رجل الكلينيكس كان على حق..!
زياد كاج*
« فشلت خطة مواجهة وباء الكورونا في لبنان». والفشل عندنا كالقدر المكتوب في أغنية العندليب الأسمر «قارئة الفنجان». ونحن ننتظر الترياق انتظار غودو – بيكيت من عالم ندينه ونلعنه على مدار الساعة ومع كل شروق للشمس وغروبها.
الفشل حقيقة ملموسة وواقعيّة تعكسها الإحصاءات اليوميّة والتقارير الإخبارية وحال المستشفيات وتصريحات الأطباء من أصحاب الاختصاص محلياً ودولياً. والفشل سلسال على رقبة معظم المجتمعات النامية والنائمة على ودنها، حسب أهل النيل .
إذاً، مَن المسؤول؟
وزير الصحة صاحب السلوك الحسن النشيط والمبادر يصعب أن يطاله اللوم. مقارنة مع مَن سبقه في الوزارة، امتاز بصفتين استثنائيتين: عدم التصريح في السياسة، وديناميكيّة حركيّة لافتة. فبدا كأنه يمارس «رياضة الهايكينغ « بين المناطق؛ فيما اكتفى زملاؤه بالغرق في ما يشبه حالة الخمول وتصريف الأحوال والإطلالات الإعلاميّة و»نحن هنا». خسر الرجل الكثير من وزنه. صال وجال في كل المناطق حتى وصل الى بشري؛ الأمر الذي دفع سيدة المنطقة الى حفظ ماء وجهها بتصريح يؤكد أن وزير الصحة حصل على موافقتها قبل عزل المنطقة بعد تفشّي حالات الكورونا «بشكل أكيد.. أكيد.. أكيد». وأيضاً، تحمّل الرجل سماجة بعض التعليقات التي طالت فرش وديكور منزله. وعندنا، عندما تسخر من فرش الدار، فأنت تسخر من أهل الدار !
ولا يُلام مدير مستشفى رفيق الحريري الحكومي الدكتور أبيض على تصريحاته «السوداوية» عن انتشار الوباء الكارثي. ولا يلام الأطباء والممرضات والممرضون، ولا أصحاب المستشفيات الخاصة والحكومية وكل ما له علاقة بقطاع الصحة. فلهؤلاء كل التحية والشكر والوفاء ومنهم سقط شهداء وشهيدات على خط نار عدوّ فتّاك غير مرئي.
« أين الخطأ ؟»، حسب مقولة الشيخ العلامة عبد الله العلايلي الذي كان في زمانه يخلع العمامة ويدخل دور السينما متنكراً مع أصدقائه لمشاهدة الأفلام العالمية والاستمتاع بتوسيع آفاق وعيه ومناقشتها بعد العرض.
الناس عندنا هي وراء تفشي الوباء وهم مَن أوصلنا الى مرحلة «إما الرغيف أو المرض». عامة الناس الذين تحدّث عنهم شكسبير في رائعته «يوليوس قيصر» حين هاجوا لخطاب أنطوني العاطفيّ ونسوا خطاب بروتوس العقلاني بعد اغتيال قيصر روما. الناس عندنا لا تثق بدولتها الكرتونيّة لمليون سبب وسبب. رغم حقيقة أنّهم هم مَن صنع دولة اليوم وأوصلوا الى مراكز القرار مَن وصل. فمنذ الأشهر الأولى لانتشار الوباء عالمياً، تعامل الناس معه كفيلم علمي خرافي بعيد عن الديار. لم تلتزم الناس بالكمامة ولا بإجراءات الوقاية. استمرت الأعراس والحفلات والتخالط والعناق والقبلات المجانية والاتكال على الله.. فكل ما يصدر عن الدولة «مشكوك بأمره». الدولة وعدت بالكهرباء والماء وتأمين فرص العمل ومواجهة الفساد والطبابة والعيش الرغيد.. والآن تدّعي «الخوف على صحة الناس!». وطال حبل الوعود الكافوريّة ولم يتحقق شيء. «فلماذا نصدّق الدولة… وهي المنافق الأكبر».
يعاني المجتمع اللبناني ـ أو ما أسمّيه محاولة الاجتماع اللبناني ـ من حالة المناعة الوهميّة. خرافة المناعة هذه مكتسبة من الأسوار العالية والأساطير التي بنتها لنفسها كل طائفة تعيش في بقعة جغرافيّة شبه منفصلة عن غيرها. لنقل إنه الغرور الطائفي اللبناني. فكل ملّة تعتقد وتؤمن بشكل واع أو غير واع أنها تمتلك جينات المناعة المكتسبة سماوياً وعبر خط مباشر هابط من السماء. السنة تحميهم روح «الجماعة» والشيعة «يمتلكون منعتهم التاريخية المسقّطة على الحاضر» ، وأهل التوحيد ممنوع عليهم الخوف لأن الحياة البديلة تنتظرهم، والمسيحيون على اختلاف مذاهبهم لا يؤمنون بالموت والنهايات وحالهم لا تختلف كثيراً عن الباقين. اذاً، نحن أمام مجتمع مسكون بالأوهام التي لا تدخل في صلب الإيمان. والعلم والدين منذ أيام غاليلو وكريستوفر كولومبس وأرسطو لما تكن علاقتهما نكدة وتفتقد للثقة. عدوان لدودان؛ خصوماتهما أكثر من نقاط التلاقي.
« لا يصيبكم إلا ما كتب الله لكم.»
يبدو أن كل الملل عندنا قد تبنّت هذه الآية الكريمة التي تفهمها العامة خطأ. الناس قدريّون؛ يؤمنون بالقدر بشكل مخيف. لا يبادرون الا إذا هدد وجودهم عدو بشريّ زاحف. ناس لا تفكر بالحلول بل أدمنت التعايش مع الحال. كل العقول التي أبدعت من عندنا تيسّر لها ذلك في الخارج. علمياً وأدبياً. نحن سريعو اللجوء للقوة والسلاح وردة الفعل ضد عدوان وخطر ملموس ومحسوس. فينا شيء من البداوة لم يمُت. لم نفكر يوماً في حلّ جدي لمشكلة الكهرباء، ولا لمشكلة شحّ المياه وفي بلادنا أنهار تروي الربع الخالي. لم نفكر يوماً باختراع دواء محلي لوجع الرأس رغم حاجتنا الملحة له لكثرة مشاكلنا. كتب الله لنا الضعف. ومن الضعف كان علينا أن نعي وننطلق لنبادر ونبدع بدلاً من أن نتحول الى قوافل تمشي بقبول وتسليم نحو هاوية واحدة عميقة جداً.
نحن في حالة تسليم ويأس من هول الأحوال والتجارب والحروب التي مررنا بها منذ يوم إعلان ما سُمّي بـ «دولة لبنان الكبير» في قصر الصنوبر سنة 1920. أحب رائحة الصنوبر وشكل شجرها وهي مفيدة لكل من يعاني من أمراض الربو والتنفس. من نكبة فلسطين الى نكسة 1967، ومن ثورة 1958 وصولاً الى الحرب الأهلية سنة 1975 التي استمرت الى أوائل التسعينيات، وسكان هذه الأرض الصغيرة جداً يتقاتلون ويقتلون. ولا ننسى حروب وعدوانيّة الكيان الصهيوني التي توالت فصولاً لتصل الى قمتها في إجتياح 1982 ؛ والذي عاد وانكسرت هيبته في أيار التحرير سنة 2000 وبعد عدوان 2006. أهل البلد من الجماعات المبتلية بالحروب وما يترتب عنها من تدخلات أجنبية وموجات فساد «تسونامية» أوصلت القطاع المصرفي – العمود الفقري للبلد – إلى الإفلاس. لذلك لم تصدق خطورة جائحة الكورونا لأنه حلّ كعدو غير مرئي وغير محسوس وسطهم لأول مرة؛ فكان ولا يزال ضيفاً ثقيلاً لم يُحسب له حساب.
عادات الناس الاجتماعية عندنا تقريباً شبه مشتركة. ففي بلاد الغرب الناس متباعدة عن بعضها. ليست لديهم عادة التقبيل على الخد وربما التسليم باليد. يعايدون بعضهم على الهاتف ببرودة تقطع القلب. والمجتمعات الغربية سهلة التوجيه صحياً ومعلوماتياً لأنهم معتادون على النظام ويمتلكون الثقافة الصحية المتوفرة على النت. الناس عندنا ملتصقة ببعضها البعض أكثر. لأننا بحاجة لبعضنا لفقدان الإحساس بالأمن الاجتماعي والصحي. مفهوم المسافة عندنا مختلف. نحن نقيسها بالسنتيمترات والغرب يقيسها بالأمتار والأميال. قديماً كنا نقول إننا كأهل شرق لسنا بحاجة لأطباء نفسانيين لأننا «نفضفض لبعض». الكورونا كسر هذه القاعدة.
لعب الفساد وغسيل «المسؤولين» الوسخ وانكشاف لعبة المصارف وهبوط سعر صرف الليرة اللبنانية أمام الدولار الأميركي دوراً وازناً في تغيير سلوكيات الناس أمام تفشي الوباء وحتى في نظرتهم لكل ما يمثل السلطة والقانون. لم يسبق في تاريخ هذا البلد – منذ أيام إفلاس بنك إنترا وصولاً الى فضائح بنك المدينة – أن وصلت الأمور الى هذا المستوى من العفن والاهتراء بسبب الفساد المتجذر حتى العظم! لذلك تبنى الحراك شعار «طلعت ريحتكم «. حالة الفساد العامة الآخذة بالانتشار كبقعة تسرّب نفطي في البحر دفعت الناس الى وضع وباء الكورونا خلف ظهورهم وأخذوا يلهثون وراء لقمة العيش وتأمين ما يشبه الحياة الممكنة في بلد صارت «لقمة الحلال» فيه مستحيلة. فصار الحديث عن الأسعار والتشاطر في الشراء الخبز اليومي للناس. الذهاب الى الصيدلية صار تحدّياً. شراء حذاء متين صار مشروعاً. وتصليح سيارة أصبح يتطلب ميزانية خاصة. «زمطت فيهم» عبارة أصبحت متداولة يرددها الناس عندما يتحدثون عن أشياء ومقتنيات اشتروها قبل ارتفاع سعرها. أصبحنا نقول «زمطت» بدل «الحمد الله على السلامة».
حالة إنسانيّة عامة لا يمكن نكرانها: أن الإنسان هو غريزيّاً فريسة الوهم والاعتقاد الراسخ بأن الأذى أو المرض أو أي حادث لن يصيبه. هي غريزة البقاء التي تحمينا كي نستمرّ في هذه الحياة. جميعنا متوهّمون أننا في مناعة وبعد عن الخطر. هذا وهم إنسانيّ عام يضعف عندما يقترب الإنسان من لحظة الخطر. والذين اُصيبوا بالوباء ثم تماثلوا الى الشفاء اكتشفوا هذه الحقيقة. الإعلام المحلي عندنا مقصّر جداً في هذا الموضوع. الإرشادات ضرورية والتوعية مفيدة، لكن الأكثر إفادة للجمهور هو إجراء مقابلات مع الناجين من الإصابة للتحدّث عن تحاربهم وآلامهم. لماذا كل المقابلات على الشاشة الصغيرة التي لا يتابعها جيل الشباب مخصصة للسياسة وتوصيل الرسائل؟ أين العلماء والمفكّرون والمخترعون وأصحاب المواهب الشابة الواعدة؟ وأين المثقفون وقادة الرأي كي يتحدثوا مباشرة الى الناس بدل المناكفات السياسية التي توتر الأعصاب. بدت مضحكة تلك الشروط التي وضعتها السلطات المعنية على ساهري الملاهي الليلة في الأعياد ورأس السنة، خاصة بالنسبة للرقص. تخيلوا كيف سيكون المشهد في المطاعم والملاهي الليلة والناس في حالة سكر وهيجان! كل ساهر سيحتاج لدركي كي يراقبه ومَن معه.
رحم الله الشهداء والشهيدات الذين رحلوا ضحية هذا الوباء المخيف والغامض المصدر، وشفى كل مصاب. ومباركة هي العقول والأيدي التي عملت وتعمل لمساعدة هؤلاء.
يبقى أننا بإنتظار اللقاح المتعدد المصادر في الشهر الثاني من العام 2021 حسب وعد الوزير. رغم التطمينات المعطاة وخطة الأولويات المعلنة، لا أعرف لماذا أجد نفسي في تمنّع عن تخيّل الحال بعد شهرين. وكلي أمل أن لا تطول مسألة اللقاحات كما طالت مسألة التنقيب عن الغاز والنفط في مياهنا الإقليمية الملوثة كحياتنا السياسية.
منذ سنوات طويلة، عملت في مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت، وكان عملي يتطلّب مخالطة الأطباء والممرضات وأحياناً المرضى وأهلهم. كنت كغيري أقصد الكافيتريا في الطابق الثاني بهدف تناول الترويقة أو الغداء. كان يلفتني وسط الزحام والضجيج رجل ضخم طويل متقدّم في العمر كرشه علامة فارقة. كان هذا الرجل يمسك كل شيء بورقة الكلينكس.. حتى مسكة باب الكافيتيريا، الحنفيات، أزرار المصعد… أسميته «الرجل المسرسب» لهوسه وخوفه من المكروبات في بيئة طبيّة مفتوحة على الحرب وشتى الأمراض الوافدة.
أتذكر رجل «الكلينكس» اليوم في زمن الكورونا… كم كان على حق… وكم كنا على خطأ.
*روائيّ من لبنان.