المُقامرةُ بالمصير العربيّ كشرطٍ لضمور العربيَّة
} د.أحمد علي شحوري
«العربيَّة لغة القرآن الكريم ولغة الصَّلاة»، «العربيَّة هُويّتنا القوميَّة»، «العربيَّة ليست مجرَّد لغةٍ، بل وعاء التّراث والأصالة»، «العربيَّة لغة أهل الجنَّة»… إنَّها عباراتٌ احتفائيَّةٌ بلغة «الضّاد» لا تفتأ تنفجر كتمجيدٍ في فضاء مسامعنا كلَّما شرعنا نجسّ نبض قلبها في ميدان التَّداول اللّسانيّ العالميّ، بل إنّها عباراتٌ نكاد نُرصّع بها صدر لغتنا الأمّ كتعويذةٍ لازمةٍ لابتكار قامةٍ لحضورها في وجه سراب النّسيان كلَّما عمدنا إلى الاحتفاء بها في يومها العالميّ الأثير في الثّامن عشر من شهر كانون الثّاني من كلّ عامٍ.
ولئن كانت اللُّغة – أيّ لغةٍ – تُعين الإنسانَ، من ضمن أبرز وظائفها، في إعادة ترميز العالم وتسمية أشيائه ليتمكَّن من نقلها من مستوى الوجود العينيّ البدئيّ غير المُفكَّر به إلى مستوى الوجود البديل: الوجود المنطقيّ المُرمَّز والمفكَّر به، فإنَّ لغة «الضّاد»، اليوم، تكاد لا تقوى – في ميدان الاستعمال الحضاريّ والتّقنيّ والثّقافيّ – على مجاراة نظيراتها من لغات الأمم الَّتي تتصدَّر قائمة الدّول المتقدّمة والمتطوّرة عالميًّا، ولا سيّما في ظلّ سطوة العولمة وما تُحاول فرضه من هيمنة الدّولة الواحدة!
وأنّى لها أَنْ تُجاري لغاتِ الأمم المتقدّمة، ونحن نرى الأكاديميَّ العربيَّ يتخلَّف عن أن يصحبها معه إلى قاعات التَّدريس، فيتركها خارجًا كلسانٍ كليلٍ تكاد رمال البادية تُجفّفه؟! وأنّى لها أَنْ «تُمغنط» بطاقة الجَذْب العلميّ، ونحن نرى المهندسَ الميكانيكيَّ العربيَّ يفرُّ منها حين يدخل إلى مصنعه الحديث (الَّذي صنَّعه الآخر الغربيّ!!)، فيركنها خارجًا كبضاعةٍ تكاد لا تُفيده في تشغيل تقنيّاته وتسمية آلاته؟! ثُمَّ أنّى لها أَنْ ترتدي معطف الطّبّ الحديث النّاصع البياض، ونحن نرى الطَّبيبَ العربيَّ يقطع عنها أمصال المرونة العصريَّة ويحشرها في غرفة الإنعاش والنّسيان حين يدخل إلى غرفة العمليّات الحديثة ضابطًا إيقاع عملها بلسانه البديل: الإنجليزيّ أو الفرنسيّ؟! بل أنّى لها أَنْ تُحلّق فوق أكواخ فقراء أوطاننا، ونحن نرى قبطانَ الطّائرة العربيَّ يُودّعها تاركًا إيّاها على رصيف الانتظار كما يترك ذويه في صالة الوداع والاستقبال؟! لَكَأنَّها لا تصلح لغير وداعه العاطفيّ وتحرير صرخةٍ مكتومةٍ في صدر أمّ حنونٍ، أو التَّحليق بتنهيدةٍ محبوسةٍ في قلب حبيبةٍ خانتها جسور المسافات، حتّى إذا جلس خلف قمرة القيادة كاد يبتر لسانه الأصيل مُستعيضًا عنه بآخر أجنبيّ يُمكّنه من الإقلاع والطّيران فوق سحابٍ غير منظورٍ!!…
وَلَربَّما يُسارع بعضُنا إلى لَوْم الأكاديميّ والمُهندس الميكانيكيّ والطَّبيب وقبطان الطّائرة مُتَّهِمًا إيّاهم بقلَّة الوفاء لهُويَّتهم اللُّغويَّة وبالتَّقصير نحوها من منطلقٍ قوميّ وأخلاقيّ، إلّا أنَّ دراسة سياق تطوّر العربيَّة وتحوّلاتها تدفعنا إلى القول: إنَّ التَّعاطيَ الاحتفائيَّ مَعَ لغة «الضّاد» من منطلق الواجب القوميّ والأخلاقيّ أو حتّى الدّينيّ غير كافٍ وحده للحفاظ على مكانتها أو استرجاع ريادتها السّالفة، أو للتَّعويض عن قصورها في الميدان الحضاريّ والثَّقافيّ والتّداول اللُّغويّ العالميّ؛ بل لا بديل من التَّعاطي معها من موقع «الحاجة إليها» و»الضَّرورة الحضاريَّة والثَّقافيَّة» في سياق الاستعمال الحياتيّ اليوميّ. فكيف نلوم هؤلاء والحال أنَّ العربيَّة تكاد لا تُجاري سرعة الثّورة الرَّقميَّة والتّكنولوجيَّة والصّناعيَّة عالميًّا؟! بل توشك نتيجة ذلك أَنْ تكتفي بألّا تُسمّيَ إلّا القليلَ من الأشياء والمسمّيات سواءٌ في المناهج التَّعليميَّة أم في المصنع الحديث، أم في المستشفى، أم في غرفة قيادة الطّائرة، أم في مجال التَّطبيقات الرّقميّة؟!
وفي هذا السّياق أيضًا، لا يجوز أيضًا أَنْ نلومَنَّ مجامعَ اللُّغة العربيَّة والمختصّين في مجال المُعجميَّة العربيَّة، ونُحمّلهم المسؤوليَّة كلَّها، أو أن نتّهمهم بالتَّقصير في توليد المصطلحات العربيَّة البديلة من المصطلحات الأجنبيَّة لتسمية معطيات العصر الحضاريَّة الوافدة إلينا من أربع جهات الأرض؛ فمهما اجتهد هؤلاء وضاعفوا جهودهم مُستثمرين ما تُوفّره العربيَّةُ لهم من طواعيةٍ فريدةٍ في توليد الألفاظ الجديدة من طريق اللّجوء إلى آليّات «النَّقل المجازيّ» أو «الاشتقاق» أو «النَّحت» أو «التَّعريب»، فإنَّ سرعة تدفُّق منتجات الثَّورة الرَّقميَّة والتّقنيَّة الَّتي تضخّها إلينا دول العالم الحديث كبيرةٌ جدًّا جدًّا؛ ولا يُخفى أنَّ تصديرها إلينا يتزامن مع تصدير كمّ هائلٍ جدًّا من المصطلحات الوليدة الَّتي تغزو لغتَنا يوميًّا؛ إذ يتدفَّق إلينا في كلّ ساعةٍ ما يُقارب الخمسين مصطلحًا تقريبًا وفق بعض الدّراسات، ومن ذلك على سبيل المثال المصطلحات الآتية إلينا من مجال الثَّورة الرَّقميَّة: الفايسبوك، السّلفي، الأنستغرام، التّيك توك، الماسنجر، التّيمز…
ولذلك لا تكفي، لسدّ تلك الفجوة الفادحة، طواعيَّةُ لغة الضّاد وغنى آليّاتها التَّوليديَّة، كما لا تكفي مضاعفة جهود اللُّغويّين والمعجميّين طالما أنَّ دولنا وشعوبنا العربيَّة – على تفاوتٍ بينها – ما زالت تتموضع في موقع المُستهلِك أو المتلقّي الَّذي يحيا خارج الهمّ الإبداعيّ، وخارج المنظومة العالميَّة الَّتي يتنافس أقطابُها في الإنتاج الحضاريّ والرّقميّ والتّقنيّ والمعرفيّ، وطالما أنَّها رضيت قانعةً بموقع المتأثّر لا المُؤثّر مُستسلمةً لهجعةٍ طويلةٍ تُحرِق الأوقات كبخورٍ حول لحود السّاكنين! لأنَّ الرّهان في تجاوز العربيّة محنتَها وأزمتَها في التَّوليد الاصطلاحيّ معقودٌ على التَّطّور الإنتاجيّ العربيّ بدرجةٍ كبيرةٍ جدًّا.
وعليه، فإنَّ هذه النَّتيجة تُشرّع أمامنا نافذة الكلام على إشكاليَّة ضعف الدّولة والنّظام العربيّين وما يرتبط بهما من المؤسّسات السّياسيَّة والاقتصاديَّة والصّناعيَّة والاجتماعيَّة والتَّعليميَّة والثّقافيَّة…؛ إذ إنَّ اللُّغة – مهما عظمت جماليَّتُها وارتقت آليّاتُها التَّوليديَّةُ لاستيعاب معطيات العصر الحضاريَّة والفكريَّة – تبقى مرآةً صادقةً تُرينا وَجْهَ الدّولة ومؤسّساتها الرَّسميَّة من دون مساحيق تجميليَّةٍ زائفةٍ؛ فهي تضعف إِنْ ضعف أهلوها، وتتوهَّج إِنْ توهَّجت إبداعاتُهم وابتكاراتُهم الرّائدةُ!
وإنَّه لَمِنَ المعلوم لدينا أنَّ محاولة الارتقاء بالمنظومة الفكريَّة العربيّة الفلسفيّة أو السّياسيّة أو الاجتماعيّة أو الاقتصاديّة أو الدّينيّة أو النَّقديَّة تبقى مرهونةً بما تنتهجه الدّولةُ من نظامٍ مؤسّسيّ يجب أن يرتكز إلى ديناميكيَّة الفكر التَّعدُّديّ الَّذي يعترف بمشروعيَّة الاختلاف بكونه حقًّا مكتسبًا قانونًا، والَّذي يستند إلى ديمقراطيَّة الانتخاب، وحرّيَّة التَّأويل والنَّقد ضمن بنيةٍ فكريَّةٍ وثقافيَّةٍ شاملةٍ تُكرّس مفهوم المواطنة والانتماء الوطنيّ على قاعدة «الحقّ والواجب»، لا على قاعدة الولاء المطلق السّياسيّ أو الدّينيّ للعائلة أو للزَّعيم ولاءً كفيلاً بتكريس الأحاديَّة المعرفيَّة، ومن ثمَّ قَتْل روح الإبداع الثَّقافيّ والأدبيّ والفلسفيّ بسهم زيف القداسة، وطعنة التَّكفير والممنوع والمحظور…
فضلًا عن ذلك، فإنَّ الدَّولة الَّتي لا تحرص على استثمار طاقات شبابها وتنميتها قبل حرصها على بناء الحجر محكومٌ عليها بالعجز الحضاريّ والانحدار الثَّقافيّ والارتكاس العلميّ والتَّقوقع في بوتقة الاستهلاك مادّيًّا وفكريًّا؛ ولذلك لا بديل – في سبيل تطوير لغتنا الأمّ ورفدها بالرّوح العلميَّة المعاصرة – من تكريسها لغةً تعليميَّةً في تدريس العلوم الإنسانيَّة كما في تدريس العلوم التَّجريبيَّة على السّواء ضمن نظام تعليميّ متطوّرٍ يتخفَّف من التَّلقين والحفظ والتّكرار، وتكريسها لغةَ بحثٍ واستكشافٍ في المختبرات العلميَّة ليتخلَّص المتعلّم العربيّ من محنة التَّشتُّت اللُّغويّ الَّذي يدفعه إلى ازدواجيَّةٍ مقيتةٍ: ازدواجيَّة التَّفكير بلغةٍ والتَّعبير عن أفكاره بلغةٍ أخرى، ولا سيَّما إذا لم يتمكَّن هذا المتعلّم المسكين من إتقان اللُّغة الأجنبيَّة الَّتي تُدرَّس بها العلوم التَّجريبيَّة، أو إذا كان معلّمو العلوم الإنسانيَّة يتوكَّؤون على اللَّهجات المحكيَّة كثيرًا في قاعات التَّدريس بدلًا من الفصحى، وهو الأمر الَّذي ينتج منه غالبًا «أمّيَّةٌ مقنَّعةٌ» تتمثَّل في تراجع مهارات المتعلّمين في مجال القراءة والكتابة والمشافهة باللُّغة العربيَّة!
وهذا بدوره يُحفّزنا على الحديث عن جدوى الاهتمام بالإنفاق على البحث العلميّ والاستثمار في مجاله كفرصةٍ لمدّ جسورٍ نحو مستقبلٍ مختلِفٍ؛ لأنَّ الرّهان على الإنتاج العلميّ والبحثيّ هو المقدّمة الضّروريَّة للنّهوض والانتقال إلى منظومة الإنتاج الرّقمي والتّقنيّ، ومن ثَمَّ فهو المقدّمة اللّازمة للعبور من «كهوف الشَّرق»، ومن «مستنقعاته» إلى «الشَّرق الجديد» على حدّ تعبير الشّاعر «خليل حاوي»، وللعبور من ليل الاجترار إلى شمس الرّيادة في الإنتاج والابتكار، وهي تُشرق قبل شمس الشّروق الوقتيّ بمسافةٍ لا تُقاس بالسّاعات والأيّام، بل بالطّموح والحلم والتَّخطيط والإرادة… ومتى ابتكرنا وسائل وتقنيّاتٍ جديدةً ابتكرنا بالتَّزامن معها أسماء جديدةً تولد من رحم لغتنا وحضارتنا الأمّ؛ وخير دليلٍ على ذلك ما تركته العربيَّةُ، في العصور الذَّهبيَّة السّالفة، من أثرٍ في سواها من لغات العالم كالفارسيَّة والهنديَّة والتّركيَّة والإسبانيَّة والفرنسيَّة والإنجليزيَّة…
إذًا، إنَّ أهمَّ الشّروط العمليَّة لتحرير لغتنا العربيَّة من سطوة التَّبعيَّة اللُّغويَّة المهيمنة الوافدة من «هناك»: من الخارج الإمبرياليّ تبقى مرهونةً بتحرُّر القرار السّياسيّ والاقتصاديّ العربيّ من قيود الهيمنة الاستعماريَّة الجديدة الَّتي تجهد لتكريس نمطٍ عيشٍ أحاديّ، وثقافةٍ أحاديَّةٍ، ولغةٍ أحاديَّةٍ تُعزّز طغيان المركزيَّة الغربيَّة ولا سيَّما طغيان حضور المركزيَّة الأميركيَّة في العالم؛ وبلا ريب، فلا سبيلَ إلى تحرُّر القرار السّياسيّ العربيّ الَّذي لا ينفكُّ يُقامر بمصير شعوبنا ومقدّراتها وطاقاتها إلّا خَلْع سلطة القمع، وتهشيم قداسة فكرة القائد الخالد والعائلة المصطفاة، ودفن الأنظمة السّلطويَّة وأجهزتها الرّقابيَّة غير مأسوفٍ عليها إلى غير رجعةٍ…
وفي ختام هذا المقال، أجدني غير مدفوعٍ إلى إقفاله بلغة الإرشاد والوعظ من قبيل: «يجب أن»، و«ينبغي»، و«يلزم»…، أو التَّحريض على العناية بلغة «الضّاد» من منطلق الواجب الدّينيّ أو القوميّ؛ لأنَّ هذا العصر إنّما هو عصرٌ تضاءلت فيه جاذبيَّة المبادئ لصالح جاذبيَّة النَّفعيَّة وإغراء المصالح الماديَّة الآنية؛ وعليه فلا بديل من العمل على تحرير المواطن العربيّ من مستنقعات الذّلّ والخوف والقمع، واحترام كرامته الإنسانيَّة كطريقٍ حتميّةٍ إلى استعادة العربيَّة ريادتَها ومكانتَها بين لغات العالم بوصفها حاجةً وضرورة ومفتاحًا للولوج إلى فضاء العلم والتَّقدُّم والابتكار، وكممرّ إلزاميّ كي لا تبقى لغةَ عبادةٍ طقسيَّةٍ تربطنا بالخالق وحده من دون أن تمدّ جسور التّواصل إلى «المخلوق الآخر»؛ وإلّا فإنَّها ستنكفئ على ذاتها لتكون لغةً لـ«أهل السَّماء» هناك وغدًا فحسب، وليست لغةً لـ«أهل الأرض» هنا والآن في زمننا السَّريع الَّذي يعدنا بأن يأتي على كلّ عاجزٍ صامتٍ ساكنٍ واهنٍ يابس الأحلام والإرادة فيذروه كالهشيم مع الرّياح!!