تشكيل الحكومة يخدمُ إعادة إنتاج قويّة للنظام الطائفيّ
} د. وفيق إبراهيم
تعمل الصراعات السياسية في الداخل اللبناني وفقاً لثلاثة ثوابت، الأولى هي أن تشكيل الحكومة مسألة داخلية وخارجية قد تتألف في يوم واحد أو تنتظر دهراً وسط اشتداد الصراعات في الإقليم. اما الثانية فهي أن النظام السياسي الطائفي الذي تنتمي إليه انكشف بشكل كامل على مستوى فساده وعجزه الى حدود الشلل. فيما يعلن الثابت الثالث أن لا بديل من النظام الطائفي الذي لا يزال مؤيداً من منتجيه الفرنسيين والغربيين إنما مع تعديلات في الشكل الخارجي فقط.
هنا تكمن الحبكة التي تستعملها القوى السياسية اللبنانية التقليدية لإعادة جذب الناس اليها، فلم يجدوا كجاري عاداتهم، الا ملهمتهم الطائفية كوسيلة لإلغاء العقل والانسحاق في الغرائز.
هذا لا يعني أن الحكومة غير قابلة للتشكل لكن هذا الامر مسألة اخرى ليست حكراً على قادة الطوائف.
فما هو في خاتمة المطاف إلا وحي خارجي يوحى ليسارع ابطال الداخل الى ترجمته بتحاصصات بارعة.
لذلك فإن ارتفاع حدة الصراعات المارونية والسنية والشيعية والدرزية هي جزء حيوي مطلوب بإلحاح لإلغاء خروج بعض ملفات الفساد عن قاعدة الإخفاء والتستّر والعودة الى الانضباط الطوائفي العام. فما أن يخرج ملف الى العلن حتى يتبعه آخر متناولاً فضائح نظام تشمل كل قواه ومن دون استثناء.
فما العمل؟
ذهبت القوى السياسية الى الاختلاف حول تمثيل الطوائف في الحكومة ومكانة رئيس الجمهورية الذي يجب أن يشارك في التأليف، لكنهم يحاولون منعه وتسمية وزراء الطوائف المسيحية، وبسرعة انتفض الدروز مطالبين بوزيرين مع وزارات محددة بذريعة أنهم من الطوائف المؤسسة.
إلا أن السنة لم يسكتوا فأدلوا بدلوهم مؤكدين ان رئيس الوزراء السني هو الذي يشكل وبمفرده مستنداً الى المبادرة الفرنسية.
وحتى لا يظن أحد ان الشيعة غافلون عما يجري، سارعوا الى إطلاق مواقف تنقلهم من مرحلة تأييد المقاومات الى الالتحاق بأقرب المراكز لممارسة الحرب الشعبية.
بدوره المطران عودة الذي يشعر أن الأرثوذكس مغيبون في العباءات المارونية طالب رئيس الجمهورية بالاستقالة مؤكداً انه هو شخصياً عندما يخطئ يتنحّى.
بدوره الكاردينال الراعي ولمزيد من التشويق أدى أدواراً إعلامية وسياسية أثبتت مدى حرص الرهبانية على لبنان الطائفي نموذج 1920 وحتى لا يعتقد أحد ان المفتي احمد قبلان مسافر الى النجف او إيران، فأصدر بياناً هاجم فيه العابثين بالاستقرار اللبناني مؤكداً على حصص الطوائف ووطنية ممثليها.
أما شيخ العقل، فلا يزال متكئاً على آخر تصريح له حين قال فيه إن المختارة هي باب الشوف وبالطبع نواحيها في عاليه وحاصبيا وراشيا…
لقد أدّت هذه الصدامات الإعلامية الى نتيجتين اساسيتين:
أولاً القضاء على كل كلام إعلامي وحتى خطابي كان يطلقه منتحلو صفة الثورة مطالبين فيه بنظام مدني لبناني على أنقاض إلغاء النظام الطائفي.
ثانياً إعادة اعتبار قوية للنظام الطائفي اللبناني بشكل يبدو الآن أقوى مما كان عليه في مراحل الحروب الاهلية في 1958 او 1975.
ما يمنح المبادرة الفرنسية فرصة تشكيل حكومة تراعي التوازنات الطائفية من جهة واستقلالية الوزراء من جهة ثانية، وذلك على قاعدة تأييد كامل للطوائف اللبنانية. هذا الى جانب غياب اي نوع من المعارضات الشعبية او الحزبية وحتى الإعلامية.
الصراع إذاً بين لبنان الطائفي او بديله المدني ولّى الى غير رجعة، فحتى اصحاب «المدني» اصيبوا بخرس افقدهم القدرة على النطق الى ان تبين أن إصرارهم على مدنية الدولة كانت الوسيلة المناسبة لاستثارة الذعر الديموغرافي عند المسيحي، فبالتتابع رفض فكرة لبنان المدني الكاردينال الراعي والتيار الوطني الحر بشخص قائده رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيسه الصهر جبران باسيل، كذلك قائد القوات سمير جعجع والأرثوذكس والكاثوليك.
كل هؤلاء رفضوا بحزم مدنية الدولة ولبنان الدائرة الانتخابية الواحدة حتى بوجود مجلس للشيوخ.
ولحقهم في الرفض الوزير وليد جنبلاط مؤازراً بالنائب طلال أرسلان ومشايخ العقل وصولاً الى الوزير السابق وئام وهاب الذي كان يكتفي بالقول «اسألوا الدروز».
أما الشيعة فلم يتمكنوا من تفسير ولههم بالدولة المدنية وعملهم من أجل دولة شيعيّة تشابه مشاهد أخرى من تاريخ دولة إقليمية.
أما حال السنة السياسيّة، فليس أفضل وضعاً من الشيعية السياسية، فهم يشعرون بتفوّقهم العددي لكنهم يعرفون أنه غير قابل للصرف مع وجود تيارات لا تريد الآخر إلا عبداً او طريداً وبالتالي شريداً. فكيف يمكن للشيخ سعد الحريري مثلاً الاندماج في دولة مدنية مع قوى مسيحية وأخرى شيعية من حزب الله. وهناك عشرات الفتاوى السياسية والدينية الواردة من الدولة السعودية بعدم قبول حزب الله على مستويي الدين والمقاومة معاً. كذلك الحال بالنسبة للدروز غير المقبولين ابداً على المستوى الديني، وما عليكم الا سؤال مفتي مكة والمدينة.
هذا من دون تجاهل ملاحظة مهمة، وهي أن مشيخات العقل الدرزية لا تقبل بأي اندماج إلا بين جنبلاط وأرسلان مع الآخرين من سياسيي الطوائف الأخرى.
يتبين بالاستنتاج أن القوى السياسية اللبنانية نجحت بإعادة تمتين نظامها الطائفي بشكل أصبح فيه صالحاً للخدمة لقرن على الاقل، مقابل تراجع الأحزاب الوطنية وثوار آخر زمان. فهل يؤدي هذا الأمر الى انعاش اقتصادي للبنان؟
هذا ما تريده المبادرة الفرنسية من إنعاش النظام الطائفي إنما مع أقل قدر ممكن من الفساد ومن يعش يرَ.