سورية عنوان التوازنات الجديدة
د. وفيق ابراهيم
تؤدي سورية دوراً متسارعاً في بناء التوازنات الدولية الجديدة، المبنية على تعدّد المحاور، انطلاقاً من تضافر عوامل شتى تصبّ في خانة تقييد «الأحادية الأميركية»، وإعلان انتصار نظام الرئيس بشار الأسد على مناوئيه.
ففيما كان المراقبون يعتقدون بقرب هجوم الجيش السوري على مواقع الإرهاب في منطقة حلب، فوجئوا بهجومه الكاسح على الجهات الأكثر سخونة وتعقيداً في الأزمة السورية، أي المناطق القريبة من «إسرائيل» حيث تنتشر قوات لـ«النصرة» و«داعش» بتغطية من العدو الصهيوني.
وهكذا أسقط الجيش السوري، بمعونة حلفائه، «فزاعة إسرائيل»، معلناً استعداده لكلّ أنواع النزال، مواصلاً تحرير القرى والبلدات وسط ذهول أربك «الإسرائيليين» وجمّد دورهم إلى حين، لأنّ «إسرائيل» أصبحت تعرف أنّ اعتداءاتها العسكرية قد تؤدي إلى فتح جبهات عربية في لبنان وغزة والجولان، وربما فلسطين المحتلة والضفة. وهذه ليست مجرد تهديدات لفظية، فقد سمعت «إسرائيل» من «القسام» و«الجهاد» كلاماً مماثلاً، ورأت ماذا حدث في الضفة الغربية مؤخراً، أما جبهة لبنان فذاقت لوعتها في 2000 و2006. واستناداً إلى تقارير غربية، تصرّ واشنطن على منع تل أبيب من الهجمات المباشرة لأنها قد تؤدي إلى تأليب العالم العربي ضدّها، وبالتالي انهيار المشروع الأميركي المركز على الفتن المذهبية.
المؤشر الثاني، هو دور حزب الله الذي أعلن استعداده للقتال على الجبهتين السورية واللبنانية، أما إيران فيسجل لها دعمها لحركات المقاومة في المنطقة، وللجبهات المعادية للسياسة الأميركية، فدورها في دعم الحوثيين واضح لكنه يندرج في إطار «المستحبّات» لأنه يستهدف نظاماً يمنياً حجرياً. ويلجم هذا الانتصار الحوثي الدور السعودي التدميري في دعم الإرهاب «الإسلاموي» في سورية والعراق والبحرين. إنها لعبة توازنات تفرض على آل سعود مراجعة حساباتهم. فسورية مركز الحدث وبناء هذه التوازنات الجديدة، ولا يمكن تجاهل موضوع الملف النووي الإيراني وعلاقته بالأزمة السورية، فطهران ليست على استعداد لأي مقاولة في هذا الخصوص، ولو أرادت لانتهى ملفها النووي منذ عدة سنوات، لكنها تعرف أنّ نظام الرئيس الأسد له عدة مميزات:
أولاً: أنه نظام شعبي يستند إلى قاعدة عريضة. فلا يمكن لنظام أن يقاتل أربع سنوات نحو 90 دولة وينتصر إلا بالدعم الجماهيري. وهذه حالة نظام الأسد.
ثانياً: هو النظام الوحيد المقاوم الذي يواصل تأييد المقاومات منذ عصر الرئيس الراحل حافظ الأسد، من العراق إلى فلسطين ولبنان وإيران أيضاً.
ثالثاً: أنه يمتلك جيشاً متماسكاً له عقيدة قتال وطنية واضحة، لولاها لما صمد هذا الجيش في وجه مئات آلاف الإرهابيين.
رابعاً: أنّ النظام السوري دعم المقاومة اللبنانية حتى أصبح يشكل معها ثنائياً عربياً يمنع سقوط الشرق الأوسط في السلة «الإسرائيلية».
لمجمل هذه الأسباب، لم تتورع طهران عن إعلان استعدادها للقتال إلى جانب الجيش في سورية، وليس في مضيق هرمز، وهكذا تبقى سورية عنواناً للتوازنات الجديدة حتى في عملية مزارع شبعا التي لقن فيها حزب الله «إسرائيل» فنوناً في القتال العسكري المكشوف.
كذلك لا يمكن نسيان الدور الروسي الذي يؤكد، بدوره، على محورية سورية. فموسكو الحريصة على العودة إلى المسرح الدولي تعتبر سورية «المقابل» الموضوعي لبحر آزوف، ولا يمكن من دونها بناء استراتيجيات لمواجهة الغطرسة الأميركية والتفرّد في إدارة العالم.
لذلك بنت موسكو سياسة موزعة على أوروبا الشرقية، على قاعدة التصدي في الملف الأوكراني وصولاً إلى الحلول العسكرية التي تثير الذعر في أوروبا.
الجبهة الثانية، هي أميركا الجنوبية حيث يزداد عدد المتضررين من عنجهية واشنطن في الأرجنتين والبرازيل وفنزويلا ودول أخرى. وترتبط معظم هذه الدول بمعاهدات ذات طابع اقتصادي وتجاري مع روسيا، وتدين الإرهاب في سورية داعية إلى حلول سياسية.
أما الجبهة الثالثة، فهي أوروبا الغربية، وقد أفهمتها موسكو أنّ واشنطن تريد إثارة الحروب على أراضيها فقط، ما يتسبب بأضرار أوروبية حصراً. ويبدو أنّ آثار المقاطعة الغربية لروسيا، أصبحت تشكل عبئاً على الاقتصادات في أوروبا الغربية التي بدأت تمنى بخسائر في قطاعاتها الزراعية، بعد أن كانت تصدر منتوجاتها إلى روسيا.
وبالسؤال عن أسباب تدهور علاقات الغرب مع روسيا، نرى أنّ الجواب موجود في تأييد موسكو لنظام الرئيس بشار الأسد. لذلك لا نخطئ عندما نقول إنّ روسيا هي مركز التوازنات الدولية الجديدة. فلو لم تكن دمشق مهمّة على هذا المستوى، لما استحقت اهتماماً كبيراً من إيران وروسيا معاً.
وتدخر موسكو للشرق الأوسط الجزء الأكبر من حركتها الاستراتيحية، لأنّ «الجيوبوليتك» الروسي يتعاطى مع الأحداث على أساس أنّ روسيا دولة أوروبية وآسيوية وشرق أوسطية في آن معاً. وسورية هي التي تؤكد على شرق أوسطيتها، لذلك تبني موسكو علاقات عميقة مع مصر في محاولة لإعادة جذبها إلى التاريخ القريب، فتبدأ بالاقتصاد وقد تساعدها في هذا المضمار الصين ودول البريكس، فمصر ميزان، كما سورية، ولا يمكن تجاهلها.
تنكشف البراعة الروسية في نيل روسيا حقّ إقامة قاعدة جوية في قبرص لتطلّ أكثر على شرقي المتوسط، وتتوغل عميقاً في اليونان السياسية استناداً إلى رفض أثينا الهيمنة الغربية، إضافة إلى أرثوذكسية عميقة تربطهما.
إنّ عصر الانفكاك من الأحادية الأميركية قد بدأ. ويقول الخبراء إنّ عودة الدول إلى مواقعها الأساسية ستؤدي إلى انهيار الأمبراطورية الأميركية الثنائية التي أنشئت عام 1990.
فهل انطلق عصر المحاور؟ معركة سورية هي المؤشر انتظروا نتائجها لتعلنوا انكماش التسلط الأميركي على العالم وبدء عصر المحاور المتوازنة.