مات الملك… عاش الملك وتبقى سورية البوصلة والمحكّ
جورج كعدي
تدافعت الحوادث في الفترة الأخيرة وفرضت أولويّات في الوقفة والتأمّل، لذا أجّلتُ لأسابيع ما كنت أودّ التوقّف عنده وإبداء الرأي في شأنه ويتعلّق بمسألة رحيل الملك السعوديّ السابق وارتقاء الحاليّ العرش على قاعدة «مات الملك… عاش الملك» المعمول بها منذ العصور الأوليغارشيّة البائدة التي لم يبق منها إلاّ القليل في عصرنا، خاصة تلك العروش غير المتّسمة ببعض العراقة والنبالة والأريستوقراطيّة، بل تلك التي نشأت على ثروات وهبتها الطبيعة العمياء عبثاً ومصادفة لغير مستحقّيها، مثلما هي الحال في الجزيرة والخليج العربيّين، ولا تحتاج الحقيقة هذه إلى شرح وفير.
بدءاً، كان مجلس العزاء المفتوح بالملك السعوديّ الراحل عبدالله أشبه بمسرحيّة طويلة مُضجِرة تسابق جميع طالبي الرضى وماسحي الجوخ ومبيّضي الوجوه والطناجر والمرتبطين بمصالح مع مملكة القهر والرمل وقطع الأيدي والرؤوس والتزمّت والتعصّب الدينيّين اللذين يغطّيان في الداخل الفحشاء التي يرتكبها آكلو خيرات البلاد وناهبو نفطها في جهات العالم الأربع، ولهؤلاء منافع وأعمال شخصية، مقدّمين «واجب العزاء» الذي هو في الحقيقة «واجب تقديم الطاعة» للملك الجديد والنافذين في مواقع القرار أي القادرين على التيسير أو التعسير وتجديد البيعة. كلّه يدور في حلقة المصالح الاقتصادية والسياسيّة والمالّية والدينيّة، كون السعوديّة مرجعاً للسلطة المذهبيّة الدينيّة، الوهّابية والسلفيّة، التي ينتمي إليها أصوليّو السنّة المتطرّفون والإرهابيّون في العالم ويتلقّون الدعم الماليّ والمعنويّ والتوجيه العقيديّ والعملانيّ، مهما وضعت مملكة التعصّب والقهر والتآمر من أقنعة لحقيقتها ودورها المعروفين، خاصة لناحية دعم الإرهاب في سورية.
مضحكاً كان تعداد «مآثر» الملك الراحل، علماً أنّ أكبر هذه «المآثر» على الإطلاق دوره الرهيب والفظيع في تدمير سورية، طرفاً من الأطراف الأساسية في المؤامرة التي خطّطت لها الولايات المتحدة و«إسرائيل» وفرنسا وبريطانيا وموّلتها السعودية وقطر ونفّذت كلّ من تركيا والأردن الجزء اللوجستيّ الإمداديّ الأكبر منها. تلك هي «أعظم مآثر» الملك السعوديّ السابق التي قلّما أتت جهات على ذكرها ضمن قائمة «إنجازاته» و«مآثره» العظيمة داخل المملكة وخارجها! وتكفي وحدها بكلّ ما تسبّبت به من مآسٍ وجرّته من ويلات على بلاد الشام، الأعرق والأجمل والأبهى بين سائر دول المنطقة وممالك النفط والغاز ومشيخاتهما الكرتونيّة الفارغة، حتى لو صحّ أنّ له «إنجازات» داخل المملكة أو ليس له منها شيء البتّة، وهذا الأرجح، إذ لم يُلحظ في عهده أيّ تحوّل أو تقدّم في البنية الاجتماعيّة والإنسانيّة والثقافيّة والعلميّة للسعوديّة التي ما انفكّت بلداً تُقطع فيه الرؤوس وإن لمجرمين أو لصوص والأيدي بحدّ السيف شكل إعدام متخلّف له العديد من البدائل العصريّة لو سلّمنا بالإعدام عقوبة، والمعروف أن معظم الدول المتمدّنة ألغت عقوبة الإعدام نهائيّاً حتى لأعتى القتلة والمجرمين وأوحشهم ، وما برح البشر في مملكة القهر والظلام هذه يُجلدون بسياط «المطاوعية» في الشوارع والأماكن العامة، ولا تزال حرّية الرأي ممنوعة ومصادرة، والتعصّب الدينيّ قائماً بشدّة، والمرأة ممنوعة من قيادة السيّارة ومفروضاً عليها النّقاب، والفحش والتبذير وتبديد أموال الشعب وثرواته متمادياً وإلى تفاقم وازدياد، والتبعيّة الكاملة لأميركا إلى مزيد من التكريس والترسيخ، والتنسيق السرّي حيناً والعلنيّ حيناً آخر مع الصهيونيّة العالميّة و«إسرائيل» يسير خطى إلى الأمام، وبثّ الأحقاد ضدّ إيران وتصويرها أنّها الخطر المصيريّ والاستراتيجيّ وليس «إسرائيل» لا يتوقّف ليل نهار، وفصول المؤامرة ضدّ سورية مستمرّة ولا تعديل أو تراجع أو محاسبة ضمير…
لا يمكن تسجيل مأثرة إيجابيّة واحدة في سجلّ الملك السعوديّ الراحل، إن أردنا الموضوعيّة والحقيقة والإنصاف، وإن تجاوزنا مسرحيّة العزاء التي عبَرت ولا تبدّل شيئاً في واقع الأمور والحقيقة التاريخيّة. ارتكب الملك السعوديّ خطيئة عظمى لا تُغتفر ولا تعوّض في حقّ الشام والأمّة السوريّة جمعاء، ولذلك فإنّ الملك الجديد أمام امتحان وحيد، حصريّ، لا امتحان سواه هو: وقف المؤامرة فوراً ضدّ سورية وإعلان موقف رسميّ يقلب الدور السعوديّ مئة وثمانين درجة، أي من جهة إلى جهة نقيض تماماً تلغي مفاعيل الأولى. البوصلة واحدة، والمحكّ واحد، لتبديل الصورة وإظهار التراجع وإعلان الندم والاعتذار.
سورية هي القضية والبوصلة والمحكّ، لراحلين سوف يحكم عليهم التاريخ، ولوافدين جدد إلى العرش والسلطة والحكم تُنتظر منهم المواقف الواضحة والحاسمة. أيّ كلام آخر هو في خانة الباطل والنفاق والتضليل وإضاعة الوقت وهدر الثروة والقدرات والإمكانات لمصلحة أميركا و«إسرائيل» والغرب المستعمر وتركيا العثمانيّة الجديدة. الملك الحقيقيّ الصالح هو الذي يصوّب البوصلة ويحمي المصالح العربيّة ويعيد قضيّة فلسطين إلى واجهة الصراع والأولويّات ويردّ عن سورية مؤامراته ومؤامرات حلفائه، وإلاّ لا حاجة بنا إلى أخبار الملوك وعروشهم المتهاوية.