ثقافة وفنون

عودة إلى حديث موسيقى الشعر العربيّ

} عبد المجيد زراقط

تحدَّثت، في مقالة سابقة، نُشرت، في 29/12/2020، في جريدة «البناء»، عن «الإيقاع الشعريِّ العربيِّ، بين الثبات والتحوُّل»، ورأيتُ فيه أنَّ الوزن والقافية ليسا إيقاعاً خارجياً، وإنَّما هما إيقاع داخليّ، يمثِّل عنصرين من عناصر موسيقى الشعر، وأنَّ هذا الإيقاع عرف، طوال تاريخ الشعر العربي، تحوُّلات كثيرة أشرت اليها إشارات سريعة.

في هذا الحديث، أكمل الكلام على موسيقى الشعر العربي، وعنصرها الاَخر الذي لا ينظمه الوزن العروضيّ، وهو ما يمكن تسميته بـ «التنغيم»، أو ما يسمِّيه كثيرون بـ «الإيقاع الداخلي»، تمييزاً له من الوزن والقافية اللذين يسمُّونهما خطأً بـ «الإيقاع الخارجي «.

الوزن، كما لا يُخفى على معنيٍّ بالشعر العربي، نظام كمِّي ينظم أمرين: أوَّلهما عدد الوحدات، التفاعيل، وعدد المقاطع في التفاعيل وتوزيعها، وثانيهما حركة الكلمات في الزَّمن، وهذا يعني أنَّه ينظّم تساوي مدى هذه الحركة في الزمن. أي أنَّه ينظّم نوعاً من التوازن، على مستويين: أوَّلهما عدد المقاطع وتوزيعها، وزمن القول المتوازن لكل شطر مع الشطور الأخرى.

أمَّا الموسيقى، موسيقى أصوات الحروف والكلمات: قوتها ولينها، طولها وقصرها، همسها وجهرها، سرعتها وبطؤها، تاَلفها الصوتيّ وتناظرها وتنافرها، نظام العلاقات القائم بينها، فلا يدخل شيءٌ منه في النظام العروضيّ. ولهذا كان من الطبيعيّ أن تختلف القصائد، المنظومة على وزن واحد، على مستوى هذا النوع من الموسيقى الشعريّة، ما يجعلنا نرى أنَّ القصائد، المنظومة على وزن واحد، مختلفة موسيقياً، وأنَّ موسيقاها «التنغيمية» خاصة بها، فهي مؤتلفة ومختلفة في الوقت نفسه.

وإن كان بعضهم يراها متشابهة، فهذا يعود الى عدم النظر الى هذا النوع من الموسيقى الشعرية.

إيضاحاً لما أذهب اليه، أقدِّم أمثلة سريعة، وهي ثلاثة أبيات منظومة على بحر الرجز، تختلف، من حيث الوزن، بسبب الجوازات في كل بيت، ومن حيث موسيقى «التنغيم». وهذه الأبيات هي :

1 –  يا ربُّ، بيضاء، من الجواري،

وقهوة أطيب من نيل المنى.

2 –  لمَّا رأتني أمُّ عمرو، صرَفَتْ،

قد بلغت بي ذروةً، فألحفت.

3 –  إنَّ الشباب والفراغ والجدة،

مفسدة للمرء أيّ مفسدة.

اختلاف الوزن، بين هذه الأبيات، يمكن أن يتبيَّنه أيُّ ممتلك معرفة بسيطة بالعروض، أما اختلاف موسيقى الشعر، فواضح، ففي البيت الأول نلحظ تكرار صوت ( المد = اللين = ا + ي)، كأنه صوت الدعاء، وتمنِّي نيل الفتاة الجميلة والخمرة الأطيب من نيل المنى. وفي البيت الثاني، نلحظ تكرار صوت (التاء الساكنة) كأنه صوت صريف الأسنان والإلحاح، أمَّا في البيت الثالث، فنلحظ التكرار المؤكد للحكمة.

لم يقنِّن النقاد العرب القدماء هذا النوع من الموسيقى، لأنَّه، من نحو أول، نوع تتفرَّد به كل قصيدة، ومن نحو ثانٍ، لأنَّ الشعر كان يُنشد، أي أنَّه كان مُرافَقاً بنظام صوتيّ تمليه موسيقى كل قصيدة، وكان كل شاعر ينشد شعره، ولا يقرأه أو يلقيه، والشاعر الذي لم يكن يجيد الإنشاد كان يصطحب معه مرافقاً يجيده، كأبي تمّام، على سبيل المثال.

وفي العصر الحديث، تُبذل محاولات على هذا الصعيد، من طريق العودة الى نماذج من الإنشاد لا تزال ممتدَّة منذ أيامه الى أيامنا، ومنها إنشاد الشعر في مقدمة مجلس العزاء الحسيني، على سبيل المثال، ويحاول بعض النقاد وضع نظام للنَّبر الشعري العربي بالعودة الى القراءات القراَنية.

إضافة الى هذا، نرى أنَّ إمكانات تنضيد نماذج من الشعر الموزون كثيرة، ما يفيد بإمكان التنوع، مع بقاء التفعيلة أساساً، وهذا ما تحقَّق في مطلع الحداثة الشعرية، عندما سادت ظاهرة شعر التفعيلة.

ومن نماذج ذلك، نذكر قصيدة لأبي نواس متعدِّدة القافية، ومبنيَّة على تفعيلة واحدة، ويمكن أن تتعدّد أشكال تنضيدها، ومنها :

* « سلاف دنِّ / كشمس دجن / كدمع جفن / كخمر عدن.

طبيخ شمس / كلون ورس / ربيب فرس / حليف سجن.

يامن لحاني / على زماني / اللهو شاني / فلا تلمني «.

يتيح ما سبق أن نخلص الى ما يأتي :

1 – ايقاعات الشعر العربي الموزون المقفَّى جميعها داخلية.

2 – قصائد هذا الشعر، وإن كانت ذات وزن واحد، مختلفة موسيقياً.

3 – لكلِّ قصيدة فرادتها الموسيقيّة المسهمة بالنطق بفرادتها الرؤيويّة.

4 – هذه الموسيقى لم تكن، في أي مرحلة تاريخية، ثابتة ورتيبة.

5 – المهم أن نقرأ تراثنا جيِّداً، بحبِّ وموضوعية في آن.

أمَّا قصيدة النثر، ومحاولات الكتابة الجديدة، فلهما حديث اَخر.

 

*قصة قصيرة من المجموعة القصصية «جذور فوق التراب»، لعبد المجيد زراقط.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى