موازنة 2021… عدم اليقين والمهمّة المستحيلة
د. واجب علي قانصو*
أبصر مشروع موازنة العام 2021 النور بعد خمسة أشهر على انتهاء المهلة القانونية لإحالته إلى الحكومة بسبب استقالتها، ويبدو المشروع وكأنه «جواز سفر» ممهوراً بطلب تأشيرة دخول إلى «كيان» المجتمع الدولي، فاتحاً ذراعيه، متوسّلاً إليه، ومُردِّداً على مسمعه: «نجدّد العهد والتأكيد على إفلاسنا وعدم قدرتنا على تحديد رؤية واضحة للنهوض، لدينا ما يُشغلنا من مناكفات وصراعات سياسية لا تمنحنا الوقت الكافي للتفكير مليّاً بخطة إنقاذ وكيفية تحديد الأولويات، جوع الناس وهمومهم لا يعنينا حاضراً وربما مستقبلاً، فتعالوا وصيغوا لنا ما تشاؤون من خطط ونحن في خدمتكم للتنفيذ».
ولا شكّ أنّ هذا المشروع يأتي في ظلّ جائحة كورونا وما فرضته على الاقتصاد العالمي من آفاق نمو ضعيفة وانكماش اقتصادي وانعكاسات سلبية على إنتاجية المؤسسات وارتفاع في نسب البطالة وما يكتنف ذلك من قدر هائل غير معتاد من «عدم اليقين» الذي بلغ مقياسه عالمياً مستويات غير مسبوقة وما زال، والذي يشير إلى المناخ السائد فيه عدم الدّراية أو قلّة الدّراية بالوضع المستقبلي للإقتصاد. ولم يكن لبنان بمعزل عن آثار هذه الأزمة وعدم يقينها على ضفاف الاقتصاد والمالية العامة. ولا شكّ أنَّ هناك صعوبة في تحديد اتجاه العلاقة السببيّة بين «عدم اليقين» والدورة الاقتصادية. هل يؤدّي «عدم اليقين» إلى فترات الرُّكود أم أنّ فترات الرُّكود هي التي تؤدّي إلى «عدم اليقين»؟ ورغم صعوبة التوصّل إلى جواب مؤكّد عن هذا التساؤل، فإنّ النظريات الاقتصادية تشير إلى أنّ هناك قنوات واضحة يُمكن لأجواء «عدم اليقين» أن تؤثّر من خلالها تأثيراً سلبياً على النشاط الإقتصادي، ويرى العديد من الخبراء بأنّ «أجواء عدم اليقين المحيطة بسياسة المالية العامة تُقيِّد وتيرة التعافي الاقتصادي».
وتحت وطأة هذا الجوّ القاتم، لا تُعفَى أبداً الحكومات من دورها في الاعتناء بالاستقرار المالي والاستدامة المالية، خاصة أنّ معاناتنا تعود إلى سنوات عدة ما قبل جائحة كورونا، من خلال الحفاظ على الانضباط المالي وتنظيم أولويات الانفاق ووضع موازنة عامة التي تعتبر وفقاً للمادة الثالثة من قانون المحاسبة العمومية بأنها »صكّ تشريعي تُقدَّر فيه نفقات الدولة ووارداتها عن سنة مقبلة وتُجاز بموجبه الجباية والإنفاق». أضف إلى ذلك، بأنها يجب أن تكون أداة للمراجعة والمساءلة لخلق اقتصاد صلب يحقق التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية.
ووفقاً لمشروع الموازنة للعام 2021، التي لا تعبّر أرقامه عن الواقع بحيث تمّ الإحتساب على أساس سعر الصرف الرسمي، في وقت فقدت فيه الليرة اللبنانية حوالي 80% من قيمتها الشرائية، بلغت النفقات نحو 18 ألف مليار ليرة لحظت من ضمنها 200 مليار لمواجهة وباء كورونا، 150 مليار لمساعدة الأُسر الأكثر فقراً، 100مليار لتعويض الأُسر المتضرّرة من انفجار مرفأ بيروت، و300 مليار لمساعدة المستشفيات وتغطية فروقات سعر الصرف، من دون أن تلحظ الموازنة الديون المستحقة بالدولار (اليوروبوندز) والتي قرّرت الحكومة اللبنانية الامتناع عن سدادها، وكان من الأجدى بدء التفاوض مع الدائنين وإرفاق المشروع بجدول واضح حول كيفية إعادة هيكلة تسديد هذه الديون، لنستعيد، على الأقلّ، فُتات «ثقة» المجتمع الدولي بنا! وفي حال أردنا التسديد، ما هو سعر الصرف الذي سيُعتمد؟ طبعاً، لن يكون عندئذ على سعر 1515.
أما بالنسبة للإيرادات، فقد وجد المشروع بعض الزوايا التي يُحقِّق من خلالها بعض المداخيل ولو كانت برأينا قصيرة المدى، فقد قُدِّرت بحوالي 14 ألف مليار ليرة وهي أعلى من الإيرادات الُمقدَّرة في موازنة العام 2020 والتي كانت بنحو 13 ألف مليار وذلك لأسباب عدّة أبرزها بأنّ وزارة المال فرضت على الشركات تسديد الضريبة على القيمة المضافة للبضائع المسعَّرة بالدولار كما بيعت للمستهلك أيّ حسب سعر السوق، أَوَ لا يُعتَبر ذلك تشجيعاً للسوق السوداء في الظروف الحالية؟ كما أخضع المشروع في المادة 36 فوائد وعائدات وإيرادات الحسابات الدائنة بما فيها حسابات التوفير وفوائد وعائدات الودائع لغير المقيمين، وحسابات الإئتمان وإدارة الأموال وشهادات الإيداع وسندات الدين وسندات الخزينة لضريبة 30% على الجزء الذي يتجاوز 3% على الحسابات بالعملات الأجنبية و5% على الحسابات بالليرة اللبنانية. إضافة إلى المادة 37 وما سُمِّي بضريبة «التضامن الوطني» على قيمة كلّ حساب دائن مفتوح لدى المصارف العاملة والذي تزيد قيمته عن المليون دولار وفقاً لشطور معينة، وقد طرحها البنك الدولي كبديل عن «الهيركات» وكأداة لمعالجة الخسائر في النظام المالي والمصرفي كي يتسنّى لأصحاب رؤوس الأموال الكبيرة المشاركة في بعض الأعباء التي تترتب على الدولة لإعطائها لذوي الدخل المحدود،
وقد كنَّا نتمنى، في ما خصّ النظام الضريبي، ومن باب العدالة الإجتماعية، أن يُطرح مبدأ اعتماد الضريبة التصاعدية وهي قاعدة ضريبية مُطبَّقة في أغلب دول العالم لتحقيق المساواة بين فئات المجتمع بحيث أنّ أصحاب المداخيل العالية يتحمّلون عبئاً أكبر من أصحاب المداخيل المتدنية، مما يؤدّي إلى إعادة توزيع الدخل والثروة وعدم احتكارها من فئة قليلة من أفراد المجتمع.
وعليه، وإذا ما أضفنا السلفة المعطاة للمؤسسة «المعجزة» كهرباء لبنان بقمية 1500 مليار ليرة، يبلغ العجز حوالي 5600 مليار، وإذا اعتبرنا أنّ الناتج المحلي عن العام 2021 يُقدَّر بحوالي 18 مليار دولار أيّ ما يوازي 27 تريليون ليرة لبنانية (حسب سعر الصرف الرسمي)، مما يعني بأنّ الموازنة ستشكل بذلك حوالي 66% من إجمالي الناتج المحلي، أيّ أنّ الدولة بكلّ نفقاتها وإيراداتها تشكل 66% من حجم الاقتصاد اللبناني مقارنة مع 32% في العام 2018، وهذا إنْ دلَّ على شيء، فهو على رقم متضخم يشير إلى الإفلاس.
إنّ أخطر ما طُرح في مشروع الموازنة اجتماعياً، وفي هذه الظروف الصعبة، «اللاموضوعية» في ما تضمّنته المادة 93 التي لم تذكر المتقاعدين في اعتماد توحيد منح التعليم في القطاع العام، والمادة 99 التي تجمّد طلبات الإحالة على التقاعد لمدة ثلاث سنوات، والمادة 105 حول خفض الاستفادة الصحية لموظفي الفئة الثالثة من خدمات الإستشفاء على أساس الدرجة الثانية عوضاً عن الدرجة الأولى بحجَّة أن الإستشفاء في الدرجة الأولى بدءاً من الفئة الثالثة يرتِّب على الخزينة العامة مبالغ طائلة لا يمكنها الاستمرار بدفعها في ظلّ الأزمة المالية الحالية التي يعاني منها لبنان، والمادة 106 التي عرضت حرمان الموظف الجديد في الإدارة العامة وبعد إقرار الموازنة من المعاش التقاعدي واستبداله بتعويض صرف وفقاً لأنظمة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وهنا يكمن التناقض في التبرير حسب المشروع المقترح بأنّ معظم الدول المتقدمة تعتمد نظاماً موحداً للحماية الإجتماعية وفي مقدمتها نظام الشيخوخة والنظام التقاعدي حيث يكون جميع العاملين في القطاعين العام والخاص خاضعين لنظام موحد يؤمّن لهم التغطية الصحية والاجتماعية وبالتالي يجب البدء تدريجياً بتعديل التشريعات المختلفة من أجل توحيدها وجعلها أكثر عدالة. لماذا دائماً تحميل الفقراء مسؤولية التدهور الاقتصادي والمالي؟ وهل أصبح استشفاء الفئة الثالثة، من موظفين وأساتذة وعسكريين، ورواتبهم التي لا تساوي شيئاً مع ارتفاع سعر الصرف، يشكِّل عبئاً على الخزينة اللبنانية؟ هل استُشيرت الفئات المعنية؟ ولماذا الفئة الثالثة بالذات؟ أين الأرقام والإحصاءات التي تبيّن «الكلفة العالية» وما يُوفِّره هكذا طرح على الخزينة؟ وهل ستكون هذه الوفرة أكثر مما تُكبِّده قنوات الهدر والفساد، والمخالفات في عشرات الآلاف من الأمتار المربعة من الأملاك البحرية، والجمارك وغيرها… من خسائر على الخزينة؟ أوَليس من المنطق والحكمة إقرار نظام الشيخوخة قبل عرض هذه «الأفكار السوداء» التي ستطيح بالقطاع العام بالضربة القاضية، وتزيد الفقير حرماناً، والجوعان جوعاً.
والسؤال المقلق أيضاً، ما هي الأسس والمعايير التي اعتُمدت لكلّ هذه الإعفاءات الضريبية الواردة، من إعفاء الشركات الناشئة (Start Up) من ضريبة الدخل على الأرباح لمدة ثلاث سنوات وإعفاء الاستثمارات الجديدة في القطاعين السياحي والصناعي من الضريبة على الأرباح بنسبة 75% عن الثلاث سنوات المقبلة لتشجيعها، والشركات والمؤسسات الصناعية والتجارية من الضريبة على الأرباح لمدة عشر سنوات من أجل التحفيز على إنشاء شركات ومؤسسات في المناطق التي ترغب الحكومة بتنميتها، وإعادة تقييم استثنائية للأصول الثابتة لتصحيح آثار التضخم النقدي الناتج عن التغيير في قيم تلك الأصول، والإعفاء من رسم الطابع المالي تشجيعا للمواطنين لإنشاء مؤسسات وشركات جديدة والاستمرار بالعمل في المؤسسات والشركات القائمة، واستثناء بيع الأراضي من ضريبة القيمة المضافة، إلى تمديد قانون ضريبة الأراضي حتى نهاية العام 2022، وإعفاء فوائد الودائع الجديدة بالعملات الأجنبية لدى المصارف من الضريبة لمدة ثلاث سنوات تشجيعاً لإيداع ودائع أجنبية لدى المصارف العاملة في لبنان نقداً أو من خلال تحويل مصرفي من أحد المصارف العاملة خارج لبنان، ولكن ماذا عن الودائع المحجوزة في المصارف؟ وهل تكفي هذه الإعفاءات حتى لو كانت تحت راية تحفيز المؤسسات ودعمها للخروج من الأزمة؟ أوَليست بحاجة إلى بنى تحتية كالكهرباء والاتصالات والتي تبقى عائقاً أمام القدرة التنافسية في لبنان؟ هل هناك أيّ دراسة وافية عن وضع الشركات الحالية وإنتاجيتها ومساهمتها في النمو؟ وكيف نعادل ما بين الشركات الكبيرة التي تحتكر السوق وتحرم الناس اليوم من أبسط احتياجاتهم لتحقيق الأرباح وما بين الشركات المتوسطة والصغيرة الحجم؟ وعلى سبيل المثال، نعلم تماماً مساهمة اقتصاد المعرفة في إجمالي الناتج المحلي في لبنان نظراً لدورها في الاقتصاد قبل الأزمة، ولكن منذ نهاية 2019، ازدادت أعداد الشركات الناشئة التي أفلست أو تصارع للصمود خاصة أنّ نسبة كبيرة من الرأسمال البشري توجَّه نحو الهجرة، وهل نتجاهل أثر اتفاقيات التطبيع ما بين بعض الدول الخليجية والعدو «الإسرائيلي» على مستقبل اقتصاد المعرفة في لبنان؟ لذا كان من الأفضل التمعُّن أكثر باقتراحات كهذه وعدم تسويقها بطريقة عشوائية من دون إبراز تداعياتها على الخزينة العامة.
موازنة 2021 كأخواتها… موازنة أرقام محاسبيَّة متمِّمة للواجبات الدستورية في حكومة تصريف الأعمال الضيّقة، لربما لانتظام المالية العامة والتوقف عن الدفع وفقاً للقاعدة الإثني عشرية بالرغم من «إعتكاف» قطع الحساب للعام 2020 الغائب عن النظر والسَّمع، ولم تقدّم حلولاً جذرية حول مسائل هامة ككيفية إعادة هيكلة القطاع المالي، وبناء الثقة والإستقرار في أسعار الصرف، والإصلاحات المعزّزة للنموّ، وبناء بيئة أعمال أفضل، وتخفيض نسبة الفقر… لذلك لن تكون السبيل لعبور الآلاف من الأميال نحو الثقة الدولية كونها لم ترتبط باستراتيجية وطنية إصلاحية شاملة للإستقرار المالي وذلك ضمن إطار، أقلّه، متوسط الأجل للإقتصاد الكلي والمالية العامة.
إنها حقّاً «موازنة عدم اليقين والمهمة المستحيلة» في بلد صار فيه الحلم متعذراً لنصعد من الهاوية ونتعافى من الركود العميق ونكون كالمعماريين الأكفّاء لبناء اقتصاد وطني متين مبنيّ حسب المبادئ الثلاثة التي اقترحها المعماري الروماني فيتروفيوس: المتانة أيّ الصمود والإحتفاظ بالحالة الجيدة، المنفعة أيّ أن يكون نافعاً للمواطنين والجمال أيّ أن يُسرّ المواطنين ويبعث البهجة في نفوسهم، إلا أنّ الإرادة غير متوفرة حالياً.
*عضو مجلس إدارة هيئة الأسواق المالية