها ان مليوناً ونصف المليون أميركي أصبحوا عاطلين عن العمل.
هؤلاء هم من الطبقة الوسطى، فإذا كان هؤلاء قد بدأوا بالانهيار فما هو مصير الفئات الأفقر وهم بمعظمهم من الطبقات البيضاء الأدنى والسود والمسلمين وذوي الأصول المكسيكية واللاتينية والصينية.
كورونا اذاً تسبب بتراجع الاقتصاد الأميركي وانهيار التفاعلات الأميركية مع العالم.
إن الهام هنا هو تزامن هذه الاعتبارات الاقتصادية مع بدء الرئيس ترامب بتحشيد مؤيديه ضد منافسه الرئاسي الناجح بايدن مع الذين يناصرونه.
بذلك يعيد ترامب المشهد الأميركي الى ما كان عليه قبل الأربعينيات، فانقساماته هي بين أغنياء وطبقات وسطى وفقراء وبين ذوي الأصول الأفريقية والبيض وبين الانجيليين وحلفائهم في اللوبي اليهودي ضد المسلمين وبين البيض من ذوي الأصول الأوروبية واللاتينيين او المتحدرين من الصين وجنوب شرق آسيا.
هناك إعادة فرز للمجتمع الأميركي وكأنه لا يزال في مطلع القرن العشرين ولم يمر بمرحلة أقوى اقتصاد في العالم التي دامت من الخمسينيات وحتى 2020 أي قبل اجتياح كورونا لأميركا وانتشار الجنون الترامبي.
فهل تسقط الديموقراطية الأميركية بعد هذا الاهتزاز الكبير؟
لقد انكشف أن هذه الديموقراطية هي خاصة بالطبقات العليا والوسطى من البيض ولا علاقة لها بالطبقات الفقيرة والوسطى الفعلية وهي لا تحتوي على الأقليّات التاريخيّة إلا بمقدار حاجة الاقتصاد الأميركيّ اليهم.
أما إذا انتفت هذه الحاجة فمصيرهم واضح في بلاغات ترامب الذي يستهدف في خطاباته كل أميركي لا ينتمي إلى البيض من السلالة الأوروبيّة.
هناك من يعتقد أن مؤسسات الدولة الأميركية في الإدارة والجيش والامن القومي لا تزال قادرة على ضبط الاستقرار، خصوصاً بعد البدء بتطعيم الأميركيين بلقاح «فايزر» الجديد.
لكن الذي أصيب بخلل بسمعته الخارجية وأساليبه الداخلية هي الديموقراطية الأميركية التي يتبين أنها تلبي حاجة المشروع الاقتصادي الأميركي لتجميع أبناء القوميّات المتعدّدة، لكنها مستعدّة لنسفهم عند انتفاء حاجة البورجوازية الأميركية الكبرى لأبناء العصبيات الأخرى والطبقات الدنيا.