لماذا يُستهدَف العماد عون والمقاومة في لبنان اليوم؟
العميد د. أمين محمد حطيط*
يبدو أنّ لبنان يعيش اليوم مرحلة تحدّ وجوديّ، يتعاظم فيها التهديد وتتفاقم فيها الأخطار التي أنتجها داخل مفكّك وخارج طامع، مرحلة بات يظهر فيها ما هو عادة مستنكَر ومستهجَن من التصرفات يظهر كأنه مطلوب ومتمسَّك به لفرضه على لبنان او يروّج له من الخارج ويكاد يظهره أصحابه بأنه الحلّ الوحيد لمآسي لبنان والأخطار التي تحدق به. وهنا يُطرح السؤال: لماذا وصل لبنان الى هذا الوضع ولماذا تتكالب عليه الجهات الطامعة وتسقط فيه من وطنتيها أطراف داخلية؟
من يدقق في الوضع اللبناني يرى أنّ هناك مسائل رئيسية عدة جعلت من لبنان محلاً لهذا الاستهداف وبهذه الحدّة التي قد لا تكون مسبوقة في تاريخه الحديث، رغم أنّ لبنان لم يعرف في الحقيقة فترات هدوء واستقلال تامّ وناجز ومكتمل إلا نادراً ولفترات قصيرة.
في طليعة تلك المسائل تطلّ المقاومة التي أربكت مشاريع كونيّة تستهدف المنطقة، تليها ثروة نفطية ظهرت فجأة او يتوقع الحصول عليها ما استثار طمع الغني ورجاء الفقير. هذا فضلاً عن موقع لبنان الخاص من حيث جغرافيته السياسية والدور الاستراتيجي الممكن أن يلعبه لبنان إقليمياً ودولياً فضلاً عن سعي بعض الخارج لاتخاذ لبنان ورقة يعوّض فيها عن هزائمه او خسائره في الإقليم وعلى الصعيد الدولي أيضاً.
ففي المسألة الأولى، لم يكن أحد في الإقليم او خارجه يتصوّر انّ لبنان الذي كانت «إسرائيل» تقول عنه إنه واهن ضعيف لا يكلفها احتلاله أكثر من إرسال فرقة موسيقية، لبنان الذي كان يوصف هكذا بات يمتلك اليوم مقاومة ذات قوة وخصائص غير مسبوقة على صعيد المقاومات القديمة والحديثة، مقاومة قال سيّدها بالأمس إنها قادرة على الوصول بنارها الى أيّ نقطة في فلسطين المحتلة، وإنها تمتلك من القدرات ما تفاجئ به العدو وتثبت معادلة الردع الاستراتيجي الفاعل معه.
فمقاومة لبنان أتقنت القتال وفقاً لحرب الجيل الرابع وحققت فيه انتصارات إعجازيّة في الدفاع والهجوم على حدّ سواء، حيث أنها في الهجوم طردت المحتلّ من أرض لبنان في العام 2000، وفي الدفاع منعت العدو «الإسرائيلي» من احتلال لبنان مجدّداً في العام 2006، كما أنها مقاومة عجزت حرب الجيل الخامس التي شنّت عليها من النيل منها، ثم امتلكت في المواجهة مناعة خلقت الإحباط واليأس في نفوس الأعداء وليس أدلّ على ذلك مما آل اليه وضع خطة بومبيو لتدمير لبنان ومقاومته، الخطة التي فشلت في النيل من المقاومة التي امتلكت مناعة قلّ نظيرها حتى استعصت على كلّ مستهدف لها من الداخل والخارج.
إنّ العجز عن احتواء المقاومة رغم مواجهتها بكلّ الوسائل المتاحة من أساليب الحروب في الجيل الرابع والخامس أنتج عقداً لدى الفاشلين ما دفعهم الى تصرفات كيدية ولا أخلاقية ودفعهم الى طرح حلول ما أنزل الله بها من سلطان للتخلص من المقاومة وما تحدثه من عراقيل لمشاريعهم.
أما في المسألة الثانية، أيّ الثروة النفطية والغازية فقد أدّى اكتشافها الى تعاظم أهمية لبنان في نظر جهات أسال الغاز لعابها فظهر طمع خارجي بها، وشهوة داخلية إليها، ونزاع حدودي مع العدو «الإسرائيلي» حوّلها، وكاد ان يكون الأمر بسيطاً لدى هذه الأطراف يمكن حله بما يناسب مصالح الطامعين به لو لم تكن المقاومة موجودة، ولو لم يكن على رأس السلطة السياسية في لبنان رئيس للجمهورية يصعب إرغامه على التنازل والتفريط بالحقوق الوطنية والسيادية. وهكذا تفاقمت مخاطر المقاومة على مطامع الآخرين في الداخل والخارج ومنعتهم من استباحة لبنان وثروته النفطية، وتعانقت مع موقع رئاسة الجمهورية التي يشغلها الرئيس ميشال عون الذي خيّب ظنّ الطامعين وأكد انّ لبنان غير جاهز للتنازل عن حدوده البرية واتفاقية «بوليه نيوكمب» التي ترعاها، وانه متمسك باتفاقية الهدنة التي تؤكد عليها، ولا يرى سبيلاً لترسيم الحدود البحرية إلا وفقاً لاتفاقية قانون البحار 1982 وكلها وثائق مرجعية ترفضها «إسرائيل» التي تقف عاجزة عن تخطي الرفض اللبناني للتنازل بسب وجود المقاومة.
بوجود المقاومة وقوّتها وصلابتها وقدرتها على المواجهة بأيّ وجه من أنواع الحروب والاستراتيجيات، وبوجود الرئيس ميشال عون المدعوم شعبياً وسياسياً بتحالفات وطنية ثابتة نشأت في وجه الطامعين بلبنان وثرواته وأرضه والمنتهكين سيادته نشأت عقدة كأداء بات اسمها لديهم «عقدة لبنان». فوجد الأميركي نفسه عاجزاً أمامها، ووجد «الإسرائيلي» نفسه مكبّل اليدين حيالها، ووجد الخليجي المطبّع نفسه خاوي اليدين تجاهها.
إنها «عقدة لبنان» التي تشكل عقدة للخصوم والأعداء والعملاء وتشكل قوة دفاع لبنان في وجه مؤامرات الخارج وارتهان بعض الداخل بحيث يستحيل على هؤلاء تحقيق أهدافهم انْ لم يعطلوا او يذللوا هذه العقدة. من هنا كانت الطروحات الرامية الى تجاوز تلك العقدة وهي طروحات غريبة لا يمكن أن يتقبّلها عاقل، طروحات قد تُغري الأبله الأحمق ويعمل لها العميل المفرّط بحقوق وطنه وسيادته، طروحات تتمحور على هدف واحد هو التخلّص من تأثير المقاومة ورئيس الجمهورية والأكثرية النيابية التي تدعمهما لفتح الطريق أمام استباحة لبنان وحقوقه ومن هذه الطروحات المثيرة للسخرية والضحك:
1 ـ تدويل قضية لبنان وفرض وصاية دولية عليه، أيّ فرض انتداب أجنبيّ على دولة مستقلة مؤسسة للأمم المتحدة. وهو أمر يستحيل تنفيذه طبعاً. لأنّ هذه الوصاية بحاجة إلى قرار من مجلس الأمن وقبول من القوى اللبنانية وهو أمر يصعب تحققه. وهنا نقول إذا عجزت أميركا وكلّ الحلف الدولي الذي تقوده عن تعديل القرار 1701 بسبب الوضع الدولي والرفض اللبناني، فهل تستطيع اليوم فرض ما هو أخطر؟ وهل تستطيع إسقاط استقلال دولة فيها مقاومة هزمت «إسرائيل» وفيها قوى وطنية جاهزة للدفاع عن استقلال الوطن كما هو حال لبنان. طبعاً لا تستطيع والطرح يبقى مشروعاً للسخرية.
2 ـ حكم لبنان عبر «مجلس إدارة من التقنيين» لا وجود فيهم للقوى السياسية القائمة في الأكثرية النيابية. وهذا ما يروّج له تحت عنوان حكومة الاختصاصيين، وهو يعتبر جوهر المبادرة الفرنسية التي طرحها ماكرون وأنيط تنفيذها بسعد الحريري من خارج الأكثرية النيابية. وقد قبلتها ظاهراً معظم القوى اللبنانية، ومع هذا فإننا نرى انّ تنفيذها مخالف للدستور ويفتح الباب أمام انتداب مقنع، وهو يستهدف بشكل أساس موقع رئيس الجمهورية وحضور المقاومة في الحياة السياسية. ونرى أنّ نجاح الطرح أمر صعب للغاية لأنّ أحداً من العقلاء لا يمكنه أن يوقع على إعدام نفسه وتسليم مقدرات الوطن لمن يناصبه العداء أو على الأقلّ الخصومة، ونرى انّ القبول الظاهر من قبل رئيس الجمهورية وتياره السياسي ومن قبل المقاومة وجمهورها وحلفها الوطني هو نوع من التسهيل المتسامح به لتمرير حلّ مع تدوير الزوايا من دون أن يصل التسهيل الى حدّ مخالفة الدستور والانتحار السياسي وتسليم الدولة للغير. لذلك نرى أيضاً انّ ما يدور في خلد الحريري ومشغليه أمر مستحيل التحقق طال الزمان أم قصر.
3 ـ تغيير الأكثرية النيابية بأخرى تنصاع للخارج وتتشكل من حلف تشغله القوى الخارجية اليوم يعادي رئيس الجمهورية والمقاومة ويدعو إلى إسقاطهم. وهو طرح قد يبدو ظاهره دستورياً إذ يمكن تنفيذه بمجرد اعتماد قانون يقصر ولاية المجلس ويقرّر الانتخابات المبكرة، لكن السؤال هل هذه الانتخابات ستغيّر الأكثرية؟ إنّ المقاومة وحلفاءها ورغم ما يتعرّضون له من هجوم مركز عبر عمليات الحرب من الجيل الخامس بما في ذلك الحرب النفسية والعقوبات الكيدية الإجرامية والحصار والانهيار المالي والنقدي إلخ… انها ورغم كلّ ذلك بقيت صامدة متجذرة لا بل عميقة الجذور في بيئتها ولن تمسّ أحجامها التمثيلية بما يؤثر على ما تملك من أكثرية.
وفي الخلاصة نقول إنّ أعداء لبنان في الخارج، والمتكئين على أعداء لبنان في الداخل يتخذونهم أدوات لتنفيذ مشاريعهم ضدّ الوطن، انهم عاجزون عن ترويض لبنان وعاجزون عن إسقاط المقاومة وعاجزون عن إسقاط رئيس الجمهورية، ومع تأكيدنا انّ استهداف الرئيس واستهداف المقاومة يعتبر عملاً خيانياً للوطن وعمالة للعدو، فإننا لا نرى حظاً للمعتدين بالوصول الى أهدافهم نظراً للقوة الحقيقية التي يمتلكها المستهدفون معطوفة على توازنات وطنية وإقليمية لصالحهم في ظلّ انهيارات متتالية في معسكر الخصوم.
*أستاذ جامعي – باحث استراتيجي.