في رواية العطر.. اتساقُ الشكل والمضمون معاً!
} محمد رستم*
اختار الكاتب باتريك زوسكند لمرويّته معنوناً عالياً «العطر/ قصة قاتل»، وهنا منذ البداية نستشف مكنون العمل من بيان شيفرته المكثفة..
في روايته «العطر» أحالنا الكاتب إلى «أل» العهديّة والتي تشير إلى عطر محدد يقصده، أي العطر (المُتواطئ) على معرفة عناصره سابقاً والذي تفضح المرويّة عبقَه مبيِّنةً أنّه «إنسانية الإنسان» وأضاف الكاتب عبارة «قصة قاتل» كعنونة رديفة داعمة.. وبثنائيّة العنونة هذه يكون قد تناول المؤدّى العميق لمنجزه /إنسانيّة الإنسان/ كما تناول الشكل الذي تمظهرت فيه طريقة الوصول إليها وهو القتل. بما يتّفق مع الشكل الذي انتهجه التغيير الاجتماعي ورافق قيام الثورة الفرنسيّةّ «القتل» وبهذا فإن دالّ «العطر» يتناول الجانب الرمزي في المُنجز، بينما تتجه «قصة قاتل» إلى الجانب الواقعي وسير الأحداث.
وإذا كانت رواية «ماري أنطوانيت» للكاتب «ستيفان زفايج» تصوّر فترة قيام الثورة الفرنسية برداء الواقعية التاريخية فإن هذه المرويّة تتناول المرحلة ذاتها لكن بثوب الواقعية الرمزية – إن جازت التسمية لها – فهي تحذير مُرّ من خطر هذا المولود الجديد على الإنسانية..
وقد اختار الكاتب «باريس» مكاناً لحدثه لأنها الساحة التي تفجّر منها بركان الثورة والمكان الذي شهد مخاض التطورات الحديثة بشكل صارخ، كما اختار مدينة «كراس» لأنها مدينة العطور.
صورة غاتمة:
هيمنت على المدن رائحة نتنة لا يمكن لإنسان في عصرنا الحديث تصوُّر مدى نتانتها، فالشوارع كانت تضج برائحة الغائط وباحات المنازل الخلفية برائحة البول وأدراج البنايات برائحة الخشب المتفسّخ وروث الجرذان.
لقد بنى الكاتب روايته على شخصية «غرونوي» الذي وُلد في أكثر أماكن المملكة زخماً بالروائح النتنة وفي أشدّ أيّام السنة حرّاً. إذ وضعت الأم «العازبة» مولودها تحت طاولة السمك، كما فعلت بمواليدها الأربعة والتي رمت بهم.
لكن هذه المرّة بدأ المولود بالصراخ، فبحث الجمع عن المولود الجديد تحت سرب من الذباب وبين أحشاء ورؤوس السمك المقطوعة، وسُلّم المولود إلى مرضعته بينما اقتيدت الأم إلى الإعدام لكونه ابن الخطيئة، ابن قاتلة الأطفال.
فالجو العام لولادة «غرونوي» لا يختلف عن الجو العام لولادة الثورة الفرنسية كما تصوّره الرواية.
فهناك مشابهة كبيرة بين انعدام المشاعر عند الأم نحو مواليدها وبين صورة الثورة، إذ انتفض الثائرون في حالة هياج مدمّر مصبوغ بالدماء بعيداً عن أية مشاعر إنسانية وشاعت عبارة (الثورة تأكل أبناءها). وهكذا كانت ولادة «غرونوي» معمّدة بدم أمّه، ولعل الأم ههنا تمثّل الطبقة الأرستقراطيّة التي تفوح منها رائحة النتانة، لذا جاءت ولادة (غرنوي = الثورة) بمثابة موت لتلك (الطبقة = الأم).
وولِد «غرونوي» بصحة جيدة وهو شرِه، وهذه إشارة إلى قوّة في التحوّل الاجتماعي: كان جسمه قادراً على الاكتفاء بالحد الأدنى من الغذاء والملبس وروحه كانت بغنى عن الشعور بالأمن والدفء والحنان والحب/ والتي يزعم البعض أن الطفل بحاجة إليها/ وأن الصرخة التي أطلقها من تحت طاولة السلخ والتي دعا بها نفسه إلى الحياة، وأمَّه إلى المقصلة لم تكن غريزيّة، صرخة مدروسة بدقة ويكاد المرء أن يقول إنها صادرة عن عقل مفكّر.
أجاد الكاتب ببناء شخصيته هذه وأوجد لها المسوّغات لتصبح على ما هي عليه، من انعدام المشاعر نحو الآخرين، «طريقة الولادة، حرمانه من حنان الأسرة، كرهه لمحيطه ومعاملته بالسوء إلا أنه يبقى مضموناً رمزيّاً أكثر منه واقعياً ومما يومئ إلى ذلك وصفه بأن المفردات التي تنتمي إلى حقل الفلسفة والأخلاق «الضمير، السعادة، القانون، الرب، المسؤولية، التواضع، الامتنان» هي بالنسبة له كلمات مبهمة تدل على مادة لا روائح لها: (قال الكاهن إنه حين ذكر اسم الرب أمام المحكوم «غرونوي» نظر إليه من دون فهم). وهنا إشارة إلى ان الثورة جبّت الكثير والقيم والمفردات التي سادت تلك الفترة.
نشأ «غرونوي» في حالة انفصال تامّ بين محيطه وعالمه الداخلي القائم على حاسّة الشمّ: (كان بمقدوره تخزين فرادة هذه أو تلك الرائحة في ذاكرته، وخزّن آلاف الروائح. والأدهى هو امتلاكه القدرة على مزجها في خياله حسب رغبته). وهذا ما يؤكّد رمزية اختلافه عن بقية الأطفال، فهو لا يخاف من الظلمة كباقي الأطفال، وقادر «بحاسّة شمّه» أن يرى الأشياء وإن كانت مُخبّأة و يشعر بالعاصفة قبل وقوعها. هذا عدا عن صموده أمام الكثير من محاولات إقصائه عن الحياة.
كانت مربيّته تعرف أن لا فرصة له للبقاء على قيد الحياة، ومع ذلك بقي حيّاً معافى. فهو لا يشعر بالآلام الجسديّة فبعد ارتكابه الجرائم، علّقوه طيلة ساعات من قدميه وحقنوه بتسعة لترات من الماء ثم ضغطوا قدميه بالملزمة ولكن من دون أيه نتيجة، كانت حواسّه كلها مغيّبة ما عدا الشمّ، فاعتبره القضاء مختلا عقلياً.
وممّا يؤكد على المسار الرمزيّ للرواية ما ورد فيها، «كانت طبقة النبلاء كلها تضج بالرائحة الكريهة، الملك نفسه تفوح منه رائحة حيوان مفترس» بالتأكيد الرائحة هنا كناية عن السلوك والأفكار والقيَم.
لا يمكن للقارئ العارف أن ينكر حين يقارب ما ترمز إليه الحكاية بالتشبيه بين نشأة بطل العطر والثورة، فولادته جاءت من خارج العرف والقانون، وكذا الثورة الفرنسية ، فقد جاءت كانعطافة على رصيف التطور التاريخي، فهي مولود غير متّسق مع حركة التاريخ، إنّها حركة اعتراضية وناشزة، وكلاهما (الثورة وغرونوي) يعتمد القتل بحجة الوصول بالإنسان إلى السعادة.
إن إثبات الوجود هو الضمير المستتر في الرواية سواء على الصعيد الشخصي «غرونوي» أو على صعيد الرمز «الثورة»، فلقد تمرّد غرونوي على الوحوش المدجّنة في أعماقه وانفجرت هالات الوجع ومضى يضع قدمه في أول سطر للمواجهة في معركة إثبات انتصاره على الحياة /الإهمال – الاحتقار/ معتمداً الشمّ حاسته الوحيدة التي لا شريك لها، كما نلحظ تصاعد الخط الدرامي للعمل مع اقتراب الحدث من حافّة النهاية.
طبعا لم يصوّر الكاتب المجتمع الفرنسي كخلفية للوحة التي يتحرك فيها البطل بل جاءت الصورة متماهية مع صورة «غرونوي» ذاته، فزناخته وقماءة شكله هي انعكاس لزنخ المجتمع الذي تفوح منه الروائح الكريهة، والتي بدورها هي تعبير عن مخاض الولادة الجديدة.
أخيرا لم أر مُشابهة بين «غرونوي» و «هتلر» كما تشير بعض الدراسات إلا من حيث صعودهما من نشأة متواضعة واختفاء أثرهما في نهاية الحكاية.
*كاتب سوري.