الموت الأسود…!
علي بدر الدين
نجحت المنظومة السياسية الحاكمة في إقفال كلّ الأبواب والمنافد والمخارج لعدم ولوج المعالجات والحلول لأزمات لبنان ومشكلاته ملفاته الاقتصادية والمالية والنقدية والاجتماعية والصحية، التي كانت هي سببها ورأس حربتها، بالتكافل والتضامن بين مختلف مكوناتها، وعن سابق إصرار وتصميم، لإفراغ الدولة ومؤسساتها ومقدراتها من عناصر القوة والقرار وعدم القدرة على المواجهة والتصدي للعابثين بها وللفاسدين، الذين نخروا جسدها ونهبوا أموالها وأفرغوا خزائنها وسطوا على أموال المودعين في المصارف من مقيمين ومغتربين، ولم يشبع جوفهم المتغوّل، ولا كفوا أيديهم عن كلّ ما وقعت أعينهم عليه، ولا اكتفوا بما سرقوه من حقوق ليست لهم، حتى وصل نهمهم إلى المتاجرة برغيف الفقراء وطحينهم، وبدواء مرضاهم الذي أخفوه في مستودعاتهم وصيدلياتهم على عينك يا شعب لبنان الذي سقطت عظمته تحت ضربات هذه المنظومة السياسية، وتجار السياسة والاحتكار والجشع، والاستبداد والظلم والنفوذ السلطوي غير المسبوق، الذي لم يشهد لبنان مثيلاً له حتى في المراحل القاسية التي مرت عليه منذ العصر العثماني، الذي طغى فيه الفقر والجوع والبطالة والمرض والقهر والذلّ والحرمان والإهمال والقمع والإعدام.
والمنظومة الساسية من ما قبل الطائف المشؤوم وبعده تمارس التجربة العثمانية وما تلاها من استعمار وانتدابات واحتلالات، ولكن بقسوة أمرّ وأشدّ لأنها تستهدف وطناً ودولة وشعباً واقتصاداً وجوعاً ومرضاً بعناوين العيش المشترك والصيغة اللبنانية الفريدة من نوعها على مستوى الداخل والخارج، والتنوع الثقافي والحضاري المتعدد الذي جعل من لبنان واحة للحرية وسويسرا الشرق ودرّته، والدليل على نجاحها وتميّز لبنان في ظلّ عهودها وحكوماتها وطبقاتها السياسية والمالية والسلطوية الحاكمة ومكوناتها الطائفية والمذهبية والسياسية والاقتصادية والمالية. وقد أدّت إلى ما يشهده اللبنانيون من انهيارات متتالية على كلّ المستويات، وخطيرة قد تقضي على حاضر البلد ومصيره برمته، وعلى شعبه الذي هو من أهدافها الرئيسة من سياسة الحرمان والإهمال والتفقير والتجويع، من أجل تطويعه وتدجينه وشلّ قدراته وكسر إرادته حتى الاستسلام والسكوت الأبدي على كلّ «مآثرها» وما اقترفته من جرائم القتل والنهب والفساد والتهجير والتشريد المنظم والممنهج والمقصود.
يبدو بالأدلة القاطعة والبراهين الساطعة، أنها نجحت في مخططاتها حيث فشل الآخرون السابقون في ليّ أذرع اللبنانيين وقطع أنفاسهم وألسنتهم وتغييبهم عن المشهد السياسي العام، ورغم ذلك فإنّ هذه المنظومة أو الطبقة او السلطة، لا تزال تتبجّح بنجاحاتها و«إنجازاتها» وادّعائاتها، أنّ لبنان بفضلها حاز على مرتبة الشرف الأولى في الفساد بين دول العالم، ودخل الفرد هو الأقلّ بين أكثرها فقراً، وإنه الأكثر ارتفاعاً في أسعار المواد الغذائية الاستهلاكية والأكثر مديونية، والأول في سرقة أموال المودعين في المصارف، لم يسبقهم على فعلتهم أحد، وانّ طبقته السياسية هي الأسوأ في التاريخ والحبل يطول.
هذا غيض من فيضها الذي قوّض أسس وطن ودولة ومؤسسات ومجتمع وشعب بأكمله، على قاعدة أنّ إدارتها لشؤون الدولة نجحت بامتياز ولكن المريض مات.
هذه الطبقة، المنظومة، التي تخلت عن كلّ مسؤوليتها وواجباتها، وخلفت كلّ الأزمات والمآسي والكوارث على اختلافها وتعدّدها، ونامت على حرير أفعالها المشينة، كأن الأمر لا يعنيها ولا علاقة لها بالموت الأسود الذي حلت لعنته على هذا الشعب الذي يموت جوعاً ومرضاً وقهراً. وكلّ ما يشغل بالها هو كيف هو تؤمّن لقاء جديداً بين الرئاسة الأولى والرئيس المكلف، ومصالحة رئيسي تيار المستقبل والوطني الحر، لاعتقادهم أنهما يملكان مفتاح الحلّ وتأليف الحكومة، مع أنّ بعض القوى السياسية المعنية الأخرى لا تبدي أيّ اهتمام حيال ما يجري و«بطيخ يكسر بعضو»، لأنها تعلم أنّ تأليف الحكومة، في مكان آخر، وانّ طبخته لم تنضج بعد، وهي كما غيرها لها شروطها وحصصها.
يقول إبن خلدون في مقدمته، التي على ما يبدو لم يقرأها أحد من هذه المنظومة أو الطبقة أو السلطة أو يطلع على مضمونها وأخذ العبرة منها، وإلا ما كانت لتسلك ربما طريق الظلم والاستبداد والطمع. يقول إبن خلدون:
«الاستبداد يقلب موازين الأخلاق ويجعل من الفضائل رذائل ومن الرذائل فضائل، والظلم يخرب العمران وعائدة الخراب في العمران على الدولة بالفساد، ودخول الحكام في السوق والتجارة، مضرّة عاجلة للرعايا وفساد للجباية ونقص للعمارة، وإذا زال العدل إنهارت العمارة وتوقف الانتاج وافتقر الناس واستمرت سلسلة التساقط حتى زوال الملك. العدل إذا دام عمر، والظلم إذا دام دمّر، وكلما فقد الناس ثقتهم بالقضاء، تزداد حالة الفوضى وهي علامات الإصلاح، فالقضاء هو عقل الشعب، ومتى فقده، فقد عقوله، واذا عمّ الفساد في الدولة، فإنّ أولى علامات الإصلاح هي الفوضى، وانتصار الفساد يدفع بعامة الشعب، إلى مهاوي الفقر والعجز عن تأمين مقتضيات العيش، وبداية الشرخ يؤدّي إلى انهيار الدولة، وإذا رأيت الحكام يكنزون الأموال فدقّ ناقوس الخطر. الحاكم الدائم يظهر له الشعب الولاء، ويبطن له الكره والبغضاء، وإذا نزلت به نازلة أسلموه ولا يبالون، والشعوب المقهورة تفوق أخلاقها عندما تنهار الدول، ويكثر المنجمون والأفاقون والمتفقهون والانتهازيون، وتعمّ الإشاعة، وتطول المناظرات وتقصر البصيرة ويتشوّش الفكر.
صدق ابن خلدون، لأنّ لبنان والدولة والشعب والحكام جميعهم في قفص الاتهام والإدانة.