رحيل الأمين المناضل بهجت الحلبي: ميشال، أبو الوليد، بهجت، ودائماً قوميّ اجتماعيّ مميّز بالنضال
سجّل الأمين بهجت الحلبي مسيرة حزبية نضالية منذ عرفته في ستينات القرن الماضي بِاسم «ميشال»، إلى جانب مفوّض عام لبنان في حينه الرفيق (الشهيد لاحقاً) جوزف رزق الله، ثمّ في مخيمات الحزب بدءاً من السبعينات متولّياً مسؤوليات حزبية شتّى بِاسم «أبو الوليد»، ممّا استحق عن جدارة رتبة الأمانة، مستمراً على أخذه بفضائل الالتزام القومي الاجتماعي.
لعلّ أفضل ما يمكن الحديث عن مسيرة الأمين بهجت، هو نشر جزءٍ من مروياته التي كانت وردت في الكتاب الصادر عن الرفيق الشهيد جوزف رزق الله(1).
نُشير إلى أنّ الأمين بهجت الحلبي من بلدة ينطا(2) الحدودية مع الأراضي الشامية، تلك البلدة التي سطّرت الكثير من مواقف النضال في مسيرة الحزب، وقد أتينا على جزء منه في نبذات سابقة، إنّما يصحّ أن يصدر ما يعرّف تاريخ العمل الحزبي فيها.
ل. ن.
*
بعض من مرويات عن مسيرة نضالية لافتة
لقاء الرفيق جوزف رزق الله
في البداية أودّ التنويه إلى أنّ الفضل الأول لنجاحنا وتفوقنا في عملنا يعود إلى مجموعة من الرفقاء والزملاء المخلصين الذين كانوا معي في الجيش، وكنت مدرباً لمعظمهم. ولكن بسبب سوء التصرّف، أو لنقل سوء الإدارة عندنا في الحزب، لم يعلمونا بأمر الانقلاب سنة 1961، وإلا لكنّا نحن ذهبنا لاعتقال فؤاد شهاب. غير أنهم أرسلوا أُناساً لا يعرفون مثلنا. كنت أقف في باحة المعسكر وأصرخ: «العسكري الذي يريد أن يموت معي فليأتي إليّ»، فكان يتجمّع حولي مئات العسكريين المخلصين، ولم يكونوا جميعاً قوميين، إنما تجمعنا الإلفة والمحبة. حضرنا معاً حوادث سنة 1958، وبعدها أصبح هناك تآمر كبير على الجيش وتمّ إضعافه. وصار أغلب الجنود يتركون الجيش للالتحاق ضمن المقاومة الشعبية، ونحن في عداد الجنود الذين لم يتركوا الجيش، واستمرّينا بالمحافظة على شرف الجيش وكنا مقاتلين شجعاناً وأشدّاء. وبعد فشل الانقلاب تمّ تسريح معظمنا من الجيش، حوالى 550 عسكرياً من رتبة جندي إلى رتبة زعيم. أعلى رتبة فينا كان الزعيم لبكي. تمّ تسريح رتباء وعقداء وكلّ الرتب من دون إنذار، فقط بسبب «الانتماء إلى أحزاب سياسية». لم تكن هناك أية محاكمة أو أية إجراءات إدارية… فقط تسليم ورقة التسريح ومع السلامة! هؤلاء الجنود الذين كنت مسؤولاً عنهم انتقل بعضهم إلى الأمن العام وآخرون إلى قيادة الأمن الداخلي – القسم الإداري.
أصبحت بلا عمل بعد تسريحي من الجيش، وكان ابن عم لي قد عاد من البرازيل ولا يرغب بوضع أمواله في البنك وأخذ ربى، فطلب مني أشتري له فندقاً في بيروت، وشرطه الوحيد أن أقوم أنا بإدارته شخصياً. فاشتريت له نزلاً يُدعى «نزل بهجة الشرق» في شارع غورو مقابل فلافل فريحة بع ساحة البرج، وكان الشارع يحوي العديد من الفنادق يميناً ويساراً. وعندما علم الزملاء الذين ما زالوا بالخدمة أين مكان إقامتي وعملي، أخذوا يزورونني وينقلون لي كلّ الأخبار المهمة التي تحصل معهم في الثكنة. وكنّا نقضي معظم وقتنا في قهوة تقع فوق سينما دنيا. وفي إحدى المرات، كانت هناك مشاكل واعتراضات بالثكنة، فجمعهم النقيب يوسف منصور، وكان رجلاً مشهوداً له بالشجاعة وقد انزعج كثيراً لتسريحي، فقال لهم: «أنا متأكد أنكم عصابة واحدة، ولكن لا أدري من هو رئيسكم، فلو أن بهجت الحلبي موجود هنا لكنت قلت مئة بالمئة أن رئيسكم هو بهجت الحلبي».
وذات يوم زارني أحد الزملاء من آل غزال من عيتنيت(3)، وكان قد انتقل إلى شعبة قوى الأمن الداخلي – القلم الإداري. أخبرني أنّ ملفي وصل إليه اليوم، فسألته: وماذا فعلت بالملف، ألم تتلفه؟ أجابني قائلاً: لا أستطيع ولكني قادر على إخفائه لحين سؤالي عنه. وإذا سألوا عن الملف، فعليّ حينها إظهاره، وإذا لم يسألوا عنه، فملفك نائم. فقلت له: دعه نائماً الآن كي أكسب الوقت وأستحصل على جواز سفر.
كانت تربطني ببعض الشباب الموجودين في الأمن العام علاقات صداقة ومودّة، وسبق لي أن قدّمت لهم الكثير من الخدمات والمساعدات التي كانوا يطلبونها مني عندما كنّا بالجيش. وعندما اجتمعت بهم على فنجان قهوة، سألوني عمّا إذا كنتُ بحاجة إلى أيّة خدمة، فقلت لهم إني أريد تصريحاً بالسفر إلى الشام. سألوني لماذا الشام وما الهدف من الزيارة؟ فأجبتهم أني في علاقة غرامية مع فتاة هناك وأرغب بالزواج منها، لذلك يجب أن أحصل على تصريح لزيارتها مرات عدة. فاستفسر أحدهم من زميله عمّا إذا كان لديهم ملف حولي، فأجابه بالنفي. فطلب منه أن يُصدر لي تصريحاً بالسفر أستطيع بموجبه أن أغادر لبنان من جميع الجهات ولمدة ستة أشهر، وهذا ما حدث…
في ذلك الوقت كنت أنا وجاد الله دويك وحسين دويك المسرّحين من نفس الثكنة نلتقي بصورة دائمة. في إحدى المرات أخبرني جاد الله أنّ المنفذ العام (ج. س.)(4) في سن الفيل يرسل العديد من الأشخاص ممّن كانوا بالجيش اللبناني إلى الأردن لتوظيفهم بالجيش الأردني، فلم أصدق الموضوع. ذهبنا معاً للتعرّف إليه ومقابلته، فوجدت هناك أيضاً الرفيق غطاس غريب(5) الذي كان زميلي بالجيش وتمّ تسريحنا سوياً بعد الانقلاب. وكان غطاس يرافق (ج. س.) دائماً لمباريات التيرو والأكل والشرب في المطاعم، وأحياناً يقول له يجب علينا زيارة عائلة الأسير فلان ومقابلة زوجة الشهيد فلان وغير ذلك. وعند دخولنا للتعرّف إلى الرفيق (ج. س.) وجدته جالساً نافشاً ريشه ويتصرّف بعقلية الرياسة. والحقيقة أنني لم أرتح إليه منذ النظرة الأولى، وقلت للرفيق غطاس: «هذا شخص مدّعٍ»، فلم يوافقني الراي في البداية.
بقيت غير مقتنع به، ولم أصدق ما يقوله من أنه أرسل إلى الأردن رفقاء وتمّ تدبير عمل لهم هناك. وقال لي مؤكداً «سوف أرسلك إلى الأردن لنذهب عند الرفيق الدكتور جورج صليبي(6) الذي سيدخلك في الجيش الأردني». وقرّرتُ مسايرته في الموضوع مؤقتاً، لكنني داخلياً وعقلياً لم أثق به، خاصة أنه لم يكن يتكلّم كلاماً قومياً اجتماعياً. وعندما استفسرت عنه، أخبروني أنه كان شيوعياً وجاء إلى الحزب مدّعياً أنه منفذ عام منطقة النبعة – سن الفيل. ثمّ دعاني لزيارة الرفيق جوزف رزق الله بقصد التعرّف إليه، لكن تبيّن لي أني أعرف الرفيق جوزف من قبل، وإن كان شكله قد تغيّر عليّ. فقد كنتُ أعرفه منذ العام 1958 عندا كان يعمل مدير إدارة جريدة «الجيل الجديد»، وكان حينها بشوارب كثيفة. فأخذ (ج. س.) يخبر الرفيق جوزف عن السهرة، ويتباهى بأنه يرسل الشباب إلى الأردن. فأجابه الرفيق جوزف: «حبذا لو كان بإمكاننا أن نرسل أحداً إلى الأردن، فليس لدينا أي صلة بأحد هناك». وعندما هممنا بالانصراف، همست بأذن الرفيق جوزف أنني مستعدّ للذهاب إلى الأردن، فقال لي: دعني أراك غداً.
الرحلة الأولى إلى عمان
في اليوم التالي ذهبت إلى الرفيق جوزف، فأعطاني رسالة «مدبسة» كي أوصلها إلى عمان، وقال لي: «إذا تمّ القبض عليك ابلعها». فقلت له لكن الدبوس يمكن أن يمزّق معدتي! أجابني: «تصرّف… دبّر حالك». قرّرت السفر إلى الأردن يوم الخميس التالي، فذهبت إليه يوم الاثنين للاستفسار منه عن العنوان. قال لي: «لا أعرف سوى أنهم موجودون في أوتيل فيلادلفيا فقط. لا يوجد عنوان، لكني سأعطيك بطاقة للمرور على مكتب نزار المحايري في الشام، يمكن أن يعرف معلومات أكثر عن الرفقاء».
وكان في الفندق بصوفر نزيلة سعودية تنوي الذهاب إلى الشام. كنتُ أقدّم لها المساعدة لأنّ زوجها مريض بأحد مستشفيات لبنان، وكنتُ أصطحبها إلى السفارة السعودية وأشتري لها الحوائج التي تطلبها لتأخذها هدايا معها. طلبت منها أن تحمل لي تلك الرسالة، فوافقت قائلة: «من عيوني الاثنين». وأخبرتها أنّه إذا تمّ القبض عليّ فأنا رجل حزبيّ، وعليها أن تنكر معرفتها بي سوى أننا نترافق رحلة السيارة إلى دمشق فقط. وشدّدت عليها بأن لا تسلّم الرسالة إلا لي شخصياً، فإما أمرّ أنا لاسترجاعها أو أرسل لها أحداً من قبلي لتسلّمها.
ذهبت إلى (ج. س.) وطلبت منه إعطائي رسالة إلى الدكتور جورج صليبي كما وعدني للعمل في الأردن لأنني بحاجة ماسّة إلى المال لتغطية متطلبات المعيشة. فأحضر دفتراً صغيراً وكتب رسالة للدكتور صليبي بالحبر الأحمر. وضعت الرسالة في جيبي، وقلتُ في نفسي إنّه إذا تمّ القبض عليّ أسلّم تلك الرسالة وأقول إنّ الذي أرسلني هو (ج. س.).
في اليوم التالي باشرنا الرحلة. وعندما وصلنا إلى الشام أخذتُ الرسالة من تلك السيدة مع تقديم الشكر لها، ثمّ استقلّيت تاكسي إلى الفرنسيسكان ورحت أتجوّل سائلاً عن بيت «محمد المحايري»، على أمل أن يقولوا لي هنا بيت المحايري، ولكن نزار أو عصام وليس محمد! وبهذه الطريقة أُبعِد عنّي الشبهة وخطر القبض عليّ. وصلت إلى دكان غسيل وكوي أمامه عدد من الشبان فسألتهم عن بيت «محمد المحايري». فأجابوني أنه لا يوجد «محمد» هنا.
لكنني كرّرت القول: كيف ذلك، هذا الذي ابنه بالسجن. فقالوا لي: تقصد بيت عصام المحايري. فقلت: صحيح. ضحكوا جميعاً بعد أن فهموا الموضوع ودلّوني إلى بيته.
وصلت المنزل.. قرعت الباب ففتحت والدته. صبّحت عليها وسألتها ما إذا كان نزار موجوداً، فأجابت بالنفي. أخبرتها أنني من لبنان، وأنا قادم لرؤية الأستاذ نزار. فدعتني مباشرة إلى الداخل واستقبلتني بالترحاب، وأدخلتني إلى الصالة حيث طلبت لي القهوة من المساعدة المنزلية. وأخذت تستفسر عن أحوالنا في لبنان، وقد قلت لها إنّ اسمي محمد على أساس أنني لا أعطي اسمي الحقيقي لأحد من الوهلة الأولى. بعد فترة قصيرة وصل الرفيق نزار فحيّيته بالتحية القومية، فأجابني بكلمة «أهلاً»، حيث أنّه لم نتعارف سابقاً. أعطيته بطاقة التعريف من الرفيق جوزف، وطلبت منه أن يدلّني على مكان سكن الرفقاء بعمّان لأنني سوف أكمل رحلتي إلى هناك. وأبلغته أن اسمي الحقيقي ليس محمد بل هو بهجت الحلبي، وأريته هويّتي وتصريح السفر. لكنّه لم ينظر إلى الأوراق بل قال لي: سوف أعطيك رقم الأمين زهدي الصباح(7)، فأنا لا أعرف العنوان. والأمين زهدي هو مراسل وكالة «يونايتد برس» في وسط عمان.
أخذت التكسي وسافرت مباشرة إلى عمان حيث نزلت في أحد الفنادق. ثمّ أخذت تاكسي أخرى وطلبت من السائق أن يقلّني إلى أوتيل فيلادلفيا مباشرة. وصلت إلى استعلامات الفندق، وكنت مرتدياً بدلة، فسألت عن الدكتور جورج صليبي. استفسر الموظف عمّن أكون، فأخبرته بأنني قريبه. طلب مني هويّتي، وبعد أن نظر فيها قال: أنت لست قريبه. فأجبته بأني أخصّه أكثر من أقربائه الذين يحملون اسم العائلة. فعلّق قائلاً «أنت من الشباب الطيبة». فقلت له نعم أنا من الشباب الطيبة. فأفادني بأنّ شبابكم رحلوا من هنا وسكنوا بجبل عمان الدوار الثالث جنب نادي الضباط.
توجّهت إلى العنوان الجديد ورحت أحوم حول المنزل فلم أشاهد أحداً. سألت عن مستشفى المعشر الذي يعمل به الدكتور جورج صليبي، ليتبيّن لي أنه يبعد عن عمان عشرة كيلومترات. فذهبت إلى هناك وسألت عنه، فقالوا إنه لا يداوم هنا إلا يوم الأربعاء. رجعت إلى الفندق، وكان إلى جانبه دكان سمانة. طلبت من صاحبه أن يطلب لي رقم الهاتف، فردّ عليّ شاب أخبرته أنني من لبنان وأريد التكلّم مع زهدي الصباح. سألني من أين أتكلّم؟ فأخبرته عن الفندق وحانوت السمانة. قال: الزم مكانك وسوف نرسل شخصاً لإحضارك. وقفت أنتظر مقابل الدكان من الناحية الأخرى، لأرى بعد قليل شاباً قادماً وهو يسير بخطوات عسكرية. وعندما وصل، سأل صاحب المحل: أين الشاب الذي تكلّم من عندك بالهاتف؟ فتلعثم صاحب المحل، لكني صرخت من الجانب الآخر: أنا هنا. فرحّب بي قائلاً بنبرة جادة: أهلاً تفضّل معي. ومشى أمامي مسرعاً بنفس الخطوات العسكرية، فقلت له: يا أخ ما اسمك؟ فأجابني: خالد. فتابعت كلامي قائلاً: ولماذا تمشي هكذا، إذا كان قصدك أن تخيفني فأؤكد لك أنني لا أخاف. فضحك وقال: هذه طبيعة مشيتي.
وصلنا إلى المكتب حيث وجدنا رئيس المكتب جالساً إلى مكتبه وإلى جانبه آخرون. وبعد السلام سألني عمّا أريد، فأجبته بأنني أريد التحدث مع الأستاذ زهدي الصباح. قال لي إنه طار اليوم إلى الكونغو ضمن عمله الصحافي في «اليونايتد برس». فوقع الخبر عليّ كالصاعقة وانزعجت للغاية. فقال لي: يمكنك أن تخبرني أنا. أجبته بحدّة: لا، أنا لا أخبر أحداً إلا الأستاذ زهدي مباشرة، فهذا الشيء يخصّني ويخصّه فقط. عندها كشف لي هويته قائلاً: أنا منفذ عام منفذية عمان العامة. وقفت وأدّيت له التحية الحزبية. فدعاني لشرب القهوة، قائلاً إنه سيرافقني إلى مقصدنا. وعند الانتهاء ذهبنا إلى نفس البيت الذي كنت أدور حوله، ودخلت إلى هناك لأجد الرفقاء إميل رعد(8) ويوسف المعلم(9) وجورج صليبي. وكان الرفيق عبدالله قبرصي قد خرج قبل وصولنا بقليل. وكان هناك أيضاً الرفيق علي غندور وعدة رفقاء آخرين لا أذكر أسماءهم.
بعد السلام والتعارف، سألوني عن الهدف من زيارتي فأعطيتهم الرسالة، ولمّا قرأوها وجدوا فيها الكثير من التشاؤم. قالوا لي: لماذا ينظر الرفيق جوزف بنظارة سوداء إلى شؤون الحزب، فالأمور ليست كما يراها. وأخذوا بإعطائي المحاضرات والعظات، وطلبوا مني أن أُبلغ الرفيق جوزف بضرورة نزع النظارة السوداء ووضع النظارة البيضاء… وغير ذلك من الأمور الحزبية. وعندما قدّمت الرسالة الأخرى إلى الرفيق جورج صليبي، استغرب وسألني من هو المرسل؟ فأخبرته أنها من (ج. س.) الذي يزعم أنه يرسل العديد من الأشخاص ليتوظفوا بالجيش الأردني. فقال لي الدكتور صليبي إنه يريد أن يسلّمك لقوى الأمن بهذه الرسالة. وعندما أعدت سؤال الدكتور صليبي عن مدى معرفته بالمرسل، ردّ بسيل من الشتائم على هكذا اشخاص مدّعين ومنافقين.
قال لي الرفقاء إنهم في هذه الحالة لا يمكن أن يرسلوا معي رسالة جوابية خطية. فقلت لهم إنّ ضيعتي ينطا تقع على الحدود، ويمكن أن أنزل قبل حاجز الأمن العام وأتسلّل مشياً بالأحراش وأكون في بيتي خلال نصف ساعة، فلا مانع من حمل رسالة خطية. وكان الجواب أنهم متأكدون من أن رسالة (ج. س.) هي لتسليمي عند العودة، وفور دخولي إلى لبنان سيتمّ القبض عليّ. ولكنهم سيعطونني رسالة شفهية. فتجادلت معهم بحجة أن ذاكرتي ضعيفة، فقالوا لي إنّ ذاكرتك غير ضعيفة ولديك سبعة أيام لتحفظ الرسالة عن ظهر قلب. وهكذا كان.
ورجعت إلى بيروت لألتقي الرفيق جوزف مساء يوم الخميس، أي بعد أسبوع على تكليفي بالمهمة. وعندما وصلت إليه صرخ بي: «أما زلت هنا؟» فقلت له لا، بل ذهبت وعدت. ففرح كثيراً، وأخبرته بما حدث معي في الأردن، وطلب مني أن أقطع علاقتي مع (ج. س.). فقلت له إني ذاهب إليه لإحضار الرفيق غطاس، وسنعمل لتشكيل نواة عمل حزبي مع الرفيق جوزف، وكذلك الرفقاء توفيق الحايك(10) وملحم الغاوي(11) وعبد المجيد محيو(12). وكلفني الرفيق جوزف بالذهاب إلى مكسة على مدخل البقاع لدعوة الرفيق شفيق راشد(13) أيضاً. وصلت إلى حانوت سمانة قرب مدرسة البلدة، وكان فيها رجل عجوز، فطلبت منه بعشرة قروش البسكويت والراحة. وأخذت بسؤاله عن المدرسة، فحسبني مفتشاً تربوياً وراح يمتدح الأستاذ شفيق ويصفه بأنه ممتاز ولا مثيل له. نزلت إلى المدرسة حيث قابلت الأستاذ شفيق وأخبرته أنني من قِبل الرفيق جوزف، وهو يدعوه مساءً إلى بيروت لعقد اجتماع، فلم يتردّد على الإطلاق.
أدرك الرفيق جوزف أنني رجل المهمات بالأساس، فكان يقوم بإرسالي إلى الأماكن الحساسة والأعمال المستعصية. وعندما يحتاجني يتصل بي مباشرة بعد أن توظفت بالمصنع عند الرفيق عبد المجيد محيو. وكان يخاطبني قائلاً: «ميشال (وكان هذا اسمي الحركي) أريدك ضروري». فأقول له أراك بعد العمل، فنلتقي ليكلفني بالمهام المطلوبة.
وهكذا استأنفنا العمل الحزبي، اصطحبني الرفيق جوزف إلى رومية حيث عرّفني إلى الرفيق (ج. ح.)(14) وكنت أجمع الشباب الأشدّاء بالغرب والغرب الساحلي مثل الرفيق شاهين عبد الخالق(15)، وكان عنده سيارة، لنقوم بالجباية المالية من الرفقاء. وكان هناك توزيع للأدوار، فأنا لا أسأل الرفيق توفيق الحايك أو الرفيق شفيق راشد ماذا يعمل، فلكل واحد منّا دوره ووظيفته بكامل الانضباط والوعي. فقط كنت أسأل أنا عن نفسي وما هي مسؤوليتي. واستطعنا في خلال ستة شهور من إعادة تنظيم العمل بين القيادة والرفقاء وفروع عبر الحدود. وكانت تُعقد كل أسبوعَين اجتماعات اللجنة السياسية للحزب، التي لا أعرفها شخصياً، لكني كنت قد عرفت أنّ الرجل الخفي في بيروت هو عبود عبود، وكان معروفاً فقط من قِبل الرفيق جوزف. وطلب مني ما يزيد عن الخمس مهمات في البداية للذهاب إلى عمان لتوصيل الرسائل ذهاباً وإياباً من دون أن أعلم فحواها. وكانت لديّ طريقة لإخفاء الرسالة بالحزام لا يدري عنها أحد، وكنتُ أتحدّى الرفقاء والأمناء بأن يفتشوني ليعثروا عليها.
رحلة جوزف إلى عمان
في مشواري الأخير إلى الأردن أبلغني المسؤولون بأنّ الرسائل لم تعد تنفع. فقد تشكّل مجلس قيادة مؤقتة في لبنان وآخر في الأردن، ويجب أن يجتمع الرفقاء مع بعضهم للتنسيق، ولذلك يتوجّب على الرفيق جوزف أن يأتي إلى عمان. أبلغت الرفيق جوزف، فطلب مني مرافقته للأردن، فأعلمته أنه لا يستطيع الذهاب، لكنه أصرّ. قلت له إنّه لا يستطيع التحمّل. فقد كان وزني 64 كيلوغراماً في ذلك الوقت وأستطيع المشي بالثلوج لساعات، بينما الرفيق جوزف ممتلئ الوزن ورجله مكسورة وأُجريَت له عملية بالقلب ويعاني من وجع في الظهر! لكنّه أصرّ على الذهاب معي من دون المرور بحواجز الأمن العام، أي سيراً عبر الجبال.
تجهّزنا بجزمات كاوتشوك للثلج، واستعرت من عمّ لي سترة واسعة من الجلد. وعند ساعة الصفر انطلقنا إلى قرية ينطا. أوصلنا الرفيق سامي شقيق الرفيق جوزف بسيارته الفوكس فاغن إلى أبعد نقطة يمكن أن تصل إليها السيارة، ومن هناك نعبر مشياً على الأقدام الحدود إلى الجانب الشامي (الرفيق سامي نفّذ معي أكثر من مهمة). ثمّ يلاقينا الرفيق سامي بالسيارة بعد أن نقطع الحدود، واتفقنا معه أنه إذا سبقنا عليه أن ينتظرنا عند مدخل الوادي، وإذا سبقناه نحن سنترك له إشارة حجرَين معمّرين بطريقة خاصة على جانب الطريق يلاحظهما هو فقط. وكنّا رفعنا قليلاً مصباح السيارة لجهة اليمين فنستطيع ملاحظتها عن بُعد من خلال ضوئها لنميّزها عن باقي السيارات.
كنا بحاجة لساعة من المسير تقريباً. كانت الثلوج تكسو الجبل، ورحت أمشي لأمهّد الطريق أمام الرفيق جوزف، ومع كلّ خطوة رجلاه تغوصان لحدود الركبة من كثافة الثلج في ذلك الوقت. وكنت أسبقه بمسافة، وعندما يحصّلني يجدني منتظراً أدخن وأحتسي الكونياك وأغني العتابا والميجانا. وفور وصوله يصرخ بي: «أنت تغني في هذه الظروف؟».. ثم نتابع سيرنا الشاق. لاحظ الرفيق جوزف أثناء مرورنا أسلاكاً شائكة، فسألني عنها. أخبرته أنه حقل ألغام مضادّة للدروع، والثلج فوقه متران، وهو بحاجة إلى وزن طن لينفجر فلا يأبه بذلك. استطعنا تخطّي حقل الألغام، وتجاوزنا الصخور الصعبة المغطاة بالثلوج والتي لا نستطيع تمييزها لتصبح مثل الأفخاخ، وأي سقطة تؤدي إلى الكسر حتماً. وبعد أن قطعنا نصف المسافة تقريباً شعرت بأنه أُصيب بتعب شديد، فطلبت منه أن يجلس ليرتاح قليلاً. لاحظت أنّ هناك قناة مياه مجمدة لا تغطيها الثلوج، فقمت بفتح طريق ليمشي عليه الرفيق جوزف من دون أي عناء ومن دون أن يغرق بالثلج حتى ركبتَيه. وكنت أمشي حوالى 200 متر ثم أنتظره. وقد لاحظت عليه الإعياء والتعب الشديدَين، فأخبرته أنه لم يبقَ أمامنا سوى أن نقطع ضفة ذلك النهر لنصل إلى الطريق العام. وسألته ما إذا كان يستطيع أن يتحمل ذلك لأنني لا أستطيع حمله، فأشار عليّ بالمتابعة. وهكذا عبرنا إلى الضفة الأخرى ووصلنا إلى الطريق العام حيث وجدنا الرفيق سامي بانتظارنا. تقدّم الرفيق سامي بسرعة لأصعد أنا إلى المقاعد الخلفية والرفيق جوزف في المقعد الأمامي، وفجأة أصابته نوبة ضيق تنفس وقشعريرة برد. فأخذنا نفرك جسمه ليدفأ، فشعر بعدها بالتحسّن التدريجي. ثمّ وصلنا إلى ميسلون، وكنت أسأله عن وضعه فيجيبني بأنه بخير وأنها أزمة ومرّت.
أكملنا إلى الشام، فطلب منّا أن نذهب إلى مطعم لتناول الطعام وأخذ قليل من الراحة قبل أن نكمل إلى الأردن. أنا أعرف مطعماً بالمرجة يُدعى مطعم الحاج سحلول، وكنت دائم التردد إليه فبات معظم العاملين فيه يعرفونني. طلبنا الغداء وطلبت زيادة صحنا من الشوربا بقيمة 15 قرشاً سورياً، فعاتبني الرفيق جوزف على ذلك. غضبت حينها، وقلت له بنبرة قاسية إنني سأسدّد الثمن من جيبي وسوف أرجع إلى بيروت ويمكنكما أن تُكملا من دوني. فنحن نمشي منذ أكثر من ساعتَين ونقطع الجبال سيراً، وليست مشكلة إن طلبنا خمسة عشر قرشاً زيادة فهي لن تكسر الحزب! أجابني بهدوء: لا تزعل، فيجب أن توفّر على الحزب. صحن الشوربا هذا لا لزوم له، يجب أن نكون ملتزمين ونضحّي في سبيل الحزب.
أكملنا المسير ووصلنا إلى درعا. قلت لسامي أن يسجّل السيارة بالجمرك ويعطيني التذاكر، وكانت الساعة قرابة الحادية عشرة والنصف ليلاً. أخذت التذاكر وسجلتها بعد أن مازحت العسكري الذي ارتاح لنا، فطلبت منه أن يعجّلنا لأن مشوارنا طويل إلى القدس والوقت أصبح متأخراً. فعجّل لنا التحرّك، وقمت أنا بفتح العامود الخشبي بعد أن طلبت من العسكري أن يبقى مرتاحاً. وفي الرمثا، عند الحدود الأردنية، سجّلنا الدخول النظامي.
وصلنا إلى عمان، وعقد الرفيق جوزف اجتماعاً مطوّلاً مع المسؤولين بينما كنا نحن ننتظر في جبل التاج، حيث استأجر الرفقاء شقة سكن للرفيق إسماعيل الخنسا(16) من الشام، ووضعوا فيها العديد من الأسرّة العسكرية التي تثبّت فوق بعضها البعض. وعندما كنت أزور عمان، أو يزروها أي رفيق آخر من لبنان، كانت هذه الشقة مكان إقامة لنا.
هوامش
1 ـ جوزف رزق الله، سيرة مناضل قومي (1926 – 1970) صدر عن «دار الفرات»، من إعداد الأمين أحمد أصفهاني والرفيق ناصيف رزق الله.
2 ـ أول من عرفت من أبنائها الأمين، المميّز دائماً بالالتزام القومي الاجتماعي، كمال الحلبي. كنا معاً في مكتب الطلبة في النصف الثاني من ستينات القرن الماضي، واستمر صديقاً وقومياً اجتماعياً ينبض بفضائل الالتزام النهضوي.
3 ـ لا أذكر بلدة «عيتنيت» إلا وأذكر معها الرفيق المناضل جميل الراسي، وأذكر ابن القرية المجاورة «باب مارع» الرفيق الشهيد طوني روكز.
4 ـ (ج. س.): هو جوزف سركيس، وقد انكشف تعامله مع المكتب الثاني.
5 ـ غطاس الغريب: من راشيا الفخار، نشط وتولّى مسؤوليات حزبية في ستينات القرن الماضي تحت اسم مستعار «بطرس». تعرّض للاعتقال أكثر من مرة. استمر في نشاطه الحزبي في كل من منفذيّتي الضاحية الشرقية والمتن الشمالي، إلى أن عاد إلى بلدته راشيا الفخار فانتخب رئيساً لبلديتها. ما زال مقيماً في بلدته.
6 ـ الأمين د. جورج صليبي: للاطلاع على النبذة المعممة عنه، الدخول إلى موقع شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية www.ssnp.info.
7 ـ الأمين زهدي صباح: كما آنفاً.
8 ـ الأمين اميل رعد: كما آنفاً.
9 ـ الأمين يوسف المعلم: مراجعة الموقع المذكور آنفاً.
10 ـ توفيق الحايك: نشط جيداً في ستينات القرن الماضي، وكنّا معاً في الكثير من العمل الحزبي. اتخذ اسم «أحمد» في تلك الفترة. تعرّض للملاحقات والاعتقالات. عرفت أيضاً شقيقه الرفيق غسان (أوردتُ عنه في سيرتي ومسيرتي وفي عدد من النبذات – مراجعة الموقع المذكور آنفاً).
11 ـ ملحم غاوي: نشط جيداً في الوسط الطلابي في الأشهر التي تلت الثورة الانقلابية. تعرّض للملاحقة فالاعتقال. غادر إلى مدينة «تاكورادي» في غانا، وفيها وافته المنية.
إليها غادر شقيقه الرفيق روجيه، وما لبث أن أُصيب بحالات من الشلل استدعت عودته إلى لبنان لسنوات عدّة إلى أن فارقته الحياة.
مراجعة ما نشرت عنه على الموقع المذكور آنفاً.
12 ـ عبد المجيد محيو: تولّى مسؤولية منفذ عام المتن الجنوبي، وكان من بين المنفذين العامين الذين قاموا بالحركة الاعتراضية في سبعينات القرن الماضي تحت اسم «حركة المنفذين العامين». هو وشقيقه الرفيق خليل محيو مناضلان قوميان اجتماعيان. مراجعة الموقع المذكور آنفاً.
13 ـ شفيق راشد: نشط في الستينات عضواً في المفوضية العامة، مسؤولاً عن البقاع بِاسم كميل. عرفته جيداً وكنت على علاقة صداقة ومودة معه إلى أن غادر إلى الأردن فإلى أوتاوا، حيث استقر إلى أن وافته المنية. مراجعة الموقع المذكور آنفاً.
14 ـ هو الرفيق جورج حنكش من بلدة رومية.
15 ـ شاهين عبد الخالق (مُنح لاحقاً رتبة الأمانة) من الرفقاء المناضلين المميّزين. تولّى مسؤوليات محلية في منفذية الغرب ناظراً للتدريب فمنفذاً عامّاً. مراجعة ما نشرت عنه عند رحيله على الموقع المذكور آنفاً.
16 ـ إسماعيل الخنسا: اتخذ اسماً مستعاراً (سمعان نخول) تمكن بواسطته أن يغادر إلى لندن حيث أقام لسنوات، مؤسساً مطعماً وناشطاً حزبياً إلى أن عاد إلى بلدة «كفرحزير». أوردت عنه عندما تحدثت عن الرفيق عباس خراسان في لندن والمكتب البريدي المُنشأ في الستينات لتأمين البريد الحزبي بين الرئيس المؤقت للحزب في حينه، الأمين عصام المحايري، وفروع المهجر وبالعكس.
الرفيق رفعت عسيران، وكان أقام في لندن في تلك المرحلة وشارك في الترتيبات الحزبية، كان على معرفة جيدة بالرفيق إسماعيل.