فرح



الدكتور صادق النابلسي

لم نتعوّد أن نجني كلّ هذا الكم الهائل من الفرح. لم نجرّبه بهذه الجرعات الفائضة، ولم يمرنّا على جرس حروفه أحد، ولم يهدنا إلى مسعاه الجميل نظام أو زعيم أو ملك تامّ الخِلقة والطويّة.

لا نكاد نقترب من بعضه، على ندرته في دنيا العرب، إلا بيد الحذر والتحوّط والتوجّس، لأنّ كل شيء فيه كان ينطوي على خطر الرِدّة عن الطبيعة التي جُبلنا فيها سنين طويلة، أو نزعة التحوّل إلى بشرٍ محفوظي الكرامة والكينونة. ساداتنا وكبراؤنا استخلصوه لهم، أما نحن فلنا البؤس والهوان وحرية الموت سأماً أو انتحاراً أو على المشانق والمقاصل وساحات الرجم وميادين الحروب الأهلية والطائفية المقدّسة!

أبعد من كل سياق، أشعل فينا السيّد فرحاً مهولاً. نسف قوالب الأسى القديمة المتكلّسة داخل أحاسيسنا. أعاد إلى فطرتنا براءتها الأولية وماءها العذب. فتح أبواباً موصدة تقف وراءها سيول من الوجع المعتّق تريد أن تلفظ أنفاسها الأخيرة خارجنا. ألهب فينا ذهولاً غير مألوف، ونشوة تحلم بعصا موسى تشقّ البحر للمقاومين ليعبروا إلى فلسطين فتأخذ المكان الذي تستحق من دمائنا.

خرس لساني انشداهاً وأنا أرى «قواعد الاشتباك» تتكسّر أمامي كلوح زجاج. ورجوت أن أسير عليها وأدوسها بقدمَي لأتلقى القدس بكل جوارحي مع مطلع شمس قريب. رجوت اليوم الذي أقطّع فيه الأسلاك المتوحشة، وأندفع في نهر من الأشواق إلى التراب الذي عمّدته السماء بالشهادة. رجوت أن يحجزني الزمن لأشهد تهاطل المطر فوق يافا وحيفا وعكا وسائر الجباه التي رُفعت على سارياتها أعلام النصر.

يا سيّد جعلتَ قلوبنا مأهولة بالفرح، وأيقظتنا إلى الحياة. تلك الساعة التي تكلمت، قهرت فيها منيّتنا، ودفعتنا لنصرخ من قمة رئاتنا لبيك يا نصر الله . «سنفعلها وندخل الجليل وما بعده». قلتها مراراً: ولكنك اليوم لا تُطلق من فمك صرخة مدوية، إنما تعصف بكل أوثان العرب وأصنامهم، وزيف المتخاذلين من سياسيين ومثقفين وثرثارين ورماديين كان سعيهم المنهك منذ اغتصاب فلسطين حتى الساعة يقتصر على هموم يومية تافهة وتنظيرات عديمة اللون والجدوى، وجحافل من الجيوش الوهمية، وجراد من الشعارات الكاذبة كانت تغطي مآسينا ومباكينا.

يا سيد، جعلت بيننا وبينك علاقة عشق وتدلّه لا تنتهي. صرنا قادرين معك على الفرح والابتهاج والمضي خارج حدود الحلم. أصبحت كلماتك المستقبل وصوت التاريخ وصوت الذين لا صوت لهم.

ضع قدمك يا سيدي، على أرض فلسطين. اضرب باب السجن، لنخرج إلى نور النصر والحياة والفرح الأبدي!

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى