الطريق الوحيد لحلّ الأزمة الليبيّة!
د. محمد سيد أحمد
ليست المرة الأولى التي نكتب فيها عن الأزمة الليبية فقد كتبنا كثيراً على مدار السنوات العشر الماضية، ومنذ اندلاع الأحداث الدامية في مطلع العام 2011، واليوم وصلنا إلى مطلع العقد الثالث من الألفية الثالثة وقد شهدت الساحة الليبية العديد من المتغيرات التي عقدت المشهد، وجعلت الأزمة الليبية متشعبة ومتعددة الأطراف سواء بالداخل أو الخارج، فهناك أطراف دوليّة تتحكّم في الداخل وتحركه لتحقيق مصالحها، وغالبية هذه الأطراف الدولية كانت شريكة منذ البداية في العدوان على ليبيا، وكان الهدف الرئيس لهذا العدوان تقسيم وتفتيت ليبيا وسرقة ونهب ثرواتها النفطية، لذلك حاولت هذه الأطراف الدولية التي قامت بالعدوان وأطاحت بحكم القائد معمر القذافي بخلق ظهير داخلي لها من أبناء الشعب الليبي، حتى يسهل عليها تحقيق أهدافها الامبريالية وسرقة ونهب ثروات الشعب الليبي النفطية.
وها نحن الآن قد وصلنا إلى مفترق طرق هام للغاية مع مطلع العام 2021 حيث يبحث الجميع عن حلّ للخروج من الأزمة سواء الفرقاء الليبيين بالداخل، أو المنظمات الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة، أو بعض الدول الإقليمية التي تهدّد الأوضاع في الداخل الليبي أمنها القومي كمصر وتونس والجزائر والمغرب. وهنا لا بدّ من التأكيد منذ البداية على أنّ الأزمة الليبية قد تمّ تدويلها ولا يمكن حلها بسهولة من خلال طرف واحد من هذه الأطراف الساعية للحلّ، وأنّ كلّ محاولة لا تراعي ذلك سوف يكون مصيرها الفشل وسوف يؤدي ذلك لإطالة أمد الأزمة، ومن أجل الوصول لحل حقيقيّ لا بد لأي محلل سياسيّ أن يقوم بعملية تفكيك للمشهد المعقد لعناصره الرئيسيّة ثم إعادة تركيبه مرة أخرى بالطريقة التي يمكن أن تساعدنا في الوصول لحلّ مقترح للأزمة، مع الوضع في الاعتبار كلّ المتغيّرات التي يمكن أن تعيق الحلّ المقترح.
ولتفكيك المشهد لا بدّ من العودة سريعاً إلى مطلع العام 2011 حيث تعرّضت ليبيا إلى مؤامرة حقيقيّة بهدف تقسيمها وتفتيتها والاستيلاء على ثرواتها حيث أطلقت الولايات المتحدة الأميركية إشارة البدء للربيع العربي المزعوم ، وللآسف الشديد قامت الجامعة العربية المزعومة بالموافقة على قرار غزو ليبيا بواسطة الآلة العسكرية الجبارة لحلف الناتو، التي تصدّى لها الشعب الليبي وجيشه وقائده لمدة ثمانية أشهر كاملة حتى استشهد معمر القذافي وسادت الفوضى البلاد نتيجة انتشار الميليشيات الإرهابيّة المسلّحة التي جلبتها قوات الناتو من كلّ أصقاع الأرض.
وفي ظلّ هذه الظروف بدأ شبح تقسيم وتفتيت ليبيا يلوح في الأفق، ففي ظلّ الحرب الأهلية وانتشار المليشيات المسلحة لم تعد هناك دولة ليبية حقيقية أو نظام سياسي واحد بل أصبحت على الأرض قوتان مدعومتان من الخارج وكلهما شارك فى المؤامرة على ليبيا تحت مسمّى ثورة 17 فبراير 2011 حيث شاركا فى العمل السياسيّ والعسكري لإسقاط نظام معمر القذافي، واحدة في الشرق (مقرها بنغازي) والثانية في الغرب (مقرها طرابلس).
الأولى يقودها القائد العسكري خليفة حفتر أحد القادة المعارضين لمعمر القذافي والذي احتضنته الولايات المتحدة الأميركية لسنوات طويلة، ثم أرسلته إلى ليبيا مع غزو حلف الناتو وشارك في العمليات العسكرية ضد الجيش الليبي بقيادة معمر القذافي، ثم عيّنه مجلس النواب الليبي المنعقد في طبرق برئاسة عقيلة صالح قائداً للجيش الوطني الليبي في عام 2015، وقاموا بترقيته لرتبة فريق، ثم رتبة مشير في 14 أيلول/ سبتمبر 2016.
والثانية يقودها فايز السراج رئيس حكومة الوفاق الوطني ورئيس المجلس الرئاسي الذي تأسّس في ليبيا بعد اتفاق الصخيرات في 17 أيلول/ ديسمبر 2015 تحت رعاية الأمم المتحدة بهدف وضع حدّ للحرب الأهلية الليبية، وهو الآن مدعوم من قبل تركيا وقطر، وتتحرك بإمرته المليشيات المسلحة، التي تنتمي لعدد من الجماعات والتنظيمات الإرهابية.
والواقع على الأرض اليوم هو صراع بين الجبهتين المدعومتين خارجياً، جبهة خليفة حفتر وعقيلة صالح من ناحية وجبهة السراج من ناحية أخرى، هذا إلى جانب جبهة ثالثة يحاولون تجاهلها وإبعادها عن المشهد وهي جبهة أنصار الجماهيريّة بقيادة سيف الإسلام القذافي والتي تمتلك قوات مسلحة على الأرض ولها وجود فعليّ لا يمكن تجاهله، هذا هو المشهد الداخلي، أما في ما يتعلق بمساعي حلّ الأزمة فهناك عدّة مسارات: المسار الأول يتمّ بعقد جلسات حوار متعدّدة ومتكررة بين جبهتي (حفتر – السراج) سواء داخل ليبيا أو خارجها، والمسار الثاني يتم عبر المساعي العربية وأهمها التدخل المصري في محاولة للوصول لحل بين جبهتي الصراع (حفتر – السراج)، والمسار الثالث يتمّ عبر الأمم المتحدة التي تتبنّى مشروع يحاول حلّ الأزمة عبر جبهتي (حفتر – السراج) أيضاً.
والواضح أن المسارات الثلاثة السابقة لم تفض حتى اللحظة إلى أي نتائج إيجابية، لأنها جميعاً تتجاهل عنصراً رئيسياً هو عقدة الأزمة كلها وهو الميليشيات الإرهابيّة المسلحة الموجودة على الأرض الآن، والتي وإنْ كانت نظرياً تابعة لجبهة السراج وتعمل تحت إمرته، إلا أنّ الواقع الفعلي يقول إنّ هذه الميليشيات الإرهابية المرتزقة تابعة لدول خارجية عدة على رأسها تركيا ومن خلفها أميركا هذا إلى جانب فرنسا وايطاليا وانجلترا، وبالتالي لا يمكن لأي مسار من مسارات حل الأزمة أن ينجح من دون مواجهة مباشرة مع هذه الميليشيات الإرهابية.
لذلك نرى أن الطريق الوحيد لحلّ الأزمة الليبية – في محاولة لتركيب ما قمنا بتفكيكه – هو عقد مصالحة وطنية بين الفرقاء الليبيين ليس بين جبهتي النزاع (حفتر – السراج) فقط، بل بين كل الأطراف الفاعلة على الأرض ومنها جبهة أنصار الجماهيرية بقيادة سيف الإسلام القذافي، وتكون هذه المصالحة تحت مظلة عربية ترعاها مصر والجزائر وتونس والمغرب وهي الدول المهدّد أمنها القومي بفعل استمرار الأزمة، ولا بدّ أولاً أن تعلن كل الأطراف ولاءها للوطن والتخلي عن التبعية للخارج، ولا بدّ ثانياً أن تخرج تلك المصالحة الوطنية بتشكيل جيش وطني ليبي موحّد تكون مهمته الأساسية تحرير ليبيا من الميليشيات الإرهابية المرتزقة المدعومة دوليا، وبذلك تفقد القوى الامبريالية العالمية الطامعة في ثروات الشعب الليبي مصدر قوتها على الأرض، ومن هنا يمكن أن يكون هناك أمل في الحل، أما بقاء الميليشيات الإرهابية من دون مواجهة فهذا يعني إضاعة للوقت وفرص الحلّ، اللهم بلغت اللهم فاشهد.