بايدن ومحاولة تعويم دور القيادي المهيمن عالمياً.. بين القدرة والرغبة
} حسن حردان
هل تمّ طيّ صفحة عهد الرئيس الأميركي دونالد ترامب مع تسلم الرئيس جو بايدن السلطة رسمياً في البيت الأبيض.. وهل سيتلاشى ويخبو مجدّداً واقع الانقسام والتصدع والتطرف السياسي والعرقي والعنصرية المستفحلة لدى الغالبية من الأثرياء البيض العنصريين، الذين تمثلهم ظاهرة ترامب إيما تمثيل… وستتمكن إدارة بايدن من ترميم وتعويم دور أميركا القيادي المهيمن على الصعيد الدولي؟
انه سؤال الساعة في أميركا والتحدي الكبير الذي طغى على خطاب بايدن وساد أجواء حفل تنصيبه.
المسألة مرتبطة بالقدرة على تحقيق هذا الطموح الذي عبّر عنه بايدن لاستعادة الوحدة المتصدعة ووضع حدّ للانقسام.. وهو الهاجس الذي عبّرت عنه الشابة الأميركية من الأفارقة السود التي تحدثت في حفل التنصيب لتعبّر عما يشغل الشباب الذين ساهموا في انتخاب بايدن وباتوا جزءاً من تكوينات الحزب الديمقراطي…
فهل تملك إدارة بايدن القدرة على استعادة الوحدة وطي صفحة الانقسام وبالتالي استعادة مكانة أميركا في العالم كأمبراطورية قوية قادرة على فرض سلطانها وهيمنتها في الداخل والخارج على حدّ سواء.. فيهابها العالم ويرضخ لمشيئتها؟
أم أنّ هذه القدرة لم تعد متوافرة في الداخل والخارج، وعناصر القوة التي تمكّن بايدن من النجاح ضعفت وتقلصت… ولهذا هناك فرق بين القدرة والرغبة.
فما هي حال عناصر قوة الإمبراطورية الأميركية، هل لا زالت على حالها من القوة التي وفرت الازدهار والتطور والاستقرار لها؟
أولاً، تعتبر الغالبية من البيض الأثرياء أنهم هم أسياد أميركا وانّ الحلم الأميركي هو حلمهم وحدهم، وانّ أميركا وجدت لهم وأنّ الآخرين إنما هم دخلاء أو عبيد عملوا في خدمتهم ويجب أن يبقوا كذلك، لا سيما بعد أن قلت الثروة وتفشت الأزمات الاقتصادية والمالية وانتهى معها زمن البحبوحة المادية والرفاه والازدهار الاقتصادي، الذي كان يتيح إعطاء وتوزيع بعض الفتات على بقية السكان الأفارقة والملوّنين من غير البيض، ويوفر نوعاً من مظاهر الوحدة المزعومة لما يسمّى أمة أميركية قامت على الفتك بسكان أميركا الأصليين من الهنود الحمر، واحتلال واستيطان أراضيهم الخصبة وطردهم منها، من قبل المستوطنين البيض الأثرياء الذين جاؤوا من أوروبا إلى أميركا سعيا وراء الثروة، وخصوصاً من بريطانيا، وهو ما يشبه تماماً ما فعله المستوطنون الصهاينة في فلسطين برعاية المستعمر البريطاني نفسه، تشابه يفسر لنا بوضوح السبب الذي جعل ترامب، وبدعم من المحافظين الجدد وجماعات الضغط من الانجيليين البيض وغيرهم، الذهاب بعيداً في دعم الكيان العنصري الاستيطاني ومساعدته على سلب العرب في فلسطين حقوقهم في أرضهم ووطنهم…
ثانياً، يبدو من الواضح أنّ عناصر القوة، التي مكّنت أميركا من أن تصبح أقوى دولة في العالم وتزدهر وتحقق التطور والتقدم، وتصل إلى أعلى مستوى نمو ودخل بين الدول، يبدو أنها لم تعد كذلك، فالقوة الأميركية أصيبت بالضعف في مواقعها المختلفة، بل أنّ أهمّ عنصر فيها، والذي يغذي باقي عناصرها، وهو القوة الاقتصادية، تراجع كثيراً عما كان عليه.. فأميركا كانت تستمدّ قوتها وقدرتها على تحقيق الاستقرار في الدخل، وسيطرتها وهيمنتها في الخارج، من أنها تملك أكبر وأقوى اقتصاد، وأعلى معدلات نمو، وبالتالي أعلى مستوى دخل للفرد في العالم، حتى أنّ حصتها من الناتج العالمي تجاوزت، بعد الحرب العالمية الثانية، الخمسين بالمئة، ولهذا تمكنت الإمبراطورية الأميركية من تحقيق:
1 ـ التربع على عرش الاقتصاد العالمي والاستحواذ على المعرفة والتقنية والاختراعات العلمية وصناعة السينما ومشاهير هوليود، حتى بات شعار الحلم الأميركي يدغدغ العالم ويدفع الشباب، في الكثير من الدول لا سيما في العالم الثالث، الى البحث عن تحقيق أحلامهم في أميركا.
2 ـ الهيمنة والسيطرة على الأسواق العالمية حيث السلع الأميركية الاستهلاكية والسيارات والتقنيات هي الأكثر رواجاً وكذلك الإقبال على شرائها.
3 ـ بالاستناد إلى هذه القوة الاقتصادية بنت أميركا قوّتها العسكرية، وخصّصت الأموال الطائلة لصناعة السلاح المتطور، وشنّ الحروب التوسعية في الخارج وإخضاع الدول وتغيير أنظمة، مما مكنها من السيطرة على ثروات هذه الدول من نفط وغاز ومعادن ثمينة، وتسخيرها لخدمتها في تحقيق الثراء والاستقرار في الداخل، ومواصلة فرض هيمنتها على العالم والتي نجحت في جعلها هيمنة أحادية بعد انهيار وتفكك الاتحاد السوفياتي…
لكن عناصر القوة هذه لم تعد كما كانت عليه من القوة للأسباب التالية:
السبب الأول، انّ أميركا فقدت أو على شفير فقدان مركزها الأول كأكبر قوة اقتصادية، بعد تقدّم الصين ونجاحها في أن تصبح أقوى وأكبر اقتصاد في العالم ينمو ويتطوّر على المستويات كافة، بما فيها براءات الاختراع، حتى في زمن كورونا، الذي شلّ الاقتصاد الأميركي والعالمي.. أظهر انّ إنتاج اللقاحات الطبية لم يعد حكراً على أميركا والغرب.
السبب الثاني، اشتداد المنافسة الاقتصادية الدولية للاقتصاد الأميركي، من قبل دول عديدة ناشئة اقتصادياً، وليس فقط الصين، الأمر الذي قلّص حصة أميركا من الناتج العالمي إلى ما دون الـ 20 بالمئة.. ما أدّى إلى تنامي العجز الأميركي في الميزان التجاري والموازنة العامة، وارتفاع حجم الدين، وازدياد نسبة البطالة والفقر، وإعداد الذين يصطفون في طوابير للحصول على الإعانات الاجتماعية.
السبب الثالث، فشل حروب أميركا وتراجع توسعها الاستعماري وبالتالي تقلص عمليات نهبها لثروات الشعوب، وهذا أدى، من جهة، الى خسائر مادية كبيرة نتجت عن تكاليف الحروب الباهظة في أفغانستان والعراق، والتي تسبّبت في مفاقمة الأزمات الاقتصادية والمالية، ومن جهة ثانية، تراجع في عائدات أميركا التي كانت تحققها من خلال سيطرتها على ثروات دول غنية، نجحت في التحرر من سيطرتها، مثل فنزويلا وبوليفيا، وقبل ذلك إيران إلخ…
هذا التراجع الملحوظ في عناصر قوة التفوق والهيمنة الأميركية، قابله صعود وحضور ملموس في قوة قوى كبرى دولياً مثل الصين وروسيا، وإقليمياً مثل إيران، ووقوفها إلى جانب قوى المقاومة والتحرر في مواجهة الهيمنة الأميركية وكسر شوكتها وهيبتها، ان كان من خلال فرض موازين قوى جديدة في الميدان الصراع العسكري في ساحات الصراع الرئيسية، مثل سورية والعراق وفنزويلا إلخ… أو عبر إسقاط مشاريع قراراتها في مجلس الأمن وجعلها في حالة من العزلة مستفيدة إلى تنامي الاعتراض الأوروبي على خروج أميركا على الاتفاقيات الدولية، مثل الاتفاق النووي مع إيران واتفاقية المناخ، وانسحابها من منظمة الصحة العالمية ووقف دعمها لوكالة الأونروا إلخ…
لقد أدى ذلك إلى تكريس انتهاء مرحلة الهيمنة الأحادية الأميركية، وإضعاف الدور القيادي الأميركي على الصعيد العالمي… وهو ما تعزز بشكل واضح مع انتشار جائحة كورونا وعجز أميركا في التصدي لها داخلياً أو لعب دور قيادي دولياً لمواجهتها، في المقابل حلت الصين وروسيا وكوبا، مكان أميركا في لعب هذا الدور القيادي، الأمر الذي أسهم في تسريع التحوّلات الحاصلة أصلاً والمعبّر عنها في انتقال موازين الثقل في القوة الاقتصادية العالمية من الغرب إلى الشرق، وبداية ما أسماه الكاتب في صحيفة فريد زكريا عالم ما بعد أميركا، وكان عنوان لكتابه الذي تحدث فيه عن عوامل صعود الصين ودول عديدة في العالم وتراجع القوة الأميركية… وعاد وأكد عليه في مقال له كتب مؤخراً في صحيفة «واشنطن بوست» تحت عنوان «مرحباً بعالم ما بعد أميركا» تحدث فيه عن تراجع مكانة الولايات المتحدة كقوة عظمى على الساحة الدولية، مقابل صعود قوى أخرى أكثر هيمنة، بفضل السياسة الفوضوية للرئيس دونالد ترامب، وتصريحاته المثيرة للجدل، وهو ما دفع بأميركا نحو الهاوية بشكل أسرع مما كان متوقع.