الأزمة الأوكرانية والنخب الأميركية
زياد حافظ
يعتبر العديد من الباحثين الغربيين والشرقيين على حدّ سواه أنّ الأزمة الأوكرانية تحمل في طيّاتها ما يمكن تهديد الاستقرار والسلم العالمي. وهناك من يتحدّث أنّ الأزمة الحالية هي أكثر من حرب باردة وأقلّ من حرب ساخنة بين كلّ من روسيا من جهة والولايات المتحدة من جهة أخرى. أما الاتحاد الأوروبي فربما عاطفته مع الموقف الأميركي بينما مصالحه هي مع روسيا.
من هنا نفهم مبادرة المستشارة الألمانية انجيلا ميركل والرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند لإعادة إحياء وتطبيق اتفاقية منسك العاصمة البلاروسية روسيا البيضاء التي قضت بوقف إطلاق النار والمبادرة إلى حوار نحو حلّ سلمي. وعلى ما يبدو فإن الإدارة الأميركية تتجّه نحو ذلك بسبب الواقع الميداني من جهة وبسبب أنّ كلفة استعداء أوروبا في هذه الظروف أكثر من المكاسب المرتقبة من الاستمرار في مجابهة روسيا. ولكن هذا لا يعني أنّ الصراع قد يتوقّف وتعود الأمور إلى مجراها ما قبل الأزمة. فهناك مصالح داخلية في الولايات المتحدة تعمل لتوتير الأجواء وهذا ما سنعرضه بشكل سريع في الفقرات التالية.
في البداية لا يجب أن يغفل عن بالنا أنه ليس هناك من رأي واحد في الغرب سواء في الاتحاد الأوروبي أو في الولايات المتحدة. ففي الاتحاد الأوروبي دول مثل بولونيا تشجّع على مجابهة روسيا وذلك لأسباب تاريخية من جهة والقلق الفعلي لدى البولونيين من روسيا تاريخياً وحاضراً.
أما في فرنسا وألمانيا فالمصالح الاقتصادية مع روسيا تفوق بكثير الاعتبارات السياسية الأخرى علماً أنّ من كان وراء إطلاق الأزمة الأوكرانية والتشجيع على الانقلاب ضدّ حكومة منتخبة كانت الولايات المتحدة ويؤازرها بعض النخب الأوروبيين كبرنار هنري ليفي لاعتبارات تخدم الكيان الصهيوني القلق من صعود النفوذ الروسي في العالم بشكل عام وفي المنطقة العربية بشكل خاص.
فلا ننسى تصريح نائب وزير الخارجية فكتوريا نيولاند في الكونغرس الأميركي حول إنفاق ما يوازي خمسة مليار دولار لإبعاد أوكرانيا عن روسيا. كما نذكّر بالمكالمة الهاتفية بينها وبين السفير الأميركي حيث شجعت على التمرّد والانقلاب على الحكومة المنتخبة وليذهب إلى الجحيم الاتحاد الأوروبي إذا ما تضرّر من تداعيات تلك العمليات. كما نذكّر بالمقابلة الشهيرة لرئيس مجلس الامن القومي السابق للرئيس جيمي كارتر أي زبغنيو برجنسكي حيث اعتبر أوكرانيا مفتاح ترويض روسيا في الحدّ الأدنى أو تفكيكها في الحدّ الأقصى. أي هناك بين النخب الحاكمة في الولايات المتحدة من يريد المجابهة المفتوحة مع روسيا اعتقاداً أنه يمكن تكرار سيناريو الثمانينات من القرن الماضي أيّ استنزاف روسيا لترويضها ثم تفكيكها. فبغضّ النظر عن واقعية ودقة تلك التطلّعات إلاّ أنّ ما نشهده اليوم هو تجاذب حادّ بين النخب في الولايات المتحدة حول مسار الأمور في الأزمة الأوكرانية.
نشر معهد بروكنز وهو أهم خزّان فكر في الولايات المتحدة بل في العالم وفقاً لتقرير مسحي أصدرته جامعة بنسيلفانيا المرموقة في 22 من كانون الثاني 2015، نشر المعهد تقريراً أعدّه مع المجلس الأطلسي ومجلس شيكاغو للشؤون العامة في العالم يوصّي بتزويد الجيش الأوكراني بمعدّات حربية متطوّرة في مواجهة التمدّد الروسي في أوكرانيا. من محرّري التقرير سترود تالبوت السفير السابق لروسيا والمشرف على تفكيك الاتحاد السوفياتي في بداية ولاية الرئيس بيل كلينتون. كما كان المستشار الخاص لوزير الخارجية الأميركي آنذاك وارن كرستوفر وصاحب ملفّات الدول المستقلة عن الاتحاد السوفياتي. وهو الآن من كبار الباحثين والمشرفين على معهد بروكنز. ويعتبر تالبوت من الصقور داخل الحزب الديمقراطي وهو قريب من الزوجين كلينتون. لذلك ما أتى به في التقرير مع زميله ستيفن بايفر والمجلس الأطلسي ومجلس شيكاغو للشؤون العامة في العالم من أهمّ الوثائق التوصيات للبيت الأبيض. كما ينذر بما ستكون عليه الأمور إذا ما فازت هيلاري كلينتون بتسميتها لخوض معركة الرئاسة والدخول إلى البيت الأبيض.
من المهم أن يعرف القارئ أنّ حتى داخل معهد بروكنز تباينات حادة حول المسار الذي يجب على الولايات المتحدة اتخاذه في الأزمة الأوكرانية. فبينما يروّج فريق تالبوت لتصعيد المواجهة مع روسيا ويؤازره في ذلك المستشار السابق للأمن القومي زبغنيو برجنسكي بالمناسبة كلاهما من نخب الحزب الديمقراطي! هناك داخل المعهد من يعارض تلك التوصية. فالباحث جرمي شابيرو يعارض بشدّة تلك التوصية ويعتبر أن لا جدوى لها لأنّ إرسال أسلحة للجيش الأوكراني، وهناك شكوك حول وجود ذلك الجيش بعد الهزائم التي مُني بها على يد المتمرّدين، فإنّ إرسال تلك الأسلحة سيسبّب المزيد من الدمار والقتل للأوكرانيين ولن يغيّر أيّ شيء في المعادلة. حاول الردّ كلّ من تالبوت وبايفر على ملاحظات شابيرو ولكن من خلال ردود المعلّقين على السجال نجد أنّ موقف تالبوت لم يحظ بتأييد واسع يذكر. إلاّ أنّ ذلك الأمر لم يثن المعهد عن تقديم التقرير للرئيس الأميركي.
في هذا السياق نرى مرة أخرى دلائل عن التخبّط داخل الإدارة حول الموقف الذي تريد اتخاذه. فمن جهة مصادر في البيت الأبيض أوحت أنّ الإدارة قد تأخذ قراراً بإرسال أسلحة «فتّاكة» للجيش الأوكراني ولكن الآن تفكّر بإرسال معونة اقتصادية فقط! هذا التخبّط في الموقف قد لا يرضي الكونغرس الأميركي الذي بأكثريته الجمهورية يحبّذ المواجهة مع روسيا تماشياً مع الرغبة الصهيونية وبعض الجهات العربية. وما تصريح الشيخين ليندسي غراهام وجون ماكين إلا دلائل عن ذهنية قيادات الحزب الجمهوري في التوجه نحو مجابهة مباشرة مع روسيا. فقد عبّر ليندسي عن «حزنه» لعدم تزويد الجيش الأوكراني بالسلاح متناسياً تداعيات ذلك القرار أو ساعياً لمواجهة مباشرة مع روسيا.
لكن حتى داخل النخب الجمهوريين من يعارض بشدّة تدخّل الولايات المتحدة في أوكرانيا. فالمعلّق الشهير والمرشّح السابق لتسمية الحزب الجمهوري للرئاسة بات بيوكانن يكتب بشكل مكثّف عن عبثية التدخّل. ويؤازره في ذلك النائب السابق رون بول المعروف بتمسّكه بالمبادئ الليبرالية وتحفّظه على تدخّل الولايات المتحدة في شؤون الدول الأخرى. كما نشير إلى موقع معادي للحرب انتاي وار نشأ إبان الحملة الأميركية على العراق والذي يحرّره المعلّق المحافظ جاستين ريموندو، فهذا الموقع يعارض بشدّة أي تدخّل في أوكرانيا. كما أنّ مجلة «فورين بوليسي» المملوكة من روبرت مردوخ المعروف بميوله الصهيونية وخصومته لسياسات الرئيس الأميركي أوباما نشرت في 10 شباط 2015 مقالاً لستيفن والت يحذّر فيه من مغامرة جديدة في أوكرانيا التي ستنجم حتماً إذا ما تمّ تسليح الجيش الأوكراني. فليس من الصحيح تعميم حزب الحرب على الجمهوريين، فهناك أيضاً من الحزب الديمقراطي من يشجّع على ذلك. نذكّر هنا أنّ معظم حروب الولايات المتحدة في القرن العشرين أطلقها رؤساء ديمقراطيون بدءاً من الحرب العالمية الأولى إلى الحرب العالمية الثانية إلى الحرب في كوريا إلى حرب فيتنام إلى الحرب على بلاد الصرب. يتحمّل الجمهوريون حربي الخليج.
لكن من جهة أخرى أدلى الرئيس الأميركي بتصريح لإحدى الوسائل الإعلامية مفاده أنّ إدارته كانت وما زالت تفكّر في أولوية الحلّ السلمي، وأنها قد كانت خلال العامل الماضي وسيطاً بين الأطراف المتنازعة لنقل السلطة إلى سلطة انتقالية. حاول بعض المعلّقين كبيت روزال في محطة «روسيا اليوم» ومعه عدد من الكتاب كجيمس تاترا الحصول على وثائق تدلّ عن وساطة ما ولكن لم يفلحوا. المهم هنا ليس صحة أو عدم وجود وساطة بل ذهنية الرئيس أوباما حول أولوية الحلّ الدبلوماسي وتشاطره في ذلك الرأي المؤسسة العسكرية التي لا تعتقد أنّ تسليح الجيش الأوكراني مفيد. لكن هناك داخل الإدارة من يريد المزيد من التوتر وحتى المجابهة المباشرة مع روسيا اعتقاداً منهم أنّ الوضع الاستراتيجي هو لمصلحة الولايات المتحدة وأنّ روسيا ستستنزف في أوكرانيا فيمكن في الحدّ الأدنى انتزاع تنازلات جوهرية وفي الحدّ الأقصى تفكيكها! ربما الحقيقة توجد في الموقفين: فهناك رغبة في تحجيم وحتى تفكيك روسيا عبر استنزافها في أوكرانيا، ولكن في المقابل هناك إقرار في العجز عن تحقيق ذلك.
وليس من السهل التضحية بالاتحاد الأوروبي مهما شكّل عنصر إزعاج للبعض في الولايات المتحدة. فزيارة المستشارة الألمانية إلى واشنطن هي لإبلاغ الأميركيين بالقرار الأوروبي الذي اتخذ بعدم التصعيد ورفض تسليح ما يُسمّى بالجيش الأوكراني والمباشرة بالحلّ الدبلوماسي. هذا التباين بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ليس تبايناً عابراً. ولدينا قناعة أنّ الرئيس الأميركي ليس منزعجاً من الموقف الأوروبي الذي يدعم نزعته الأولى بعدم التورّط في مجابهة يعتبرها عبثية وغير ذي جدوى. وكأنّ هناك تكراراً للسيناريو الذي عرض في صيف 2013 لتفكيك فتيل الحرب على سورية إثر أزمة الكيماوي. مرة أخرى يكون الأوروبي جزءاً من خشبة الخلاص للمأزق الأميركي.
خزّانات الفكر الأميركية المموّلة من المجمّع العسكري الصناعي تريد توجّهاً مختلفا للإدارة. فالمصالح الضيّقة هي التي توجّه التطلّعات ومعطيات القرار في السياسة الخارجية. فإشعال جبهة جديدة في أوروبا تساعد المجمّع العسكري الصناعي على جني المزيد من العقود مع وزارة الدفاع وجني الأرباح. ونلفت النظرإلى أنّ الموازنة الجديدة التي قدّمها الرئيس الأميركي للكونغرس تلحظ زيادة ملحوظة في نفقات الوزارات العسكرية والأمنية وليس فقط وزارة الدفاع. إذا لا بدّ من تبرير تلك الزيادات عبر استحضار عناصر مجابهة جديدة وأخطار وهمية على الولايات المتحدة. لكن في المقابل ليس هناك من رغبة عند المؤسسة العسكرية بفتح جبهة في أوكرانيا قد تؤدّي إلى مجابهة مباشرة مع روسيا خاصة وأنّ نتائجها غير مضمونة لمصلحة الولايات المتحدة. لذلك نتوقّع المزيد من التجاذب داخل الإدارة وبين الإدارة والكونغرس وبين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. ومع كلّ ذلك هناك من يراهن في الوطن العربي وفي لبنان على إمكانية تفوّق المحور الأميركي رغم كلّ الإخفاقات. فحالة الأنكار تصل إلى مشهد عبثي يدفع ثمنه العرب ومعهم اللبنانيون.
أمين عام المنتدى القومي العربي