اطمئن.. ستبقى أبواب بيتك مشرّعة للحب
} الأمين سمير رفعت
جمعتني بالأمين الذي لم يرحل ولن، محطات عدّة، شرّفني بأن دوّن بعضها في مذكّراته «لم أبدّل ولن»، ودوّنت بعضها الآخر في ذاكرتي، وكانت المحطة الأخيرة تلك الصداقة الحميمة التي ربطتنا عائلياً معه لسنوات، زوجتي هدى وأنا وزوجته الغالية ناديا وشقيقها الشقيق الأمين فاروق أبو جودة وزوجته المعطاءة الرفيقة ميليا؛ إذ كان في كلّ المناسبات الحزبية يقتني عدداً من البطاقات، فيدعونا ليجمعنا حول طاولة واحدة في هذا الحزب العظيم، تلك كانت بعض مساهماته المالية المعلَنة، بينما مساهماته الخفيّة أكبر بكثير.
كان الأمين مسعد حجل، الذي لم يرحل ولن، يستحق فيه قول الأديب القومي الاجتماعي الرفيق سعيد تقيّ الدين: «إنّ الرجل الكبير لا ينتهي بمأتم»، وكان يملك قلب طفل تفتّح على الحب قبل أيام وما زال على براءته لم يجرّب إلا الحب في حياته التي قاربت عمر لبنان الكبير، والفارق الكبير أنّه استمد حياته باكراً في أتون النهضة القومية الاجتماعية، بينما استمدّ لبنان «شرعيّته» كل هذه السنين من إعلان مستعمر، وجاء من يغتال بيروت ولبنان كلّه في الرابع من آب حين إعلان مئويّته.
هذه السنديانة السوريّة التي زُرعَت في أرض لبنان، الجبل المزروع في الشام، كما تقول قواميس التاريخ والجغرافيا، كان في صلابة السنديان انتماءً، وفي رقّة الياسمين ليناً، وفي نقاء وعطاء صاحب الذكرى (المسيح السوري)، الذي كان رحيله يوم ولادته، فكان عصياً على الرحيل.
المحطة الأولى في مسيرتنا معاً، كانت يوم زارني في مكتبي بمجلس الشعب الشامي حين كنتُ مستشاراً سياسياً وإعلامياً، وطلب أن يزور رئيس المجلس الأستاذ عبد القادر قدورة، والذي تربطه به صداقة بدأت في الكاميرون حين زار وفد مجلس الشعب الشامي الكاميرون، وكعادته قام الأمين مسعد بواجب الضيافة وكرمها لوفدٍ وَفَدَ من الوطن، فأولَمَ على شرف الوفد الشامي ودعا الجالية الشامية واللبنانية، وأذكر أنّه كرّر في أكثر من مرة أنه في أثناء وجود الوفد الشامي هناك، كانت السيدة نائلة معوّض النائبة في مجلس النواب اللبناني وزوجة رئيس الجمهورية الراحل رينيه معوّض، وطلبت أثناء الدعوة من الأمين مسعد أن يضعها على طاولة الأستاذ قدورة، وحين عرض عليه الموضوع رحّب بحرارة.
أعود إلى مجلس الشعب في الشام وزيارة الأمين حجل لي، في الوقت الذي كانت جلسة المجلس منعقدة برئاسة السيد قدورة. ونظراً لتقديري لزيارة الأمين حجل لي، تجاوزت كل البروتوكولات ودوّنت ورقة صغيرة كتبت بها ما حرفيّته: «أستاذ أبو قيس، سلّم نائب الرئيس سدّة الرئاسة ووافني في مكتبك فوراً فلديك ضيف عزيز». وبعثت بالورقة مع المراسل ليسلّمها إلى رئيس المجلس أثناء ترؤّسه الجلسة، وما هي إلا لحظات حتى أعلن رئيس المجلس اضطراره لمغادرة الرئاسة، وتوجّه إلى مكتبه فوراً ليجدنا الأمين مسعد حجل وأنا في انتظاره، وبعد أن أهّل به بما يستحق قال له: «لقد أمرني الرفيق سمير بمغادرة الرئاسة، وهنا أنا أمتثل لأمره». وكانت لفتة طيّبة من الراحل عبد القادر قدورة الذي يعطي لكلّ ذي حقّ حقه.
المحطة الثانية حين جاءني هاتف حضرة رئيس الحزب الأمين مسعد حجل من بيروت لمكتبي في مجلس الشعب بالشام، يأمرني بأن أحدّد له موعداً مستعجلاً مع العماد حكمت الشهابي رئيس أركان الجيش الشامي وأحد المولجين بالملف اللبناني في القيادة الشامية، طلبت فوراً من عاملة الهاتف في المجلس أن تعطيني العماد الشهابي، وبعد ثوانٍ قليلة رنّ هاتفي فأجابني شخص رحّب بي ترحيباً حاراً، إلى أن قلت له: «أريد موعداً مستعجلاً لرئيس الحزب السوري القومي الاجتماعي الأمين مسعد حجل، أجابني المتحدث: «متى تريد الموعد؟» فقلت له «غداً». سألني في أيّة ساعة، أجبته: «في الحادية عشرة قبل الظهر لأعطيه مجال الحضور من بيروت». جاء الجواب: «أمرك أستاذ سمير». هنا استغربت هذا التجاوب السريع من دون أن يعود المتكلم لسؤال العماد الشهابي، فسألته: «ألا تريد أخذ موافقة العماد حكمت؟». أجابني المتكلم: «أنا العماد حكمت، فحين قال لي مدير مكتبي أن الأستاذ سمير رفعت على الخط، قلت له: هذا أكبر من أن يمرّ عبر مدير مكتب، حوّله لي مباشرة… لذلك لا ضرورة لأن أستشير أحداً، والموعد غداً». شكرته وقمتُ بالاتصال بحضرة رئيس الحزب الأمين مسعد لأبلغه الموعد.
وفي صباح اليوم التالي، دخل مكتبي في العاشرة والنصف.. حيّاني وطلب منّي أن أرافقه في لقائه مع العماد الشهابي، فتمنّيت عليه أن يذهب وحيداً وعلّلت له السبب بأنّ المسؤولين الشاميين يأخذون راحتهم في الحوار حين لا يكون أي شامي حاضراً فيه، لذلك آمل أن تذهب وحدك، وسأنتظرك بعد اللقاء.
وبالفعل، فقد سأل العماد حكمت عني، ولمّا أجابه حضرة الرئيس بما علّقت على وجودي، قال العماد حكمت إنّ الرفيق سمير يعرف الشام جيداً. وكان اللقاء مثمراً، كما نقل لي حضرة الرئيس حجل، الذي قال لي مثنياً على تأمين الموعد فوراً إنّه طلب منذ أسبوع هذا اللقاء من أحد المسؤولين الحزبيين في الشام فتلكّأ في تأمينه، وبعد أيام، وتأكيداً لقول حضرة الرئيس، زارني هذا المسؤول الحزبي معاتباً لأني أمّنت هذا الموعد، وقال بالحرف الواحد: «كان يجب أن تبقى الصِّلة مع المسؤولين الشاميين بيدنا فقط». سامَحَهُ سعاده….
المحطة الثالثة حين زارني الرفيق أنطون أبو سليمان في مكتبي بمجلس الشعب، يحمل مذكّرة تتناول الوضع الحزبي الداخلي مرفوعة إلى رئيس مجلس الشعب الأستاذ عبد القادر قدورة، وتحمل توقيع الأمين مسعد حجل، وبعد قراءة بعض أسطرها اعتذرت من الصديق أبو سليمان بأنّي لن أسلّمها إلى الأستاذ قدورة، فليأخذها هو إلى مدير مكتبه، وكانت غرفته بجانب غرفتي، وبالفعل راح الرفيق أبو سليمان وسلّمها إلى مدير مكتب الأستاذ قدورة، وما هي إلا دقائق حتى هتف لي طالباً حضوري، ولما دخلت مكتبه قال لي: جاءتني هذه المذكرة من الصديق الأستاذ مسعد حجل، أحوّلها لك لكي تبدي رأيك بها. أجبته بالحرف: «لا رأي لي في مذكرة حزبية داخلية مرفوعة إليك؛ إذ لا أجد أنك المرجع الصالح لتوجيه أيّة مذكرة حزبية إليك. هنا علّق قائلاً: إذن خذها وتصرّف بها كما تشاء وتراه مناسباً.
وبالفعل، ركبت سيارتي في اليوم الثاني متجهاً إلى بيروت، وإلى مركز الحزب مباشرة، ودخلت إلى مكتب حضرة رئيس الحزب الأمين الراحل علي قانصو، وكان الأمين أسعد حردان حاضراً، سلّمت المذكّرة إلى الرئاسة موضحاً ما حدث مع الأستاذ قدورة وعدت إلى عملي في دمشق، وقد علمت أنّ أحد الأمناء قد كتب تلك المذكرة متوسّلاً توقيع الأمين مسعد حجل، ومستغلاً علاقته الحميمة بالأستاذ عبد القادر قدورة رئيس مجلس الشعب في الشام.
بالأمس القريب جداً، وفي جلسة ضمّت الأمين أسعد حردان وبعض أعضاء المجلس الأعلى ومجلس العمد، روى الأمين حردان مشكوراً هذه الحادثة مدلّلاً على مناقبيّتي الحزبيّة، وقد استغربت أن الحادثة قد مضى عليها أكثر من ثلاثين سنة وما زالت في ذاكرته القومية الصافية.
أعود لصاحب المناسبة، الأمين الذي لم يرحل ولن، لأقول إنه حين يتناول في مذكراته وجلساته رفيقاً أو أميناً قام بعمل مناقبيّ، فلأنّه يريد أن يشير إلى قيمة الحزب وفعاليّته في تصرّف هذا الرفيق أو ذاك، لا أن يمتدح أحداً، إذ كان همّه الأول والأخير أهمية تواجد الحزب في هذا الموقع، الذي يعطي للرفيق قيمته المناقبية.
علمتُ أنّ وصيّته الأخيرة كانت للأمينة ناديا، رفيقة حياته وعقيدته وطيبته: أنّ هذا بيت الأمة، يجب أن يبقى مشرعاً… وسيبقى.