مرويات قومية

جانب من حياة سعاده في الأرجنتين والنابغة السوري عبود إبراهيم

نقتطع من الجزء الثاني من مؤلف الأمين نواف حردان «سعاده في المهجر» المقاطع التالية لما فيها من فائدة على الصعيدين التاليين:
– لمزيد من التعريف عن فترة إقامة الزعيم في الأرجنتين.
– الإضاءة على النابغة السوري عبود إبراهيم سعاده.
المعلومات أدناه وردت في الصفحات 444 – 450 من المؤلَّف المُشار إليه آنفاً.
ل. ن.
*
في 10 كانون أول غادر (سعاده) فندق «لس كوكس» إلى فندق آخر، حيث لقيه المواطن عبود إبراهيم سعاده، صديق الدكتور خليل سعادة، القديم، فيدعوه للإقامة في منزله في مدينة كوردوبا (قرطبة) القريبة.. فيقبل الدعوة.
والسيد عبود سعاده من بلدة قارة – النبك في الجمهورية الشامية.. غادر بلده وهو في العشرين من عمره، فوصل الأرجنتين عام 1918 وأقام في مدينة «كوردوبا» حيث بدأ يتعاطى التجارة فنجح فيها نجاحاً كبيراً.. وصار من الأغنياء.
كانت علومه بدائية يُحسن القراءة والكتابة فقط، ولكنه كان ذكياً طموحاً، فأقبل على المطالعة والدرس حتى توفرت لديه ثقافة لا بأس بها.
وكان يميل للهندسة والعلوم الكهربائية، فراح يدرسهما على نفسه حتى ألمّ بأسرارهما.
عرف الدكتور خليل سعاده، والد الزعيم، بعد مجيئه الأرجنتين وإنشائه مجلة «المجلة»، فأصبح من أصدقائه وأكبر المعجبين به. وعندما سمع بأنّ نجله أنطون أنشأ حزباً في الوطن، دعاه الحزب السوري القومي، وأنّ السلطات الفرنسية سجنته واضطهدت معاونيه، تحمّس كثيراً وصار يؤيد الحزب دون أن يعرف شيئاً كثيراً عنه.
وعندما علم أنّ أنطون سعاده قدم الأرجنتين، قصَد بوينس آيرس وزاره في مكان إقامته، وأعلن تأييده له ولحزبه ودعاه لزيارته في مدينة كوردوبا.
كان في الستين من عمره عندما عرف الزعيم، ولكنّ ذلك لم يمنعه من أن يصبح من أكثر المناصرين له إخلاصاً ووفاءً وحماساً..
كان قد بلغ في درسه الهندسة والكهرباء درجة عالية.. إلى أن خطر له أن يبني منزلاً فريداً من نوعه، فتوصّل بعد تجارب عديدة وجهود كبيرة إلى بناء منزل كبير فخم، يدور بكلّ محتوياته على عامود من الفولاذ، فيتعرّض أي جنب من جوانبه لنور الشمس أو للظلّ، وذلك بضغط زر كهربائي، فتتحرك جدرانه وأبوابه ونوافذه دفعة واحدة من الشرق إلى الغرب أو الشمال أو الجنوب، بحسب رغبة صاحبه.
الأمين نواف حردان
بقي عبود سعاده يعمل ست سنوات حتى تمكّن من إنجاز مشروعه الجبار، ببناء ذلك البيت العجيب، وعندما تمكّن من تحقيق ذلك، وقف أهالي مدينة «كوردوبا» مدهوشين مذهولين متعجبين، أمام ذلك المنزل الجميل الفخم الواسع، الذي يحوي قاعة كبيرة وغرفاً عديدة وحمامات ومطابخ، وتحيط به حديقة جميلة وارفة الأشجار، والذي يدور على محوره لدى حركة صغيرة من صاحبه، دون ضجيج.
وبعد أيام قليلة، احتفلت مدينة كوردوبا يتقدم أهاليها حاكم الولاية ورئيس البلدية وكبار رجال الحكومة، بتدشين ذلك البيت.. وألقى الحاكم خطاباً، أشاد فيه بعبقرية عبود سعاده، التي تجسّد فيها ذكاء شعبه السوري، أمام خفق الأعلام الأرجنتينية والسورية.
في هذا البيت حلّ الزعيم ضيفاً عزيزاً مكرّماً.. في 15 كانون أول، وبدأت وفود الجالية السورية تأتي لزيارته والترحيب به في اليوم التالي، بعد أن انتشر بينها خبر وصوله إلى بيت عبود سعاده.
في اليوم الثالث دعا المضيف ضيفه إلى مزرعة له قريبة من المدينة، مع بعض السوريين، لتناول «الشوراسكو» في الهواء الطلق وأحضان الطبيعة.
ورأى الزعيم في المرعى أمام المزرعة بعض الخيول العربية الأصيلة ترعى، فاسترعى ذلك اهتمامه وسأل مضيفه عنها فأجاب:
كنت في الوطن قبل مجيئي الأرجنتين، أتوق لاقتناء جواد أو فرس عربية أصيلة، كالتي أراها عند أحد (البكوات) الذي كان يقطن بالقرب من قريتي، إلا أنّ ذلك لم يكن متيسراً لي لضيق ذات يدي. وعندما رزقني الله وتحسنت أحوالي بعد جهاد مرير هنا في هذه البلدة، اشتريت هذه المزرعة ومراعيها، فقط لكي أربي فيها خيولاً عربية كالتي تراها.
أحسنت.. أحسنت.. وهل تسمح لي بركوب أحد هذه الخيول؟
أوتحسن الركوب يا حضرة الزعيم؟
لقد أتقنته في مطلع شبابي في البرازيل.. ومنذ أيام تمرّنت عليه من جديد في تلول «كوردوبا».
حسناً إذاً.. سأنادي سائس الخيول ليختار لك أفضلها ويأتي به.
بعد قليل وصل الراعي يجرّ جواداً أسود مع نجمة بيضاء في جبينه، تبدو عليه مظاهر الأصالة، يسير متبختراً تياهاً.. وقدّمه للزعيم، الذي قفز إلى ظهره برشاقة وخفّة، فسار به نحو المرعى المنبسط الفسيح.
وبعد دقائق قليلة.. رأى عبود سعاده وضيوفه الزعيم على صهوة ذلك الجواد، كأنه يطير ويسابق الرياح.. ففوجئوا وانذهلوا وازداد إعجابهم به.
بعد نصف ساعة تقريباً، رأوا الجواد يقترب خبباً من حيث كانوا، وعلى صهوته الزعيم تلوح على ثغره ابتسامة ساحرة… فترجّل عندما وصل، وسلّم الجواد إلى الراعي الذي عاد به إلى المرعى.
وتحلّق الحضور حول الزعيم يهنئونه ويمتدحون براعته بالركوب، وخفته ورشاقته.
ثم عندما حان موعد الغداء، جلسوا على الأعشاب الخضراء أمام بيت المزرعة في دائرة تحيط بالنار المشتعلة التي كانت قد أنضجت اللحوم الطرية، وراحوا يقطعون منها بالسكاكين ويأكلونها، ويشربون نبيذاً أرجنتينياً معتقاً.
وانتقلوا عندما انتهوا من الطعام إلى شرفة المنزل، فجلسوا يصغون للزعيم، يجود عليهم بأحاديثه الشيّقة وبلاغته المعهودة.. إلى أن تناول أحد الحضور من جيبه جريدة وسلّمها للزعيم وقال له:
انظر يا حضرة الزعيم، في هذه الجريدة إعلان من بلدية المدينة، يقول فيها إنّه ستجري بعد ثلاثة أيام مباريات كبيرة في ملعبها، في القفز والركض وتسلّق الجبال والمبارزة بالسيوف وركوب الخيل.. يشترك فيها من يشاء من الأرجنتينيين والجاليات الأجنبية من إسبانية وإيطالية وبورتغالية وغيرها.. ومن المؤسف جداً أنه ليس بيننا نحن السوريين أحد يشترك في هذه المباريات، لكي يرتفع علم بلادنا بين أعلام الدول التي سيشارك أبناؤها فيها.
متى ستجري هذه المباريات؟ – سأل الزعيم.
بعد يومين فقط.
هل يمكنك تسجيل اسمي بين أسماء المتبارين في ركوب الخيل.
أنت يا حضرة الزعيم؟
نعم.. فأنا أحسن الركوب جيداً.. وسواء فزت أم لم أفز.. فمن الضروري أن يشارك أحد من السوريين في هذه المباريات.. لكي لا يختفي علم بلادنا من بين أعلام البلاد الأخرى.
حسناً حضرة الزعيم.. كما تشاء.. سوف أذهب مساء اليوم وأسجّل اسمك في البلدية في عداد المتبارين.
السباق
في الموعد المعيّن لإجراء المباريات، توجّه الزعيم يرافقه السيد عبود سعاده ونجله الأكبر خليل(2)، وبعض السوريين إلى الميدان الذي ستجري فيه، والذي كان قد تجمهر على جنباته الألوف من الناس، وارتفعت في صدره منصة جلس عليها حاكم الولاية ورئيس البلدية وقائد الجيش، وعدد من النواب وكبار الموظفين، تخفق فوقهم الأعلام الأرجنتينية إلى جانب أعلام البلاد الأجنبية التي يشارك أحد أبنائها في المباريات.. وكان العلم السوري(3) يخفق بينها معتزاً لأن أحد أبنائها أنطون سعاده سوف يكون في عداد المتبارين.
وبدأت المباريات عندما أعطى حاكم الولاية الإشارة لذلك، فجرى أولاً سباق في القفز.. ثمّ تلته مباريات في الركض والمبارزة بالسيوف وغيرها.. ففاز من فاز من المتبارين، من أرجنتينيين وإسبان، ولم يفز أحد من الإيطاليين والبورتغاليين.
سعاده الفارس الأول
وأخيراً جاء دور سباق الفرسان على خيولهم، وكان سعاده بين أربعين فارساً منهم، على جواده الأسود العربي الأصيل، الذي كان قد امتطاه في مزرعة عبود سعاده منذ يومين، وكان يصهل صهيلاً عالياً ويضرب الأرض بحافريه الأماميين، متحدياً الخيول الأخرى، التي لم تكن عربية مثله.
وانطلقت تلك الخيول كالسهام، عندما أعطى حاكم الولاية الإشارة، وتجاوب في المكان صوت نفير.
انطلقت تتزاحم تحثها صياحات فرسانها ومهاميزهم.. رشيقة خفيفة تضاعف سرعتها كلما تقدمت كأنها تودّ أن تطير لتبلغ آخر الميدان.
ولم تمرّ دقائق قليلة حتى بلغت آخر الميدان، ثم انفتلت عائدة بعضها وراء بعض، وأمامها جواد سعاده العربي، كأنه يسبح طائراً أمام الصياح والغبار والزحام وهو على صهوته كالطود، منحنياً متشبثاً بعرفه، يغرس في خاصرتيه مهمازيه، وما لبث أن بلغ مكان الانطلاق في أول الميدان في مقدمة الفرسان، أمام هتافات السوريين التي انفجرت كالرعد وتصاعدت تشقّ عنان الفضاء.
وزّع الحاكم بعد ذلك الجوائز على الفائزين، وكان سعاده بينهم، أمام تفاقم سرور الجالية السورية وفرحها، وارتفاع رؤوس أبنائها اعتزازاً وفخراً.
خطاب في كوردوبا
في اليوم التالي زار الزعيمَ وفدُ الجمعية الإسلامية، يتقدمه رئيسها السيد إبراهيم أحمد صالح يرافقه السيد يوسف رحمون والأديب حسين سكرية، فدعوه لحضور حفلة مدرسية تقيمها المدرسة السورية لأبناء «الفاكهة» قضاء بعلبك.
قبل الزعيم تلك الدعوة وحضر تمثيل رواية «فلسطين الشهيدة» تأليف الأديب سكرية، وعندما انتهى التمثيل تعالت أصوات الحضور طالبة من الزعيم أن يتكلم، وصعد المنبر السيد سكرية وأبلغه رغبة الجمهور فلبى الطلب.. واعتلى المنبر بين وجوه باشة ورؤوس مشرئبة وأياد يدوّي تصفيقها في القاعة، وعندما ساد السكون بدأ يتكلّم واستمرت خطبته نيّفاً وساعة، أنقل منها هنا ما تمكّن مراسل «الزوبعة» من التقاطه منها ونشره فيها:
« أيها السوريّون
يسرني جداً أن أرى في هذا الوسط اختلاجات هي دليل حياة شعب، له كبقية الشعوب الراقية مكان تحت
الشمس.
« إنّ روايتكم هذه تمثّل نهضة مباركة فيها إرادة حياة جديدة، ووراء هذه الإرادة قوة الأمة السورية التي لها من
تاريخها المجيد ما يدفعها إلى الطموح والرغبة بأن لا تتنازل عن حقوقها الطبيعية والسياسية لأية قوة غاشمة.
هذه الرواية تدلّ على أن عوامل الحياة لا تزال تتمثّل فينا نحن السوريين، وأنّ هؤلاء الأطفال الذين قاموا بتمثيلها هم أبناؤنا، ولذلك كنت أودّ أن أرى مجموعنا كله يحيط بأطفالنا في هذه السهرة.
لا تكاد تجري حفلة من حفلاتنا، حتى يجري فيها اسم الوطن والمصير القومي. بقي علينا أن نجد طريق السير، ويجب أن نجده ونجتازه. إنّ الاتحاد لا يصير بمجرد أن نقول لنتحد. كلّ اختلاف بين صفوف أمتنا له أسباب، وكل اتحاد يجب أن يكون له حركة في صلب الجموع. وهذه الحركة هي حركة النهضة السورية القومية الاجتماعية، التي فعلت دون مناداة وحققت الوحدة في الصفوف القومية الاجتماعية. يجب أن تزول الانشقاقات المدنية وتزول على قاعدة المساواة في الحقوق والواجبات.
« الأمة السورية ليست ضعيفة كما ينادي دُعاة الرجعة وفاقدو الثقة. فضعفها في القرون الأخيرة كان متأتياً من انشقاق الأمة السورية بعضها على بعض، وما انخذل شعب إلا وكان متفرقاً. إننا نجعل من قوميتنا ديناً جديداً وديناً اجتماعياً، يختلف عن الأديان السابقة بأنه لا يهبط من فوق إلى تحت، بل يصعد من تحت إلى العلوّ.
إنّ الأمم هي في تكاتفها وضمّ شتاتها، وما كانت القوة الروحية إلا الدعامة الكبرى لهذا التكاتف، لأنّ هذه القوى تعطي إيماناً بالحياة، وكل شعب يخسر إيمانه بذاته كان من الخاسرين.
« إنّ الشعوب تشعر بقوة إيمانها وروحها، وسورية الموحدة القوية وروحها، تقدر أن تكون أقوى كثيراً من فنلندا مع روسية مثلاً. وكم من فئة قليلة غلبت فئة كبيرة. ولكن الغلبة لا تحدث إلا بالاجتماع على الحق. نحن أمة فيها قوة للعطاء أكثر مما الأخذ، ولكن ينقصنا الاعتماد على النفس، وهذا ما يسعى في سبيل تعميمه والحصول عليه الحزب السوري القومي الاجتماعي».
خطاب ثانٍ
في 26 كانون أول أقامت الجالية السورية في كوردوبا (قرطبة) مأدبة كبيرة للزعيم، ألقى فيها خطبة استمرت ما يقارب الساعتين، تمكّن مراسل «الزوبعة» من التقاط الفقرات التالية منها ونشرها في عدد الزوبعة الذي صدر في أول شباط 1941.. وكانت التالية:
« أيها السوريون، أيها المواطنون
إنها لفرصة سعيدة هذه الفرصة التي نجتمع فيها الآن لنتعارف ونتفاهم تفاهماً صحيحاً خالياً من الرياء والمحاباة،
اللذين زيّنا كل حفلة تقريباً من حفلات العهد اللاقومي الماضي. فكلّ حفلة من تلك الحفلات كانت مظهراً من مظاهر الرياء والمحاباة تستر وراء مظاهرها الخلابة غايات المجتمعين المتنازعة المتضاربة.
إني أعلم أنّ هذا الاجتماع، وإن قال الخطباء إنّه دليل شعور واحد في الجالية نحوي ونحو رسالة الحزب السوري القومي الاجتماعي يحمل وراء مظاهره قسماً ولو قليلاً من بقايا نفسية ذلك العهد القديم، فإني أشعر بالصلة بين قلبي وقلوب قسم من جالية كردبة، وأشعر كذلك أنه لا صلة في الشعور بين قلبي وقلوب قسم آخر من مواطني هنا.
« إني أشعر بالذين هم معي وبالذين ليسوا معي منكم، وإني أصارحكم القول لأني أريد أن أضع حداً في هذه الجالية كما وضعت حداً في غيرها للتدجيل والرياء، وإنّي أقول هذا القول الصريح لأني لست في حاجة إلى المظاهر الفارغة، ولأن عملي لا يقوم على شيء من المظاهر الخداعة.
إني جعلت خطة رئيسية لعملي، أن أكتفي بالرجال والنساء السوريين الذين يلبون الدعوة القومية الاجتماعية بجدية وبعزيمة صادقة ونفوس تجرّدت من المآرب النفعية.
لم آتِ إلى داعياً إلى الحق، فمن غضب منكم لأني لا أميل مع أهوائه فليغضب، فإني لا يهمني من يرضى منكم عني ومن لا يرضى فلست طالباً غير رضى الحق الذي أعرفه والذي جئت أدعوكم إليه.
ولو أني كنت أقصد الدعوة لغير الحق أو لما فيه نفعي الحاضر لكان مجموع الجالية كلّه صديقاً لي، لأني ما كنت لجأت إلا إلى كسب رضاكم ومتابعة ميولكم وأهوائكم وإقرار عنعناتكم، فأكون مع المسيحي مسيحياً ومع المحمدي محمدياً ومع الدرزي درزياً ومع الكافر كافراً ومع المؤمن مؤمناً. وكنت أقول لكم إنكم كلّكم على الحق، وكنت رأيت انشقاقكم اتحاداً وخمولكم نهضة وعيبكم كمالاً وأنانيتكم غيرة.
« إنكم سمعتم من الذين يودون كسب مودتكم بالنفاق والزندقة مطاعن كثيرة في الحزب السوري القومي الاجتماعي.
وكثير منكم قرأوا مبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي، ورأوا أنه لا وجه للطعن فيها ولكنهم يحتاجون إلى تصريح يقوي عقيدتهم.
إنّ الذين حاربوا النهضة السورية القومية الاجتماعية هم فريقان من الرجعيين! فريق الضاربين على وتر الجامعة العربية – الإسلامية (المحمدية)، وفريق الضاربين على وتر الانفصال اللبناني الماروني. والأولون يكذبون على الناس قائلين إنّ الحزب السوري القومي الاجتماعي عدو للعرب والإسلام، والآخرون يقولون إنّ الحزب السوري القومي الاجتماعي عدو للبنانيين والمسيحية. وكل من رجع إلى مبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي ووثائقه الرسمية يتأكد له أنّ الفريقين يخدعون الناس وينافقون في الوطنية.
« ومع ذلك فإني أشعر أنكم ترغبون وتتوقعون مني تصريحاً عن موقف الحزب من العالم العربي ومن لبنان. ففي المسألة الأولى أقول إنّ الحزب السوري القومي الاجتماعي يعدّ سورية أمة من أمم العالم العربي، وقد صرّحت في أول آذار الماضي أنه متى كانت المسألة مسألة مكانة العالم العربي كله وكرامته، فنحن جبهة العالم العربي وسيفه وترسه. ولكننا نحسب ونؤكد أن الوجهة القومية الصحيحة تتطلّب منّا أن نفهم سوريتنا وأن نعمل ضمن نطاق شعبنا.
إنّ العالم العربي لا يمكنه أن يستفيد من سورية منقسمة على نفسها مجزّأة بين الأحزاب الدينية ورازحة تحت نظام اقتصادي – سياسي فاسد. فالنهضة السورية القومية الاجتماعية تعمل لتوحيد سورية وتجعل العصبية القومية تنتصر على العصبيات الدينية المتنافرة لإقامة العدل الاقتصادي – الاجتماعي، الذي يؤهل سورية لأن تكون أمة حية قوية. ومتى صارت سورية ناهضة قوية كما يريدها ويعمل لجعلها الحزب السوري القومي الاجتماعي، أيوجد عاقل واحد، غير مصاب بمرض النفعية، يعتقد أو يقول إنّ ذلك يكون ضدّ مصلحة العالم العربي؟
« ولكن المنافقين الذين يحاربون الحزب السوري القومي الاجتماعي لا يهمهم ماذا يكون مصير سورية أو ماذا
يكون مصير العالم العربي. أولئك لا يهمهم سوى ما ينتفعون. وإذا كان للعالم العربي أعداء من داخله، فأولئك
هم أعداؤه وساؤوا مصيراً.
وفي المسألة الثانية أقول: إنّ الحزب السوري القومي الاجتماعي قد أوجد أساس الوحدة القومية التي تنفي جميع
الأسباب التي أدت إلى فكرة الانفصال، ولا يوجد في لبنان جنس منفصل عن الجنس السوري. وجميع الأسباب
الاجتماعية والاقتصادية تقضي بأنّ اللبنانيين هم سوريون لهم حقوق في سورية كلها، وبأنّ انفصال لبنان عن جسم الوطن السوري ليس له نتيجة غير انحطاط اللبنانيين واستضعافهم واستعبادهم.
وقد قلت وأكرر القول إنه إذا كان للشعب اللبناني أعداء من داخله، فهم أولئك الذين يقبلون الإيعاز الأجنبي بعزله وجعله تحت رحمة المطامع الأجنبية، والذين يحاربون فكرة الحزب السوري القومي الاجتماعي التي تفتح باب الحياة القومية والسيادة القومية في وطن كبير، حرّ، سعيد، أمام اللبنانيين.
« أيها المواطنون
إني وجدت في هذا البلد فئة نيّرة، صالحة منكم، إليها يعود الفضل في نشوء هذه الحركة الطيبة بينكم، فأوصيكم بالالتفاف حول هذه الفئة وباتباع صوت الحق، ولا تعطلوا أنفسكم بنجاح المبادئ التي لا تتخذ وحدة الأمة قاعدة لها. ولا تعتقدوا أنه يمكن أن تتغير حالكم ما لم تغيروا ما بأنفسكم. ولا يقولنّ أحد منكم «على الآخرين أن يسمعوا ويعوا»، بل عليكم كلكم أن تسمعوا وتعوا وتعودوا إلى الحق فتكونوا أمة واحدة قوية وتفلحوا ويأتيكم النصر».
*
وقبل أن يغادر الزعيم كوردوبا ليعود إلى بوينس آيرس، ليتابع أعماله ونشاطه، بعد أن كانت صحته قد تحسنت تحسناً جيداً، تقدّم منه عدد من شباب الجالية طالبين الانتماء للحزب، فقبل طلبهم بعد أن شرح لهم شرحاً وافياً مسهباً مبادئ الحزب وغايته، فأقسموا القسم الحزبي أمامه، وكان بين هؤلاء المنتمين الجدد الشاب خليل سعاده، نجل السيد عبود سعاده.
في 28 كانون أول.. قبل عودته إلى العاصمة بيوم، يكتب الزعيم لصديقه نعمان ضو(4)، الرسالة التالية جواباً على كتاب وصله منه:
« انتقلت منذ العاشر من هذا الشهر من «لس كوكس» إلى مكان آخر، ثم جئت مدينة كوردوبا في 15 الجاري فأنزلني ضيفاً عنده السيد عبود سعاده، النابغة الهندسي الذي يمثل ناحية من نواحي عبقرية شعبنا. وقد أحدث وجودي حركة في أوساط الجالية، فتقاطر أدباؤنا ووجهاؤها وجمعياتها للسلام عليّ، وتمكّنت من تقريب القلوب بين مختلف العناصر الدينية وغيرها، وربحت الحركة القومية عدداً من هذه العناصر. ولم يكن بدّ من وجود معاكسين ومنافقين وزنادقة، ولكن شأنهم كان ضئيلاً. وقد اُقيمت مأدبة مساء أمس في أحسن فندق في هذه المدينة. وفي هذا المساء أبرح مدينة كوردوبا إلى بوينس آيرس.

هوامش:
(1) الشوراسكو: عجل يُذبح ويقطع إلى قطعتين بعد أن ينظّف، ويملّح ثم تشك كل قطعة منه في سفافيد طويلة، وتوضع أمام النار إلى أن تنضج فيؤكل لحمه اللذيذ.. الذي يرغب الأرجنتينيون كثيراً بأكله.
(2) خليل عبود سعاده: انتمى لاحقاً، وهو الذي حكى للأمين نواف، تفصيلاً، عن قصة سباق الخيل وفوز الزعيم.
(3) لا يوضح الأمين نواف أي علم سوري تم رفعه، نرجّح أن يكون علم الكيان الشامي على اعتبار أنّ المضيف عبود سعاده من بلدة «قارة» (النبك).
(4) نعمان ضو: من بلدة «زرعون» (المتن الشمالي)، لسعاده مراسلات عديدة معه، للإطلاع عليها مراجعة الأعمال الكاملة.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى