الأمة السورية… حقيقة تاريخية
} هاشم حسين
لا يرتكز منهاج عقيدتنا السورية القومية الاجتماعية، بأيّ حالٍ من الأحوال، على مواقف انفعالية أو تسجيل نقاط خطابية غير موضوعية لظروف آنية أو لتأجيج شارعٍ هنا أو جماعةٍ هناك لخدمةٍ محدودة، أو لمصلحةٍ ضيقة، على سبيل المثال مصلحة الطائفة هذه أو المذهب ذاك، أو حتى الدين بكلّيته ورسائله السماوية، بل إننا أبناء مدرسةٍ وعقيدةٍ تؤمن بأمّة يعود تاريخها الجغرافي إلى ابتداء الخلق والوجود. أما تاريخها الإنساني فهو يمتدّ إلى ما قبل الزمن التاريخي الجلي، والذي يسبق أيّ رسالة، دينيةٍ كانت أم بشرية بآلاف السنين، وتعجز المعارف والعلوم كلها أن تحصيها.
الأمة السورية، شئنا أم أبينا، هي الأصالة الإنسانية بحدّ ذاتها والتنكُّر لها بفورة خطاب، إن دلّ على شيء فهو يدلّ على قصر نظر في الفهم التاريخي لحقيقة بلادنا، وإن ربطها بمرحلة زمنية قصيرة هو في تاريخ نشوء الأمم وحياة الشعوب: عمر مراهقة لا أكثر…
الأمة السورية تستعيد حاضرها بدماء أبنائها، ترفع رسالتها الإنسانية إلى السماء مخضبة بزوبعة حمراء، وترسي قواعد العهد الجديد للتاريخ الإنساني بعد أن «ظنّ أعداؤها أنها قضت إلى الأبد» يوم اجتمعوا عليها بمسلخهم الدولي سنة 1916 باتفاقية الخساسة الدولية سايكس ـ بيكو، إلا أنها نهضت من تحت رماد الأحقاد بمواجهة شعور الدونية للأمم القاصرة لتعلن إرادة الحياة بعقيدة تامة:
«سورية للسوريين والسوريون أمة تامة»
كنا نودّ أن نكتب إلى وزير الأوقاف بمقام آخر، لكنّ سقْطته أملت علينا تذكيره بأنّ الأمة السورية هي الحقيقة التاريخية الوحيدة في هذا الوجود الإنساني المترامي وسوف نوجز بعض الملاحظات على خطاب التنكُّر للهوية السورية والتي يفترض أنها هويته.
لم يبخل السوريون القوميون الاجتماعيون على هذه الأمة بدمائهم لصيانة شرفها، تلك الدماء الهادرة عشقاً للحياة دفاعاً عن الشام، وما كانوا ينتظرون للحظة واحدة أن يتساءل أحد: «ما هي الأمة السورية؟» مخالفاً الاتجاه السياسي الذي ثبّت قواعده خطاب سيادة الرئيس بشار الأسد بحكمة عالية وعقلانية مدركة، وهو الاتجاه الذي يعبّر عنه سماحة المفتي الشيخ أحمد بدر الدين حسون في خطبه التي تجمع الدم على الدم من لبنان وفلسطين والعراق والأردن مدراراً يذود عن الشام وأهلها وشعبها، دفاعاً عن أرضنا الواحدة وشعبها الواحد، الروح على الروح، والكتف على الكتف، والسلاح على السلاح في مواجهة أعداء الأمة قاطبة وليس عن الشام فحسب، لهذا فإنّ نكران الأمة السورية مخالف لكلّ قواعد المنطق ولحقيقة ما يجري على الأرض، لا سيما في العشر العجاف الأخيرة.
أن يقف وزير الأوقاف في الرابع من الشهر الحالي ويخطب في طرطوس على مقربة من شطآن الحضارة الإنسانية، فإنّ قبرص تسمع صدى صوته مكلومة لنكران أمومتها السورية، تُربِّت على كتفها أرواد الحزينة جراء خطأ ثقافي تاريخي اجتماعي جغرافي انفعالي ناتج عن ردّة فعل كيدية أوقعت صاحبها في هذا الخطأ.
1 ـ في الخطأ الثقافي
إنّ القول في التمييز بين الأصل والفرع هو على أساس أنّ الجسد والروح مرتبطان ببعضهما وفق منهج يقتصر على الإسلام والعروبة، في حين نعلم علم اليقين أنّ تاريخ الإسلام قصير العمر مقارنة بتاريخ وجود البشرية، وكذلك العروبة.
2 ـ في الخطأ التاريخي:
إنّ الأمة السورية ليست حالة طارئة في السياسة والوجود العسكري – الاستراتيجي من ناحية، ولا في الوجود الفاعل العلمي والمعرفي من ناحية ثانية، وتجاهل هاتين الحقيقتين يدفع المرء إلى طرح سؤال جدي: ما هي خلفيات هذا الانفعال وهذا التجاهل التاريخي لوجود الأمة السورية وحقيقتها التاريخية؟
هنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ كتباً عديدة، ومنها كتب مدرسية، تتحدث عن التاريخ القريب ومن يطّلع هذه الكتب يجد أنّ علماء المسلمين أنفسهم في بداية القرن المنصرم وبعد إفشاء أسرار الاتفاقية المشؤومة التي قسّم بها الفرنسيون والإنكليز بلادنا سورية إلى دويلات بلا هوية حقيقية، وحوّلوها إلى دويلات تتصارع على صناعة تاريخها الحاضر من خلال الاقتتال الداخلي البغيض لتدافع عن نفسها بهويات مزوّرة ترتكز على الدين تارة، وعلى اللغة تارة، وأخرى على التبعية السياسية لهذه الدولة أو تلك عدا عن الانجرار الأعمى خلف التعصب الطائفي – المذهبي البغيض. هؤلاء العلماء المسلمون كانوا أكثر الناس مطالبة بالوحدة السورية الجغرافية والشعبية، وأشهرهم مطالبة هم علماء ورجال الدين في جنوب سورية – فلسطين، ولن أذهب إلى درس تاريخي بالأرقام والتواريخ، فالقاصي والداني يعرفها، ولذلك فإنّ إسقاط الهوية السورية بهذه الأسلوب يستوجب اعتذاراً من التاريخ الإنساني.
3 ـ في الخطأ الاجتماعي:
إنّ نكران الأمة السورية يرفضه من هم على سوية عالية من الوعي والفهم والإدراك لحقائق الاجتماع البشري وأولى ركائزها التفاعل الحياتي والتواصل الاجتماعي التي تؤمّن لها صلابة وجودها.
وإذا ما أخذنا جانب الهوية السياسية سنجد أنّ الشام تحمل هوية الأمة السورية هوية رسمية في كينونتها الرسمية كدولة سياسية ترفع شعار اسم دولتها «العربية» ولكنها تعطيها الهوية السورية كواقع اجتماعي حتمي فهي اسمها: الجمهورية العربية… ولكنها هذه العربية لم تأتِ مجردة، أو من دون هوية اجتماعية حقيقية تعبّر عن أساسها وأصولها وهويتها التاريخية التي انبثقت منها، فكانت هويتها قبل أيّ شيء: السورية. لهذا نلحظ أنّ في كلّ البلدان العربية الأخرى لا يوجد أيّ دولة تحمل الهوية باسم يعبّر عن نفسه إلا في الجهورية العربية السورية.
الاسم هو: الجمهورية العربية… السورية… والعربية لواء سياسي، وشتان ما بين اللواء والهوية، فاللواء هو لزوم المعركة فقط، أمّا الهوية فهي أساس الوجود الإنساني بطبيعته.
بتجاهل الحقيقة العلمية وقع وزير الأوقاف في فخّ التعصّب للدين على حساب المجتمع، وللغة على حساب الهوية ونشوء الأمم، وبالتعصب الانفعالي جنح هذا الوزير إلى تجهيل الهوية وحقيقة الانتماء للأرض والوطن والقيم، وركّز على تعلّم اللغة وأصولها بكلّ واواتها، وهنا وقع في مطبّ التنكّر للأبجدية وهي صناعة سورية: هوية، تاريخاً، حضارة، ثقافة، اجتماعاً، تفاعلاً، تكاملاً، وحتى الواو الثامنة (صلاة وعبادة)، وضعت الوزير في مواجهة كلّ أبناء الهوية السورية، وليس السوريين القوميين الاجتماعيين فحسب.
أنتم يا وزير الأوقاف أسأتم إلى المحمديين، بمقدار إساءتكم للمسيحيين والأشوريين والكلدان والأموريين والحثيين والكنعانيين والفينيقيين والبابليين والسومريين والأكاديين والعموريين واليبوسيين والآراميين، ولكلّ دم تحرك على الأرض السورية منذ الأزل وإلى الأزل يزرع الإنسانية حضارة وعلوماً ومعارف.
أسأتم إلى الوحدة الاجتماعية للمجتمع السوري، هذا المجتمع الذي يذود عنه أبناؤه بدمائهم الزاكية ليس لأنهم محمديون أو مسيحيون أو علويون أو دروز أو صابئة أو أشور وكلدان وكرد وغيرهم، بل لأنهم: سوريون من وطن سوري من أمة سورية واحدة وضعوا مصلحتها فوق كلّ مصلحة، وساروا بأرواحهم على جباههم ودمائهم على أكفهم يصنعون المجد الحديث للإنسانية وعليه وجب الانحناء للمجتمع السوري بكليته وفاء وتقديراً.
4 ـ في الخطأ الجغرافي:
قبل مئة عام إلا قليل من اليوم، انطلقت العقيدة السورية القومية الاجتماعية تقاتل من أجل الهوية التاريخية للأمة السورية، ورسمت بامتياز حدودها الجغرافية، قبل اختراع الأقمار الصناعية والمراصد الجغرافية الضخمة التي ترقب الأرض والسماء، وعيّنت القومية الاجتماعية الجغرافية السورية بأنها «جغرافية ذات حدود طبيعة» تميّزها عن سواها من الأمم والشعوب والدول الأخرى لحقيقتين أساسيتين:
الحقيقة الأولى: المناخ والبيئة والجغرافية الأرضية المفتوحة على بعضها.
والحقيقة الثانية: الوحدة الاجتماعية التي يتزاوج فيها السوريون ويتفاعلون في ما بينهم، ثقافة واجتماعاً وتوالداً وانتماء إنسانياً موحداً وثقافة موحدة لا ريب فيها كما لا ريب في لغة الضاد التي تجمعهم، وتجمع تاريخهم الذي أبدع به مسيحيوها كمحمدييها شعراً ونثراً وأدباً وعلماً، فقهاً وبلاغة، عدا عن وحدة الحياة ووحدة المصير التي جاءت كلمتكم ناسفة لهم ولتاريخهم، ولكلّ منجزاتهم التاريخية بتساؤل متسرِّع لم يحتكم إلى العقل والمنطق والتدبّر، فجاء تساؤلكم ضعيفاً: (شو يعني أمة سورية)، فأوقعكم هذا التساؤل في خطأ جغرافي قاتل نسفتم به خارطة الأمة عن بكرة أبيها لتستندوا على خاصرة اللغة الضعيفة التي طوّرها أساساً السوريون وجعلوها لغة الأمم والشعوب، لا بل لغة القرآن لا بلغة أهل السماء.
نعم، هم السوريون من جعل هذه اللغة لغة الأرض والسماء.. هي لغة أرواد وصيدا وصور وتدمر وبابل وأريحا… لغة دمشق وبيروت والقدس وعمّان وبغداد.. لغة إيبلا وقادش وأدونيس والبصرة والكوت.. هي لغة جرش وغزة وعكا ويافا هي لغة حمص وحلب والأرز والباروك وبعلبك.. هي لغة دير الزور ومرسين وميسلون وكيليكيا والاسكندرون وديار بكر وربيعة.. هي لغة بلاد ما بين النهرين تنشد قرطاجة لغة الأسرار كله. بنسفكم لهذا التاريخ كله، وحصره بألف وأربعمئة عام ونيّف وقعتم في جُرم تاريخي وجب فيه الاعتذار من الجغرافية السورية وكلّ الأرواح الساكنة فيها منذ الأزل حتى الأبد…
5 ـ في الخطأ الانفعالي:
وفقاً لعلم النفس، إنّ انفعال الفرد لا يأتي من فراغ بل هو نتيجة أمر ما، وحدث ما يقع في مواجهته، فيخرجه عن طوره وبسببه يتصرف أو يتقوّل أو يتفقهن بما ليس فيه جراء فقدان السيطرة على لحظة التعقل فيها، فيقع الفرد في الخطأ مما يتسبّب له وبسبب هذه الانفعالية بإحراجات هو في غنى عنها لو أنه تمالك فيها غضبه ومنع انفعاله، وبهذا القومية الاجتماعية تقول: «إياكم واضطراب الأعصاب فإنّ في اضطراب الأعصاب الخطر»، وقالت الكتب السماوية كلها: (الحُلمُ عند الغضب عبادة)، وقال الأنبياء: (الغضب مذلة للنفس، ومدفعة للشرك بالله، وأول الشرك الحمق، وأول الحمق الغضب، وأول الغضب لحظة اضطراب وفقدان التعقل).
خطأ كان بالإمكان تجنّبه لو أنكم حكّمتم المنطق والتعقل على العواطف والانفعالات.
تبجّحتم بالدفاع عن حقيقة الدين، فقضيتم على حقيقة الإنسان!
تبجّحتم بالدفاع عن اللغة، فقضيتم على حقيقة الجغرافية والانتماء والاجتماع البشري فيها!
تبجّحتم بالدفاع عن القومية العربية، فقضيتم على القومية الواقعية بنسفكم لحقيقة الأمة السورية!
ذهبتم للدعوة إلى توحيد الصفوف المذهبية، فأجّجتم صفوف أبناء الأمة غضباً حتى وقع بعضهم في بعض خطئكم ففلت عقال اللسان وزلته. اجترّت العقول بعضها للخطيئة، وهذا ووفق منطوق الدين نفسه: (رحم الله امرئ عرف حدّه ووقف عنده) كما خطها إمام البلاغة في لغة عربية فصيحة، وأجمل الحدود على الإطلاق: حدود الاحترام.