هل تنتهي رحلة السقوط الحرّ للاقتصاد اللبناني بالارتطام في العام 2021؟
د. فادي علي قانصو*
لا شكّ في أنّ الأزمة الاقتصادية الحادّة التي اندلعت في الفصل الأخير من العام 2019، إضافةً إلى إعلان الدولة اللبنانية عن تعثّرها في سداد ديونها بالعملات الأجنبية في الفصل الأول من العام 2020، وتدهور الوضع النقدي في سياق التفاوت الملحوظ بين سعر الصرف الرسمي وسعر الصرف السائد في السوق السوداء والذي وصل إلى عتبة 10,000 ليرة للدولار في منتصف العام، ناهيك عن تفشي وباء كورونا والذي نجم عنه إغلاق وشلل للبلد لعدد من الأسابيع، مروراً بانفجار مرفأ بيروت الكارثي في الرابع من آب، كلها عوامل أرخت بثقلها على القطاع الحقيقي بشكل خاص وعلى النشاط الاقتصادي بشكل عام، فأدخلت الاقتصاد اللبناني في أعتى وأشرس أزمة اقتصادية تشهدها البلاد على الاطلاق منذ ثمانينات القرن الماضي.
مع مطلع العام 2020، بدأ الاقتصاد اللبناني رحلة السقوط الحرّ، ليدخل غرفة الإنعاش عقب إصابته بداء الركود التضخّمي، وهي حالة مزمنة يُصاب فيها الاقتصاد بانكماشٍ حادّ في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي (أيّ نسب نمو سلبيّة قد تتجاوز 25% هذا العام وفق أغلب التوقعات) بالترافق مع ارتفاع ملحوظ في نسب تضخم أسعار الاستهلاك (بنسب تفوق 270% وهي ثالث أعلى نسبة حول العالم وفق الخبير المالي والنقدي ستيف هانكي)، مما يؤدّي إلى تعميق الأزمة الاقتصادية، لا سيّما لناحية التداعيات السلبية على معدّلات البطالة في ظلّ توجّه المؤسسات في الإجمال إلى تسريح عمّالها بُغية تقليص النفقات التشغيلية لديها جرّاء ارتفاع تكاليف الإنتاج، ناهيك عن الانعكاسات الثقيلة على القدرة الشرائية للمواطنين وخاصّة ذوي الدخل المحدود وحتى المتوسّط، لترتفع بذلك نسب الفقر في لبنان إلى أكثر من 65% من الشعب اللبناني وفق تقديرات البنك الدولي.
في الواقع، يُعزى هذا الركود الاقتصادي في لبنان إلى انكماش الإنفاق الخاص، بشقيه الاستهلاكي والاستثماري. في المقابل، فإنّ التراجع الصافي في الإنفاق العام لم يساهم في تعويض الانكماش في الإنفاق الخاص، لا سيّما أنّ الدولة اللبنانية دخلت حقبة من متطلّبات تقشفية صارمة مدفوعة بالاختلالات القائمة على صعيد ماليتها العامة. إنّ أداء مؤشرات القطاع الحقيقي هذا العام عكس في الواقع المؤشر الاقتصادي العام الصادر عن مصرف لبنان، وهو متوسط مثقل لعدد من مؤشرات القطاع الحقيقي يعكس الأداء الماكرو اقتصادي، فمن أصل 11 مؤشر للقطاع الحقيقي، تراجعت عشرة مؤشرات بينما ارتفع مؤشر واحد خلال العام 2020 بالمقارنة مع العام 2019. من بين المؤشرات التي سجلت نسب نمو سلبية نذكر عدد السياح، عدد المسافرين عبر مطار بيروت، عدد مبيعات السيارات الجديدة، تسليمات الإسمنت، الواردات، حجم البضائع في المرفأ، مساحة رخص البناء الممنوحة، إنتاج الكهرباء، الصادرات، وقيمة الشيكات المتقاصة. أما المؤشر الوحيد الذي سجّل نمواً إيجابياً فهو قيمة المبيعات العقارية بحيث بدا القطاع العقاري ملاذاً آمناً في ظلّ القيود المفروضة على الرساميل داخل النظام المالي اللبناني.
على صعيد المالية العامة، أظهرت مؤشرات الأشهر الثمانية الأولى من العام 2020 أنّ الإيرادات والنفقات العامة قد سجلت تراجعاً بنسب بحدود 20% أدّت إلى تقليص في العجز المالي العام بنسبة 14%. وعلى صعيد القطاع المصرفي، فإنّ النشاط المصرفي المقاس على أساس إجمالي الموجودات المجمّعة للمصارف العاملة في لبنان، تراجع بقيمة 26.5 مليار دولار خلال الأشهر الأحد عشر الأولى من العام 2020. في المقابل، إنّ الودائع المصرفية، والتي تستحوذ على حصة الأسد من إجمالي الموجودات المصرفية في لبنان، قد شهدت تراجعاً بقيمة 19.0 مليار دولار خلال الأشهر الأحد عشر الأولى من العام 2020. ومنذ بداية العام 2019، تراجعت الودائع المصرفية بمجموع تراكمي ناهز 34.4 مليار دولار. أما على الصعيد النقدي، تراجعت الاحتياطيات الأجنبية لدى مصرف لبنان بقيمة 12 مليار دولار خلال العام 2020، لتصل إلى حدود 18 مليار دولار. وذلك في ظلّ تدخّل المصرف المركزي في تمويل استيراد السلع الأساسية وبعض عمليات التصفية بين موجودات ومطلوبات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية.
قراءة في الفجوة المالية خلال العقدين المنصرمين
من ناحية أخرى، إلى كلّ من يتساءل كيف وصل بنا الوضع المالي الرديء في لبنان إلى ما نحن عليه اليوم (طبعاً خارج أطر الهدر والفساد والسياسات الاقتصادية الخاطئة والتي شبعنا من سردها)، إليكم تفسير علمي مبسّط لجانب آخر ومهمّ من جذور الأزمة المالية الحالية من منطلق علمي واقتصادي بحت، ومن خلال تدقيق معمّق في حركة أبرز التدفقات المالية (الرسمية طبعاً) الخارجة من لبنان وتلك الوافدة إليه على مدى العقدين الماضيين، وتحديداً بين عامي 2003 و2019.
في التفاصيل، تبيّن لنا من خلال الأرقام الموثّقة أن التدفقات المالية الخارجة من لبنان قد بلغت حوالي 439 مليار دولار، في مقابل تدفقات وافدة إليه بقيمة 338 مليار دولار، وذلك بين عامي 2003 و2019، ما يعني أنّ التدفقات الخارجة قد تجاوزت تلك الوافدة بمقدار 100 مليار دولار خلال تلك الفترة (على أساس الأرقام الرسمية المسجّلة فقط)، وهو ما يدلّ فعلياً على عُمق الفجوة المالية التي أدّت إلى ضغوط جمّة نجم عنها استنزاف تدريجي للسيولة الموجودة داخل النظام المالي. والأهمّ أنّ تفصيل التدفقات الخارجة من لبنان (بمجموع 439 مليار دولار) يشير إلى أنّ عمليات الاستيراد استحوذت على حصة الأسد بنسبة 64% (أو 280 مليار دولار، نصفه تأتّى عن استيراد المشتقات النفطية والمواد الغذائية والسيارات)، يليها إنفاق اللبنانيين على السفر والسياحة الخارجية بنسبة 17% (أو 73 مليار دولار)، ومن ثمّ تحويلات العمّال الأجانب العاملين في لبنان إلى الخارج بنسبة 14% (أو 62 مليار دولار).
في موازاة ذلك، يشير تفصيل التدفقات الوافدة إلى لبنان (بمجموع 338 مليار دولار) أنّ الإيرادات السياحية من قبل الزوّار الأجانب إلى لبنان شكّلت نسبة 34% من المجموع (أو 114 مليار دولار)، تليها التحويلات المالية من قبل اللبنانيين المغتربين العاملين في الخارج بنسبة 30% (أو 100 مليار دولار)، ومن ثمّ الصادرات بنسبة 16% (أو 53 مليار دولار)، والاستثمارات الأجنبية المباشرة بنسبة 15% من إجمالي التدفقات الوافدة إلى لبنان (أو 51 مليار دولار). وبالتالي، في حين أنّ هنالك مسؤولية مشتركة بين مختلف العملاء الاقتصاديين (على رأسهم الدولة) حول المعضلة القائمة حالياً في البلاد، لا ينبغي أن نتجاهل حقيقة أنّ الاختلالات الاقتصادية كانت مدفوعة أيضاً بالإنفاق المُفرط لاقتصاد عاش على مدى عقود بما يفوق إمكانياته، وباللّحم الحيّ، مع حركة استيراد لافتة من السلع والخدمات في اقتصاد استهلاكي انفلاشي بامتياز، يعتمد بشكل ملحوظ على الخارج ويفتقر إلى الإنتاجية المحلية.
هل يتجّه لبنان إلى نقطة الارتطام في العام 2021؟
بعض السيناريوات المرسومة، وهي الأكثر تشاؤمية، تجزم بأنّ العام 2021 لن يكون أفضل من العام 2020، حتى أنه يمكن القول إنَّ العام 2021 سيشهد المزيد من الإنهيارات على مستوى الإقتصاد بشكل عام، ما سيؤدّي في المحصلة إلى اضطرابات سياسية وأمنية واجتماعية، وحياتية، وانهيار إضافي في سعر العملة الوطنية، كما أنّ العام المقبل سيشهد تغييرات أساسية في بنية النظام المصرفي اللبناني في ظلّ ما يحكى عن إعادة هيكلة ورسملة لهذا القطاع. من يروّج لمثل هذه السيناريوات التشاؤمية ينطلق من قناعته في فشل المسؤولين اللبنانيين في إنجاز أيّ توافق سياسي، يمكن أن يؤدّي إلى تنفيذ إصلاحات جدّية، تدفع بالمجتمع الدولي إلى تقديم الدعم للدولة اللبنانية، لتمكين الأخيرة من وقف الانهيار الاقتصادي، الذي سيساهم بشكل فعّال في تجنيب البلاد السيناريو المرعب.
في الجانب الآخر، يرى البعض أنّ العام 2021 لن يكون بالسوداوية التي يراها البعض، حتى أنَّ هذا العام قد يشهد بداية خروج لبنان من أزماته. ويدعم أصحاب السيناريو المتفائل وجهة نظره هذه، أولاً بحرص المجتمع الدولي على عدم وقوع لبنان في الفوضى، وثانياً بوعي جهات سياسية محلية بخطورة استمرار الفراغ السياسي على استقرار البلاد. وعلى أمل أن يكون العام 2021 بداية التحرّر من الأزمات العميقة التى غاص فيها في العام 2020 غير المأسوف عليه. ولكن يبقى ذلك رهن تسوية سياسية تعبّد الطريق أمام الاستقرار السياسي والأمني في لبنان، مع ضرورة تشكيل حكومة فاعلة ومنتجة تواكب عملية إطلاق برنامج إنقاذ شامل بالتعاون مع صندوق النقد الدولي من أجل إعطاء مصداقية للمساعي الإصلاحية المطروحة وتعزيز القدرة على استقطاب المساعدات المرجوّة من الخارج، في محاولة من الدولة اللبنانية للحصول على عشرة أضعاف حصة لبنان في صندوق النقد الدولي والمقدّرة بحوالي 880 مليون دولار، وهو ما يُعوَّل عليه أيضاً لتحرير جزء من مساعدات مؤتمر «سيدر» والتي تصل في الإجمال إلى حوالي 11 مليار دولار، ناهيك عن المساعدات من قبل الدول المانحة الأخرى. وبالتالي فإن ضخّ ما يوازي 20 إلى 25 مليار دولار خلال السنوات الخمس المقبلة كفيل بإحداث صدمة إيجابية تُعيد ضخّ الدمّ من جديد في شرايين الاقتصاد الوطني، ما من شأن ذلك أن يُؤمّن الاستقرار الاقتصادي المنشود والقادر على إخراج لبنان من فخّ الركود التضخمي في فترة قد لا تتجاوز العامان، وذلك بالتوازي مع استقرار مالي ونقدي من شأنه أن يوحّد أسعار الصرف عند مستويات تعكس القيمة الحقيقية لليرة اللبنانية مقابل الدولار والتي لا تتجاوز عتبة الـ6,000 ليرة لبنانية للدولار الأميركي الواحد كحدّ أقصى.
في الختام، هل سيكون لبنان قادراً على فرملة السقوط الحرّ لاقتصاده الوطني بمظلّة دعم خارجي وبالتالي تفادي الارتطام العنيف في قعر أزماته؟ الأيام الآتية تبقى كفيلة لإظهار التصوّر المحتمل للمرحلة المقبلة في لبنان.
*خبير وباحث في شؤون الاقتصاد السياسي