هل الشعب شريك في قتل الشرف ليحيا عار المافيات؟
علي بدر الدين
يروى أنّ جنوداً غزوا قرية صغيرة نائية، ونكّلوا بأهلها، واغتصبوا نساءها، ما عدا واحدة، رفضت وقاومت الجندي وقتلته وقطعت رأسه. وبعد أن أنهى الجنود، غزوتهم وارتكبوا جريمتهم، وعادوا إلى معسكرهم، خرجت النساء، من بيوتهن، يتحسّرن ويبكين والدموع تتدفق من عيونهن، على ما تعرّضن له، باستثناء الناجية الوحيدة منهن، التي خرجت من بيتها، تحمل رأس الجندي الذي حاول الاعتداء عليها، وتعبّر أمام النساء الأخريات عن جرأتها وشجاعتها وعزة نفسها، وعن احتقارها لهن، وقالت أمامهن، هل كنتن تظنن، ان أتركه يغتصبني، من دون أن أقتله او يقتلني، فاستهجن جميعهن، ورحن ينظرن الى بعضهن نظرات حقد عليها وانتقام منها، وقرّرن قتلها والتخلص منها، حتى لا يخضعن، لأسئلة أزواجهن وأهلهن، وسؤالهن، لماذا لم يتشبّهن بها ويقاومن الجنود الغزاة، وفي غفلة منها أقدمن على قتلها بدم بارد، ومعها قتلن الشرف فيها ليحيا العار.
هذه الرواية، إنْ كانت أسطورة او من فعل الخيال، أو واقعية، فإنها، في جوانب كثيرة منها، تشبه، واقع الحال في لبنان، في أكثر من تفصيل، صغيراً كان او كبيراً، وقد تعرّض، منذ ما قبل إعلان دولة لبنان الكبير وبعدها ولغاية اليوم لغزوات خارجية، حيث تمّ اغتصاب خيراته واقتصاده وقراره في السيادة والاستقلال، وحقوق الإنسان فيه، وحريته ولقمة عيشه، وأمعنت بشعبه تقتيلاً، واعتقالاً وخطفاً وتفقيراً وتجويعاً، وتقسيماً وفتناً وحروباً، بعد خروج الغازين و»إنجاز» مهامهم وتحقيق أهدافهم، جرى تسليمه لطبقة سياسية تمثلهم ويثقون بها، لاستكمال مشروعهم وتنفيذ أجنداتهم، وكانت فعلاً على قدر كبير من «المسؤولية والأمانة»، إلى حدّ أنها كانت أكثر «حرصاً» من مشغليها.
لا عجب في أنّ لبنان وصل إلى هذه المرحلة الكارثية التي تؤشر إلى انهيارات متتالية على كلّ المستويات، وتهدّد مصيره وحياة واستقرار دولة وشعب ومؤسسات، باتوا جميعاً على محكّ الهلاك. إنها غزوة داخلية جديدة بعقول متحجّرة ومتواطئة ومتفلتة من كلّ الضوابط والمعايير الوطنية والإنسانية، وهي التي كانت سبباً مباشراً لما يشهده هذا الشعب من فساد ونهب وصفقات وسمسرات، وخلافات وصراعات، لا تنتهي، على مواقع السلطة ومقدّرات الدولة وحقوق الناس، وعلى التحاصص والتقاسم في البشر والحجر والنفوذ والأرزاق والأموال العامة والخاصة والأمثلة كثيرة، لا تعدّ ولا تحصى، وهي على مرأى ومرمى عيون اللبنانيين المقيمين والمغتربين، الذين «يتنعّمون» فيها وقد أوصلتهم إلى الحضيض، والى أحضان الفقر والجوع والبطالة والمرض.
هذه الغزوة مستمرّة منذ عقود، ولم تنته فصولها بعد لتمحو كلّ أثر من الوطن والدولة والشعب، لأنّ الطبقة السياسية والمالية والسلطوية الحاكمة في كلّ الحقبات التي عبرت، عمدت لتسهيل مهمتها إلى عزل كلّ مواطن حر وشريف ونزيه عن سدة الحكم والمسؤولية، لتبقى وحدها تسرح وتمرح، وتركب «طرابيش» لبعضها وتمارس ساديّتها بإذلال هذا الشعب، الذي بات تابعاً ومترتهناً وخائفاً ومشلول الحركة والفعل، ولا قدرة له على مقاومة هؤلاء الغزاة الذين شلوا تفكيره وإرادته، ولم يعد قادراً إلا على الطعام، انْ وجده، وإلا على غزو التعاونيات والسوبر ماركات لشراء ما تبقى فيها، خشية ان تفقد من الأسواق ويحرم نفسه من التلذذ بها، باحثاً عن ذاته واستمراره في حياة يذلّ فيها كلّ يوم، في وقوفه طوابير لينال حصته قبل ان تنفذ، ويكدّسها في البيوت ليأكلها العفن وتنتهي صلاحيتها ويرميها في «المكبات» طعاما للجائعين الذين يبحثون عنها في أكوام النفايات، أو للكلاب والقطط المشرّدة في الشوارع.
ثبت بالتجربة انّ هذا الشعب عدو نفسه، لأنه فقد الدواء والماء والكهرباء والصحة والسلامة والأمان وكلّ حق له ولم يتحرك او يعترض الا نادراً، وترك «مافيات» السياسة والاقتصاد والمال والفساد والتحاصص، تمعن في ممارسة هواياتها عليه، في «تزليطه» وسلخ جلده وإهماله وحرمانه، ليس فقط من مقوّمات معيشته، بل من أحلامه وآماله، في ان يكون الغد أفضل.
هذا الشعب لم يدرك بعد، او يتعظ من تجاربه من أنه بغزواته المتكرّرة لشراء ما يحتاجه وما لا يحتاجه، بأنّ أفخاخاً قد نصبت له عن قصد، ووقع فيها، وهو بفعلته أو غبائه لا فرق، يشجع التجار الجشعين، على بيع سلعهم المكدّسة في المستودعات منذ سنوات وبأسعار خيالية، وانّ أكثرها أو بعضها على الأقلّ، ملغوم وفاسد، وأنّ الاحتشاد في الأماكن المغلقة من شأنه أن ينقل له عدوى الكورونا، وعندها سيفقد شهية الأكل ويحرم مما كدّسه في بيوته، وانه ترك لمافيات السياسية والمال والإقتصاد ان تتلاعب به وتستنزف مدّخراته، ولا يحصل منها سوى على الوعود ومزيد من الكذب والنفاق المتبادلين وهما ملحها، وانه في آخر أولوياتها، واهتماماتها، وان لا وجود له ولحقوقه في أيّ سطر في أجنداتهم، وقد وصلته الرسالة الأخيرة القاتلة كعيّنة من السجال غير المسبوق بين تيارين سياسيين لهما حيثيات طائفية ومذهبية وسياسية ونيابية ومصلحية مشتركة، أقله للمدى القريب الأتي، لأنّ المصيبة والمصالح وتوزيع الحصص ستجمعهما من جديد، لأنّ السياسة بمفهومها عند هؤلاء هي فنّ الكذب، قاموسها لا ينطق إلا بالكذب حين يلتقون، وعندما يختلفون، كما يكذبون على الناس، وليس هناك أحد من كلّ هذه الطبقة، لا يمارس طقوس التكاذب والتصالح، وفق مقتضيات المصلحة، ولديهم «الجرأة»، ليقولوا بوقاحة «عفا الله عما مضى» وإنهاء حفلات جنون الكذب بالتعادل، تحت مقولة لا غالب ولا مغلوب سوى الشعب، بعناوين وشعارات ملفقة وملغومة ومن أجل المصلحة الوطنية العليا.
استفق أيها الشعب من غيابك، وغيبوبتك التي طالت دون مبرّر، إلا إذا كنت شريكاً في قتل الشرف ليحيا عار المتسلطين الفاسدين والسارقين، وإذا لم تخرج من صمتك وخنوعك وما تعتقده قدراً، الآن قبل الغد، أكتب وصيتك وتشهّد على روحك لأنّ موتك جوعاً أو مرضاً او قهراً، بات قريباً وحتمياً…!